هل ستموت المدرسة؟ قراءة استشرافيّة لما بعد الجائحة
هل ستموت المدرسة؟ قراءة استشرافيّة لما بعد الجائحة
عادل ضيغم | أستاذ لغة فرنسية-المغرب

تحت تأثير مجتمع دائم التغيّر، تسعى المدرسة باستمرار إلى نموذج تعليميّ يتكيّف مع الاحتياجات الحقيقيّة للمتعلّمين. ولهذه الغاية طوِّرت خطط ومبادرات للإصلاح بهدف الارتقاء بالتعلّمات على المديين المتوسط والبعيد. ولكن الظهور المفاجئ لجائحة كورونا زعزع العديد من القناعات، وأثار التساؤل عن الأدوار والمهمّات المستقبليّة للمدرسة، لدرجة أنّنا صرنا نستفسر عن النمط التعليميّ الذي سيسود بعد هذه الأزمة الصحيّة العالميّة. فكيف يا ترى ستبدو عليه المدرسة ما بعد الوباء؟ وهو سؤال مشروع ينطوي على راهنيّة واستعجال، ويستفزّ الباحثين والسياسيّين على السواء، كما يتطلّب معالجةً مركّبةً من حيث تبنّي مقاربة شاملة تستحضر ما هو تربويّ دون إغفال الأبعاد الصحيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. وتبعًا لذلك سنعمل في هذا المقال على وضع تصوّر لمدرسة ما بعد الوباء من خلال رؤية استشرافيّة تتمثّل في معرفة الماضي لفهم الحاضر وتوقّع المستقبل، كما قال Tarby في كتابه المعنون بالعبارة نفسها.

لهذا الغرض، سنشرع في تقديم لمحة تاريخيّة عن سابقة فيروسيّة وهي الإنفلونزا الإسبانيّة، قبل أن نصل إلى رؤية مستقبليّة للمدرسة بعيد انتهاء الآفة، وننتهي أخيرًا باستعراض قيم مدرسة ما بعد الجائحة.

 

معرفة الماضي لفهم الحاضر

بحثًا عن جائحة فيروسيّة تشبه الكورونا، بغرض استخلاص الدروس الكفيلة بمساعدتنا على الحدّ من أيّ ضرر محتمل على الميدان التربويّ، والتصرّف بمعرفة كاملة بالأسباب والنتائج والإكراهات، تبدو الأنفلونزا الإسبانيّة في مقاربتنا منطويةً على قيمة مرجعيّة، كونها تشكّل مقارنًا موثوقًا يقدّم خصائص قريبةً من الكورونا من ناحية الأعراض المرضيّة، والتدابير الوقائيّة التي اعتمدتها العديد من البلدان، لذلك يمكن توقّع دورة تطوّر مشابهة لدورة الإنفلونزا الإسبانيّة.

بدأت الإنفلونزا الإسبانيّة عام 1917 في الصين أو فرنسا. ثمّ جاءت الموجة الأولى في أوائل العام 1918. وكانت الموجة الثانية التي بدأت في سبتمبر 1919 مميتةً للغاية. في حين أنّ بداية العام الموالي عرفت ظهور الموجة الثالثة والنهاية الاجتماعيّة للمرض، وليست النهاية الطبّيّة، فلم يُقضَ على الفيروس بالكامل، لكن الناجين اكتسبوا مناعةً لمقاومته.

بافتراض أنّ الفيروس التاجيّ سيأخذ المنحى نفسه، فنحن ما زلنا في الموجة الأولى، وما زال ثمّة موجة ثانية بل وثالثة. خلال العامين المقبلين، طالما أنّنا لم يتوفّر لنا لقاح فعّال حتّى الآن، فقد يكون لهذه المدّة الزمنيّة عواقب وخيمة على المجتمع. كما قد يؤدّي الركود الاقتصاديّ إلى مراجعة سلّم أولويّات الحكومات التي قد تكون أقلّ اهتمامًا بالمستلزمات الاجتماعيّة قدر اهتمامها بالحاجة الملحّة لضمان بقاء الدولة في أشكالها الأساسيّة.

في المستقبل المنظور​​، ستُوجّه معظم الموارد الماليّة نحو المجهود الصحيّ للوقاية من الفيروس، في حين ستعمل مدرسة ما بعد الوباء بأدنى سرعاتها، وسيعود المجتمع إلى نقطة البداية حيث تكون للاحتياجات الفسيولوجيّة والأمنيّة الأسبقيةُ على جميع أشكال التواصل الاجتماعيّ، كما أشار الى ذلك Maslow في هرمه الشهير.

 

وتوقّع المستقبل

توجد المدرسة العموميّة في خضمّ تغييرات كثيرة تلوح في الأفق، وتشير إلى أنّ العودة إلى الوضع الطبيعيّ أمر مستبعد للغاية، ومن الحكمة بمكان تصوّر بداية حقبة جديدة تقتضي ردود فعل ومقاربات جديدةً. وقد أكّد Cyrunlik "بعد فيروس كورونا، ستكون هناك تغييرات عميقة، تلك هي القاعدة". وبالقدر نفسه من الحذر يجب التعامل مع إمكانيّة ظهور فيروسات مستجدّة بحدّة متفاوتة تجعل النظام التعليميّ في وضعيّة تأهّب مستمرّ لمواجهة المخاطر الداهمة. وستشبه المدرسة محيطها الاجتماعيّ من جهة قدرته على مواجهة الأمراض والتعافي منها. واعتلال المجتمع قد ينذر باختفاء المدرسة التي عهدناها في الماضي إلى غير رجعة.

سيؤدّي الركود المزمن لاحقا إلى خفض مستوى التوقّعات بهدف تفادي انهيار النظام التربويّ بدلًا من التطلّع إلى الإصلاح بعمق. وبدون لقاح، سيظل الكوفيد 19 قوّةً معطّلةً رئيسةً لسنوات قادمة، وستبقى الجروح العميقة في الجسم المنهك للنظام التعليمّي لفترة طويلة قبل أن تندمل.

وخلال هذه الظرفيّة، سوف يمرّ التدريس بمراحل أربع، وهي على التوالي: التعافي الطبيعيّ، والتعليم عن بعد فقط، والتناوب بين التعليم الحضوريّ والتعليم عن بعد، والتعليم بدوام جزئيّ.

ستتميز هذه السيرورة بعدم الاستقرار، من وجهة نظري، ما قد يجعل صانعي القرار متردّدين في الاستمرار في تمويل قطاع في وضع الغموض، على الرغم من الضغط الاجتماعيّ الذي يمكن أن يجابههم، فبقاء الدولة هو رهين بفرض قرارات مؤلمة. وعلى أيّة حال، يجب على الجهات المتخصّصة أن تكون مرنةً في فتح المدارس وإغلاقها حسب الوضع الوبائيّ السائد.

ستواجه المدرسة الجديدة تساؤلات حول دور المعلّم وطبيعة عمله التي ستّتسم بتعدّد المهمّات. والاستمراريّة التربويّة هي بالتأكيد قطيعة إبستمولوجيّة للمعلّمين، وفقًا لـمقولة باشلار (1982)، لأنّهم مطالبون بالعمل في بيئة لم تكن معروفةً لكثير منهم، ومع ذلك سيكونون مكرهين على التحديث لمواكبة المتغيّرات. ثمّة شيء أكيد: يستحيل الاكتفاء بالتعليم عن بعد، لأنّ الأنظمة الذكيّة ليس بوسعها تعويض الأستاذ. يقول Saaverda، من البنك الدوليّ: "اعتقد بعضنا أنّ الذكاء الاصطناعيّ يمكن أن يحلّ محلّ المعلّمين، ومن الواضح الآن أنّ الأمر ليس كذلك". والبديل هو الجمع بين التعليم الحضوريّ والتعليم عن بعد. في المقابل، أدرك المعلّم أنّ التكنولوجيا الرقميّة هي وسيلته إلى النجاح.

بالإضافة إلى ذلك، قد تدفعنا الأزمة الصحيّة إلى التخلّي عن مفهوم معيّن لدولة الرفاهيّة التي تقدم المدرسة بوصفها خدمةً عامّةً ذات استهداف واسع للطبقات الشعبيّة، وتعويضها بامتياز متاح لمن يستحقّه من ذوي الكفاءات. وربّما في تحدّ للإعلان العالميّ لحقوق الطفل ستكون المدرسة نخبويّة إلى حدّ ما بأعداد مخفّضة، ولن تكون في متناول الجميع، وستتوقّف عن العمل حين يلزم الأمر للسماح بالتركيز على قطاع الصحّة واستدامة التوازنات الماليّة.

وفي سياق توقّع مستقبل المدرسة، يتضح مؤخّرًا إثراء الثقافة التربويّة بمصطلحات فرضت نفسها يومًا بعد يوم: الاستمراريّة التربويّة، التعليم المشترك، التعلم المتزامن وغير المتزامن، الفصل التعاونيّ عن بعد. كلّها مفاهيم سجّلت دخولها المجيد إلى المشهد التربويّ العربيّ، بما قد يتجاوز كونها ألفاظًا محدثةً للتعايش مع واقع مستجدّ، إلى كونها إشارةً إلى علم أصول تدريس جديد.

هذه المفاهيم تتعلّق بثقافة تربويّة جديدة في طور التأسيس. لها ميزة اعتبارها دور الطالب بوصفه فاعلًا وطرفًا في تصميم الدروس واكتسابها. ويبشّر هذا الزخم الجديد بظهور بيئة مدرسيّة مختلفة. في المحصلة، فالمدرسة مطالبة بإعادة تدوير نفسها كي تستطيع المواكبة.

 

قيم مدرسة ما بعد الجائحة

ربما يكون مقبولًا، والحال هذه، أن تنتصر قيم على أخرى: التنافسيّة بدلًا من التضامن، والشعبويّة بدلًا من العولمة، والجدارة بدلًا من الديمقراطيّة. قد تعكس المدرسة في منظورها الجديد روح المجتمع البراغماتيّ الذي سيراهن على أطر مهنيّة متوسّطة ليتمّ إدماجها على الفور في القطاعين الصحيّ والاقتصاديّ. ستكون مدرسة القيم معطّلة لتوفير ما تحتاجه الدولة للخروج سالمةً من حالة الطوارئ بأقلّ ضرر ممكن. والواقع أنّه إذا ما تبيّن أنّ المجتمع غير قادر على استيعاب صدمة الأزمة الاقتصاديّة، فلن يُظهر تضامنًا كبيرًا مع الفئات الاجتماعيّة الهشّة، كذوي الاحتياجات الخاصّة مثلًا. وفي ظلّ نقص الوسائل، قد يحلّ الاستبعاد محلّ الإدماج. ومن يدري، فربما يُصوَّر هذا التحوّل على أنه تضحيّة وطنيّة يجب تقديمها طواعيّة للسماح للبلاد بالاستمرار.

وقد ترى الحكومات أنّه من الضروري الاحتفاظ بنواة صلبة حول برجوازيّة معيّنة لتكون بمثابة قاطرة تجرّ المجتمع بأسره بمجرّد التعافي. وسيطرة هذه الطبقة ستؤسّس لثقافتي المظلوميّة والنرجسيّة وستكرّس الفكر الإقصائيّ.

 

خلاصة

إذا حكمنا من خلال تقرير اليونسكو (2020) إلى جانب التأمّل في الظروف الاقتصاديّة والصحيّة الحاليّة، فإنّ المدرسة الرسميّة كما نعرفها ستكون واحدةً من ضحايا كوفيد 19. ويبدو واضحًا أنّ نموذجًا جديدًا يعتمد على التعليم التناوبيّ سيصبح حقيقةً لا محيد عنها؛ لأنّ التعليم عن بعد وحدَه قد أظهر محدوديّته. إنّه مفهوم جديد يبنى على مفاهيم مستحدثة، ينذر بنهاية مرحلة وبداية أخرى. ومن جانب آخر، ستكون المدرسة العموميّة بدوام كامل في فصل دراسيّ من الخرسانة المسلّحة من مخلّفات الماضي.

لا ينبغي أن يكون العالم قبل أزمة الوباء هو نفسه بعدها، ويجب أن يكون نظام الوقاية عاملًا لتجنب الانسداد في المنظور، لأنّ المخاطر كبيرة، فهي تتعلّق بمستقبل الحضارة البشريّة جمعاء، ومن مصلحة الجميع أن تُمنح هذه الحركيّة الوسائل اللازمة لتنفيذ مهمتها الحاسمة كما يجب أن نستفيد من تجاربنا ونتجنّب أخطاء الماضي.

إنّ المدرسة تحت ضغط كورونا وُضعت إلى غير رجعة على طريق الرقمنة الجامحة التي ستضع التلميذ في مركز التعلّمات، وهو الوضع الذي سيغيّر بصورة أساسيّة مهنة المدرّس.

أخيرًا، لا يفوتنا أن نشير الى أنّ الترجمة الصينيّة لكلمة "أزمة" ("وي جي") تتكوّن من شقين، أحدهما يعني "الخطر" والآخر "الفرصة". سيتعيّن علينا تحويل هذه التجربة الإنسانيّة المؤلمة إلى فرصة للتفكير في عالم أفضل.

 

المراجع:

- باشلار، غاستون (1982). تكوين العقل العلمي (الطبعة الثانية). ترجمة د. خليل أحمد خليل. المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع.

Cyrulnik, B. (2020). Après le coronavirus, il y aura des changements profonds, c'est la règle. https://www.franceinter.fr/vie-quotidienne/boris-cyrulnik-apres-le-coronavirus-il-y-aura-des-changements-profonds-c-est-la-regle

Saavedera, J. (2020). A lesson on the pandemic – the lesson we didn’t learn about inequality. World Bank blogs. https://blogs.worldbank.org/education/lesson-pandemic-lesson-we-didnt-learn-about-inequality

Tarby, J.C. (2015). Connaître le passé, comprendre le présent et construire l'avenir. Books on Demand.

UNICEF (June, 2020). What will a return to school during COVID-19 look like? What parents need to know about school reopening in the age of coronavirus. https://www.unicef.org/coronavirus/what-will-return-school-during-covid-19-pandemic-look