أطفالنا والقراءة
أطفالنا والقراءة
2020/11/29
فريد الخمال | كاتب وقاصّ ومدرّس من المغرب

 

تعتبر القراءة في مرحلة الطفولة من أهم أدوات تحصيل المعرفة، وأحد أسباب نمو القُدرة التعبيرية، وعاملًا مهمًا لزيادة الثروة اللفظيَّة، كما أن لها تأثيرًا في تكوين الشخصية، كونها وسيلة اتصال وتعلّم ذاتيّ، وتشبع في الأطفال حب المعرفة والاستطلاع، وتغرس في نفوسهم القيم والأخلاق، وتنمّي لديهم الإحساس بالجمال، بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة تسلية ممتعة.

رغم هذه المميّزات العديدة إلى أن هناك عزوفًا مهولًا عن القراءة، وذلك راجع إلى المفاهيم المبكّرة التي قدمتها الأسرة للطفل في سنواته الأولى. فإذا كان كلّ علم لا يصح بناؤه إلا بمفاهيم تحفظ أسسه، فكذلك فعل القراءة، فوصفنا له بأنه مجرّد هواية، نخصّص ما فضُلَ من الوقت له، أضاع عنه الكثير والكثير.

فالهواية لا نمارسها إلا في أوقات الفراغ، فإذا أوصلنا للطفل أن فعل القراءة هواية لا أقلَّ ولا أكثر، سيتعامل مع فعل القراءة، كتعامله مع أيّ هواية أخرى، لا يلتجئ إليها إلا في وقت فراغه. في حين إذا غيرنا هذا التصور وقدمنا له القراءة على أنها ضرورة كالأكل والشرب والنوم وغيرها من الضروريّات اليوميّة، حينها سنكون أمام نتائج مختلفة. سيعي الطفل ضرورة القراءة وسيجد لها وقتًا كما يجد للأكل والنوم، فيجعلها ضمن أولويّاته.

 

إن إرساء التصور أو المفهوم أول ما يجب أن نبدأ به، ولكنّه غير كاف، فبناء المفهوم كغرس البذرة، لا بد أن تأتي بعد الغرس مرحلة السقي. فالبذرة إذا لم نتعهّدها بالسقي، لن تنبت أو تكبر. وهنا ننتقل إلى مرحلة أخرى، ألا وهي القدوة. قد يقول البعض إنَّ التربية بالقدوة غير مُجدية... لكن التجربة الحياتيّة تثبت العكس، وهذا ما نلاحظه في العديد من العائلات، فهناك ما يسمى بالرسائل الصامتة، بمعنى ما يراه الطفل منّا يظهر على أفعاله، سواء بشكل علنيّ أو سريّ، وهنا يجب استثمار هذا الأمر من خلال القدوة، فلا يعقل أن نقول له إن القراءة فعل ضروريّ ونحن لا نقرأ قصة ولم نفتح  أمامه كتابًا.

إن الرسائل الصامتة أبلغ من العديد من المحاضرات والأوامر التي قد لا تلقى آذانًا صاغية، فأخذ كتاب وتقليب صفحاته أعظم من النصائح التي ستقدمها له عن أهمية القراءة. وهذا الأمر لا يتوقف على الأسر المتعلّمة فقط، بل يشمل أيضًا الأسر غير المتعلّمة، إذ يمكنها أن تستفيد من ساعات قراءة ابنها من خلال الجلوس معه والاستماع له وهو يقرأ، فيُفيد ويستفيد. وهنا أذكر قصة لأمّ جاءت تتفقّد مستوى ابنها في الفصل الدراسيّ، وقالت بالحرف: "أنا أمِّية ورغم ذلك أُجلس ابني بالقرب مني وأطلب منه أن يقرأ ويُسمعني..". فقول هذه السيدة يلخّص الكثير من الكلام. والقصص في هذا الموضوع كثيرة وعديدة. فالتربية بالقدوة لها دور مهم جدًا في المرحلة التي أسميناها: السقي والعناية.

 

يمكن هنا أن نضيف مدعِّما آخر، ألا هو حثّ الطفل على شراء الكتب وتهيئة مكان خاص بها، وجعله مسؤولًا عنها. مع الحرص على جعل قراءته متنوعة. ليس مُهمًّا حجم المكان بقدر أهمية ما سيخلِّفه هذا الفعل من آثر. فمرحلة السقي مرحلة مهمة، وطريقة السقي أهم، وكلما تميزت بابتكار ستكون أفضل وأنفع. فعندما يكون للطفل مكان يهرع إليه ويحسّ أن فيه أشياء تخصُّه، سيسعى إلى تطويره وإضافة الكتب إليه. إن هذا الأمر لن يكلف ميزانيّة ضخمة، والأسر غير مطالبة بابتكار أماكن كبيرة ومكلِّفة، فالأهم رمزيّة المكان وآثره على نفسية الطفل. وفي هذا الصدد يمكن البحث في الإنترنت عن أفكار لمكتبات يمكن تصميمها من أشياء متاحة في كل منزل.

في مرحلة السقي لا مانع من بعض السّماد كي نحصل على نتائج مثمرة. وذلك من خلال تقديم هدايا؛ كالكتب، سواء من أجل القراءة أو كمكافأة بعد انتهاء الطفل من مطالعة كتاب أو مجموعة من القصص.

 

إذا غرسنا البذرة من خلال بناء المفهوم أو التصور الصحيح، وتعهّدناها بالسقي، سنكون أمام جني الثمار، وهي المرحلة الثالثة والأخيرة. في هذه المرحلة سنرى القراءة تنعكس على سلوكياته وإدراكه ومستواه اللغويّ والذهني وغيرها من الجوانب... وهنا ينبغي التنبيه لأمر مهم جدًا وهو عدم استعجال جني الثمار، والسقوط في مقارنة الطفل بغيره، لأن كلَّ شخص له مميزات تختلف عن غيره، حتى إن لم نلحظها. ويجب ألّا يدفعنا عدم ظهور أو تأخر الثمار أن نتقاعس وننهال على الطفل بالقدح. بل على العكس من ذلك يجب أن نراجع تصرفاتنا وأن ندعم طفلنا ونشجعه، ولا نستعجل الثمار كي نتجنب السقوط في لوم الطفل، وشحنه أكثر من اللازم، من خلال التشديد على القراءة وحرمانه من أوقات اللعب والراحة... القراءة، القراءة ولا شيء غيرها.. بذلك نكون قد عبثنا بما فعلناه من قبل، سواء بقصد أو عن غير قصد، فنحطّم شخصيّة الطفل، ةتكون العواقب وخيمة إن استمر في القراءة.

 

في معاملاتنا مع الناشئة يجب أن نراعي العديد من الجوانب، فنحن نتعامل مع كيان وليس آلة، وبدل أن نأخذ سياط اللوم ونجلدهم بها، ونفقدهم الثقة بأنفسهم وقدراتهم، لمَ لا يكون الوقت فرصة سانحة لمراجعة تصرفاتنا؟ ولمَ لا نأخذ تلك السياط ونجلد أنفسنا فقد يكون التقصير منّا؟

 

القراءة كما يصفها ألبرتو مانغويل "مفتاح فهم العالم". بها تتسع المدارك ويحسُن الفهم. وإذا ما سهرنا على تأطير الطفل بما يتناسب وقدراته، كنّا في الغد أمام قارئ نهم منفتح مكتشف للعالم من حوله. وهذا ما ضمّنه مانغويل في نصيحته الفريدة: "اقرأ كي تحيا"، فالقراءة حياة.