أثر الديكتاتوريّة في قيادة المدرسة وحياة مديري المدارس: نموذج من تشيلي
أثر الديكتاتوريّة في قيادة المدرسة وحياة مديري المدارس: نموذج من تشيلي
سيرجيو جالدامز | عالم نفس وباحث - تشيلي
فابيان كامبوس | مدرّس تاريخ - تشيلي

مقدّمة

يرمي هذا المقال إلى فتح باب النقاش التربويّ والمجتمعيّ حول ترابط وثيق بين قيادة التعليم والظروف السياسيّة في مجتمع ما، ويطرح أسئلة مغيّبة في أدبيّات القيادة التربويّة العربيّة حول التجربة الفرديّة والجماعيّة لهذه الفئة المؤثّرة، ودور النظام السياسيّ في تشكّل الدور التربويّ والاجتماعيّ لقادة المدارس.  يستعرض المقال تحديدًا تغيّرات النظام السياسيّ في تشيلي خلال العقود الماضية، وعلاقة هذا التغيير بدور قادة المدارس ونظرتهم لأنفسهم.

عانت تشيلي مثلُها مثل معظم دول أمريكا اللاتينيّة، ولأمد طويل، دكتاتوريّةً (1973-1990) صبغَت مُعظَم مَناحي المجتمع، بما في ذلك قطاع التعليم. ففي العقود الخمسة الماضية، شهدت تشيلي، على المستويين السياسيّ والاقتصاديّ، تطورًا، نقلها من اقتصاد يساريّ خاضع لرقابة صارمة، إلى واحدة من أكثر البلدان نيوليبراليّة في العالم. وعلى الرغم من تنامي التوجّه نحو فهم التعليم والقيادة المدرسيّة في مجتمعات ما بعد الصراع (Wanjiru, 2019)، فلا نزال نجهل الكثير عن تأثير ديكتاتوريّة أمريكا اللاتينيّة في الحياة المهنيّة لقادة المدارس.

تهدف هذه المقالة إلى المساهمة في إثراء المعرفة حول القيادة المدرسيّة، والإشارة إلى بعض السمات الرئيسة لتطوّر معنى القيادة في بلد يعيش سياق ما بعد الصراع. وارتأينا من خلال اعتماد إطار نظريّ تأويليّ (Creswell, 2014)، والاستفادة بشكل أساسيّ من مقابلات شخصيّة مع قادة المدارس الحاليّين والسابقين، تصوير مسار القادة التشيليّين على مدى العقود الخمسة الماضية. ونظّمنا البيانات في ثلاث مجموعات حسب الفترات التاريخيّة الثلاث الحاسمة: فترة الديمقراطيّة (قبل عام 1973)، وفترة الديكتاتوريّة (1973-1990)، وفترة الديمقراطيّة (بعد عام 1990).

 

معلومات عامّة عن تشيلي

تقع تشيلي في جنوب غرب أمريكا اللاتينيّة، وهي واحدة من أطول دول العالم (4270 كم) وأضيقها (177 كم). تستغرق الرحلة بالسيّارة من الشمال إلى الجنوب أيّامًا، والمسافة بينهما مساوية تقريبًا للمسافة بين قطر والنمسا. يُدار التّعليم مركزيًّا من وزارة التربية والتعليم، التي ترأس ما يقرب من 11500 مدرسة. أمّا التعليم المدرسيّ فمختلط، إذ تعمل، جنبًا إلى جنب، وبصورة أساسيّة، ثلاثة أنظمة تنافسيّة: عامّ ويحظى بتمويل كامل من الدولة وتُديره الحكومات المحلّيّة، وشبه خاصّ وهو مدعوم جزئيًّا من الدولة والآباء، ويديره القطاع الخاصّ، وخاصّ وهو ذو تمويل كامل من الآباء، ويُدار أيضًا ذاتيًّا.

 

أوّلًا- قبل الديكتاتوريّة: إلى حدود عام 1973

ركّزت السياسات العامّة، قبل عام 1973، على بناء المدارس وتدريب المعلّمين، لا سيّما في مناطق الريف النائية. ورحّبت مختلف الأوساط في أنحاء تشيلي كلّها، بإنشاء المدارس، لما يرونه فيها من تقدّم ونماء. فهي لم تُوفّر التعليم فحسب، بل وفّرت أيضًا الخدمات الأساسيّة مثل مياه الشرب، والكهرباء، والرعاية الصحّيّة. ولم يساير الانتشار السريع للمدارس وتيرة تكوين المعلّمين، وكان يُنظر إليهم على أنّهم مورد نادر ذو قيمة عالية، ولا يغطّي الطلب. أمّا مديرو المدارس فبوّأتهم الأوساط المحلّيّة مكانة مماثلة، إن لم تكن أفضل من المعلّمين. ولم يكن ثمّة تعيين رسميّ أو استراتيجيّات معمول بها للانتقاء، لأنّ مجرّد نيل شهادة جامعيّة كان كافيًا للتميّز. أمّا تنصيب مدير المدرسة من السلطات المحلّيّة، فارتكز على أساس معايير ذاتيّة مختلفة.

تخرّجتُ قبل أيّام قليلة فقط. أوصاني والدي أن أتقدّم بطلب إلى مدرسة افتُتحت حديثًا بالقرب من منزلنا، فقط للتدريب. دخلت المدرسة متأبّطًا سيرتي الذاتيّة. قابلت شخصًا مسؤولًا لمدّة لا تزيد على عشر دقائق. وعلى الرغم من أنّني كنت أتقدّم لوظيفة مُدرّس ابتدائيّ، فقد عُرضت عليّ قيادة المدرسة (آيدن).

معظم الأشخاص الذين بدأوا العمل خلال هذه الفترة يتقاسمون تجربة آيدن، ولديهم ذكريات عميقة ورومانسيّة عن مدرسة مرتبطة بشكل وثيق بمجتمعها. ونحن نؤكّد أنّ قادة المدارس، خلال هذه الفترة، اضطلعوا بدور مزدوج كمديرين ووسطاء مجتمعيّين. وسمات القيادة التحويليّة مثل الكاريزما والمهارات التواصليّة أمر لا بدّ منه.

 

ثانيًا - خلال الديكتاتوريّة: 1973-1989

في صباح يوم 11 أيلول/سبتمبر 1973، اقتحمت القوّات العسكريّة المشترَكة البلاد، واستولت على المدن والمؤسّسات الرئيسة. كان فالبارايسو، أكبر ميناء في تشيلي، يرزح تحت سيطرة البحريّة، بينما تعرّض القصر الحكوميّ "لا مونيدا" لغارات، تلاه هجوم الجيش. واستولت الفصائل الصغيرة على المدن والبلدات. حدثت أشياء كثيرة في ذلك اليوم. في الأشهر التالية، اتُّخذت إجراءات واسعة النطاق للتدّخل في المؤسّسات التعليميّة، بما في ذلك الجامعات والمدارس، قُتل العديد من المعلّمين، وهُدمت الجامعات أو استُولِي عليها، ما أثّر بصورة كبيرة في تخريج المعلّمين في المستقبل. وتسبّبَ تدنّي الرواتب والمكانة المهنيّة، إلى حدّ كبير، في ثني المعلّمين الطموحين عن الولوج إلى الإدارة. ولم يتبوّأ أيّ من المشاركين معنا القيادة خلال هذه الفترة التي عيَّنَت فيها الديكتاتوريّة مديري المدارس مباشرةً، وجُلّهم كانوا من الجيش أو من الأشخاص المُقرّبين من النظام. ونظرًا إلى أنّ عمليّة الاختيار هذه امتازت بالولاء أكثر من الكفاءة التعليميّة أو الإداريّة، فقد وضعت أمام المدارس، تدريجيًّا، بعض السيناريوات المقلقة، ما أجبر صانعي السياسات على استحداث منصب مساعد مدير المدرسة في عام 1978. وشغل مشاركون عديدون معنا هذا الدور خلال فترة الديكتاتوريّة.

كان مكانًا لاستكشاف وتجريب رائعين، فلم تكن هناك إرشادات أو لوائح أو دعم. وكنت ذكيّة بما يكفي كي لا أتورّط في المشكلات، لكنّ بعضًا من زملائي عوقبوا لأنهم بالغوا في الابتكار (كاريس).

كان تزعّم القيادة المدرسيّة في زمن الديكتاتوريّة أمرًا خطيرًا للمعلّمين، والقادة المتوسّطين، ومديري المدارس المساعدين. طُلب منهم إيجاد توازن بين التغيير والطاعة للمضيّ قدمًا دون رفع الأعلام من مديري المدارس والسلطات المحلّيّة. فأيّ استراتيجيّة لها ارتباط بشكل أو بآخر بالأفكار الاشتراكيّة (في أوساط التعلّم مثلًا) يمكن أن تُفهَم خطأ على أنّها خيانة. أمّا القيادة داخل المدرسة فأصبحت أمرًا شاذًّا، وتبلورت الرئاسة كموقف للطاعة وللإدارة بشكل هرميّ وطبقيّ.

 

ثالثًا - بَعد الديكتاتوريّة: التسعينيّات وما بعدها

وُضع حدّ للديكتاتوريّة، بعد سبعة عشر عامًا، عبر عمليّة تحوّل ديمقراطيّ. واندهشت الأوساط التعليميّة من سريان مفعول معظم السياسات والاستراتيجيّات التي أقرّها النظام العسكريّ. ونظرًا إلى أنّ تمويل المدارس العامّة وشبه الخاصّة يأتي من أعداد الطلّاب الملتحقين بالمدرسة، فطُلب من مديري المدارس تحويل تركيزهم نحو استراتيجيّات التسويق، وتسخير جهودهم في استقدام الطلّاب والتنافس مع المدارس الأخرى، بما في ذلك المدارس التي تنتمي إلى القطاع العامّ. بدأ عنصر المنافسة في الرئاسة في الثمانينيّات، لكنه توطّد في أواخر التسعينيّات، ولا يزال نشطًا حتّى اليوم.

إنهم [الآباء] زبائن. عليك أن تعرض عليهم مزايا هذه المدرسة مقارنة بأخرى. ومع ذلك، فإنّه يمثّل تحدّيًا، إذ لا يمكنك التركيز على القضايا التربويّة عندما تُقدّم لك المدرسة [شبه] الخاصّة المجاورة لبيتك جهاز كمبيوتر مع كل تسجيل فيها (توني).

لم يحدث أيّ تطوير للقيادة المدرسيّة قبل نهاية القرن الماضي، وأدّى نزوح قادة المدارس في عصر الدكتاتوريّة، نتيجة التقاعد الطوعيّ في المقام الأوّل، إلى فتح الباب أمام سلسلة من المبادرات المنفصلة، من ضمنها تصميم إطار عمل احترافيّ للمُدرّسين والفرق القياديّة في عام 2005، وإتاحة فرص التطوير المهنيّ للمديرين الحاليّين والطامحين منذ عام 2007، والشروع في عمليّة توظيف وتعيين موجَّهة وشفّافة واحترافيّة لقادة المدارس الجدد في عام 2011. وكان من المتوقّع تعيين قادة المدارس على أساس الجدارة للمرّة الأولى منذ عقود، مع التركيز الواضح على القيادة التعليميّة. وبناءً على هذا النظام الجديد، اختير كلّ الذين قابلناهم. وتَمثّل الاتّفاق النموذجيّ في الاعتراف بأنّ السيناريو الجديد، على الرغم من نقائصه، كان بمثابة تحوّل هائل نحو الاتّجاه الصحيح.

كنتُ معلّمة جديدة حين حدّثني مدير المدرسة عن برنامج القادة الطموحين، وشجّعني على حضوره. بصراحة، لا أستطيع تذكّر معظم المناهج الدراسيّة، أو حتّى وجوه الأساتذة المشرفين على البرنامج، لكنّي تعلّمت الكثير من زملائي. وقد أتى الناس من جميع أنحاء تشيلي (سيلينا).

تسارعت وتيرة تطوير القيادة طوال العقد الماضي، وخضعت استراتيجيّات عدّة حُدّدت مسبقًا للتجديد والتمحيص. ومع ذلك، نما الشعور بالارتباك والتفكّك خلال هذه الفترة الأخيرة، إذ أظهر البحث والممارسة، وبشكل متواتر، جملة من التحدّيات لقادة المدارس. وارتبطت صعوبات تعيين قادة المدارس والاحتفاظ بهم بالامتثال لأجندة المحاسبة، والعلاقات غير الداعمة مع السلطات المحلّيّة، ولظروف العمل السيّئة (بما في ذلك الرواتب المنخفضة).

 

خلاصة

تميّزت تشيلي بتقدّمها القياديّ في منطقة أمريكا اللاتينيّة (Flessa & Weinstein, 2018)، في هذا المقال، سلّطنا الضوء، من منظور قادة المدارس، على تطوّر الرئاسة في العقود الماضية. وكما أشار الباحثون من قبل (Wanjiru, 2019)، فإنّ مقاربة القيادة في مجتمع ما بعد-الصراع، يتطلّب دراسة الضرر الذي يُلحقه النضال السياسيّ والاجتماعيّ بالناس. وهدفنا أيضًا إلى التوسّع في هذه القضيّة، ووصف الطريقة التي أثّر فيها العنف والقسوة على القيادة وقادة المدارس، في ظلّ ديكتاتوريّة اليمين. فالتغيير المفاجئ والسلطويّ الذي يلحق بالمشهد الاجتماعيّ له عواقب وخيمة على عقليّة مديري المدارس والقادة الطموحين، وينال من معظم الجهود المبذولة لتعزيز الابتكار والتطوير، وتاليًا التغيير.

 

المراجع

 Creswell, J. (2014). Research design: qualitative, quantitative, and mixed methods approaches. SAGE

Flessa, J., & Weinstein, J. (2018). School leadership in Latin America: New research from an emerging field of study. Educational Management Administration and Leadership, 46(2), 179–18.

 Wanjiru, J. (2019). Post-conflict reconstruction: Negotiating school leadership practice for inclusive education of conflict-affected children in Kenya. Educational Management Administration & Leadership. https://journals.sagepub.com/doi/full/10.1177/1741143218817554