أكثر من عامٍ ونصف على تجميد العمليّة التعليميّة قسرًا بسبب آلة الحرب الواقعة على المدارس، والتي طالت كلّ عناصر العمليّة التعليميّة من كوادر تعليميّة وبُنى تحتيّة وأثاث مدرسيّ ومصادر تعلّم، يُواجه التعليم في غزّة شبح الإبادة بشكلٍ أقوى من كلّ الأوقات الماضية. المزيد من المدارس تُهدَم، والعديد من الطلّاب وذويهم يقضون تحت الأنقاض. الدائرة تضيق، والحبل يلتفّ حول عنق التعليم أقوى وأعنف، فهل تلفظ العمليّة التعليميّة أنفاسها وترفع الراية البيضاء مُعلِنة الإذعان والاستسلام لعدّاد الزمن؟ أم تُواصل السير على الرغم من شظايا الزجاج المكسور وبقايا الكتب التي تملأ فُوَّهات المواقد والأفران، بعد أن غادرت رفوف المكتبات؟
لم يكن الأمر سهلًا على أيّ حال، فإجابة هذا السؤال أشبه بشخصٍ أُغلق أنفه وفمه، وقيل له: "تكلّم"، فكيف له ذلك بعد أن فقد القدرة على التنفّس؟!"
ظهر التعليم الشعبيّ وغير الرسميّ على مدار عامٍ ويزيد بمبادرات فرديّة لأشخاص يرون أنّ دور المعلّم يجب أن لا ينتهي، ما دام نبض القلب يضخّ دمًا يتغنّى بالإنسانيّة. العديد أخذ على عاتقه توفير مكان آمن يصلح لاستقبال طلّاب الحيّ أو الأطفال النازحين في مخيّمات الإيواء. كان الأمر أشبه بهبّةٍ جماهيريّة عبّر كلّ من شارك فيها عن رغبةٍ كبيرة بترك أثر لا يُمحى في حياة الأطفال. بدأ الأمر بسيطًا ثمّ أخذ بالتشعّب؛ فبعض المبادرات حالفها الحظّ وفازت بدعمٍ من مؤسّسات دوليّة أو محلّيّة، والبعض الآخر استمرّ جهدًا فرديًّا بحتًا.
عندما أتحدّث عن المبادرين، أجد نفسي أبتسم مع كلّ الآلام التي مررنا بها باعتباري واحدةً منهم، مع كلّ الصعاب ومُرّ الأوقات التي اجتمعنا فيها بطلّابنا... أتبسّم دومًا، فقط لأنّي حاولتُ تربية الأمل حيث لا يبدو الأمر هيّنًا البتّة. فتربية الأمل في بيئة الرماد أشبه بتربية الجمل في بيئة الجليد.
عندما كنت أذهب إلى النقطة التعليميّة التي تجمعني بطلّابي، كان تجول بخاطري الصعوبات التي داهمتني قبل الخروج من المنزل، والصعوبات التي ستُواجهني أثناء اجتماعي بطلّابي. فكوني أمًّا يجعلني مُثقَلة بأعباءٍ كُثر، كالبحث عن الغذاء والدقيق، وإشعال النار بطرق بدائيّة للغاية، والغسيل اليدويّ، ونقل الماء إلى الأعلى، واستقبال شكاوى الأبناء بلطفٍ ومودّة والتربيت عليها بحنوٍّ أفتقده.
أمّا بوصفي معلّمة، فالاجتماع مع الأطفال في الفئة العمريّة (7-11) سنة، يتطلّب بدوره جهدًا لا محدودًا وصبرًا غير مسبوق. كنت أواجه العديد من التحدّيات، كما هي الحال بأيّ معلّمة في غزّة، في مبحث العلوم العامّة، حيث يُعدّ هذا المبحث مُنغمسًا في الواقع، ومُبحرًا في الخيال، ومُسافرًا عبر الفضاء.
ولعلّ من أهمّ المعضلات التي واجهتها عدم توفّر الوسائل التعليميّة التي تُقرّب المعلومة إلى ذهن الطالب المُشوَّش والمُثقل بالمتاعب والهموم. أذكر أنّي اتّبعتُ عدّة استراتيجيّات، من أهمّها "عباءة الخبير"، التي كانت كفيلة بنقل طلّابي من واقعٍ ممتلئ بالأسى، يضجّ بأصوات الانفجارات ويعبق برائحة البارود، ويُغمض عينيه فزعًا من لون الدماء المتناثرة، إلى عالمٍ آخر يشبه عالم "ديزني لاند" و"عالم سبيستون".
هنا، في صفّنا المتواضع الذي يخلُو من المقاعد والنوافذ أيضًا، جلسنا أرضًا ووقّعنا عقدًا بين طرفين، أحدهما يُمثّل الزبون، والآخر يُمثّل فريق الخبراء (فريقان ضمن سياقٍ خياليّ يعطيهما المعلّم مهامًا تتوافق مع خطّة الدرس). اخترنا للفريق اسمًا لامعًا، ورسمنا له شعارًا ذا مغزى، وانطلقنا في مهمّة علميّة تخلّلتها استراتيجيّات عدّة كالسرد القصصيّ، والرسومات الكاريكاتيريّة، وطوّعنا خامات البيئة المتواضعة جدًّا، واستخدمناها: العُلب المعدنيّة للمعلّبات والحصى وبعض البقوليات، وصنعنا منها لوحةً فرحنا كثيرًا عند الانتهاء منها. لم ننسَ أن نلتقط لنا صورًا ونجمعها في فيديو قصير، وكأنّه شهادة فخر بنجاحنا. كتبنا الدرس، ودَوَّنّا إجابات الأسئلة، وصحّحنا الكراسات، وبقينا نعيش في ذلك العالم الورديّ. كم كنتُ سعيدة عندما شاهدت علامات الانشغال والجدّية على وجوه طلّابي الصغار! في تلك اللحظات، كنت أُصفّق في داخلي، بكلّ إعجابٍ للمعلّم الذي يستطيع تقمّص شخصيّة الممثّل البارع، والذي يُعرّج على شخصيّة الساحر فيُخرج من جُعبته كلّ ما هو مُدهش ومثير لطلّابه.
بدأت العدّ: خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد... انتهى وقت الحصّة.
قالوا بصوتٍ واحد: "انتهى الوقت بسرعة من دون أن نشعر به!"
طلبتُ إليهم أن يكتب كلٌّ منهم رأيه في الطريقة التي تمّ بها الدرس، حتى نُطبّقها في درسٍ لاحق، فكان من الإجابات في اليوم التالي: "رائع ومذهل هذا الأسلوب!" أمّا أحدهم فقال: "لقد أنستني اللعبة التي لعبناها عناء الوقوف في تكيّة الإطعام قبل الدرس، يا معلّمتي."
تألّمتُ لتعبه، ولكن كان لشعوره بأنّ الدرس يُمثّل له لعبة، وقعٌ جميلٌ في نفسي.
أذكر في يومٍ آخر، كنتُ أريد أن أتطرّق إلى أجزاء الجهاز التنفّسي، ثمّ أشرح عمليّتي الشهيق والزفير وآليّة حدوثهما. حاولت أن أرتّب طريقة مُبسّطة للشرح في بيئة تعليميّة تفتقد كلّ العناصر، بدايةً من شاشة العرض، ووصولًا إلى الطباشير الملوّنة. فكّرت، ثمّ قرّرت أن أُصمّم نموذجًا للقفص الصدريّ من خلال قصّ قارورة بلاستيكيّة، أدخلتُ بفُوَّهتها شفاطة من البلاستيك لتُشبه القصبة الهوائيّة، ثمّ قصصتُ بالونات من كفوف اليدين التي تُستخدم لمرّة واحدة، واستخدمتُها لتُشبه الرئتين. وأغلقتُ فُوَّهتَيْها أيضًا بما تبقّى من المطاط المُستخدم في صنع كفوف اليدين. ثمّ عرضتُها على طلّابي الصغار. لم يأخذ الأمر سوى خمس دقائق لشرح الدرس. لقد تسابقوا لإعادة سرده، والإمساك بذلك "الاختراع الفريد" (من وجهة نظرهم). لقد وصلنا إلى الهدف بأبسط الطرق.
بعض الأفكار جهّزنا لها مُسبقًا، أمّا بعضها فيأتيني لمحةً عابرة تمرّ في ذهني. في يومٍ ما، كنتُ أشرح درس الهرم الغذائيّ للصفّ الرابع، وكنت قد أعددتُ لعبة تصنيف الأغذية، بعد أن كتبتُ أسماء المجموعات الغذائيّة، ورسمت بعض الأطعمة، وطلبتُ من الأطفال تصنيفها وفقًا لأسماء المجموعات الغذائيّة. خطرَ لي أن أُطبّق فكرةً كانت قد طبّقتها زميلة لي في المهنة، وهي أن أُشكّل الهرم الغذائيّ وأطلب من الطلّاب رسمه بأجسادهم من خلال جلسة القُرفصاء. وفعلًا، شعرَ الطلّاب بالفرح، فكان أحدهم يفتخر أنّه من مجموعة البناء، أمّا الآخر فيصف مجموعة الوقاية بأنّها بمثابة الدواء الذي يقي جسمه من المرض.
هذا الحديث المتداول بينهم جعلني أشعر بالسعادة، لقد نجحتُ في إدارة دفّة الحديث إلى ناحية علميّة بدلًا من حديث الشارع وسلبيّاته. لقد جذبني الحوار إلى درجة أنّي حاولتُ صنع مسرح خيال الظلّ من كرتونة كبيرة، حاولت تغليفها، ورسم صور طفوليّة عليها، ثمّ صنعت لها واجهة من الورق المقوّى الخفيف، ثمّ بدأتُ بتخيّل الشخصيّات الرائعة التي ستظهر خلف هذا المسرح. فانتقاء الشخصيّات، والحوار الدائر بينها، هو ما يصنع الفارق ويُضفي بظلال النجاح على الدرس.
كنتُ أُوظّف المسرح في عدّة دروس لعدّة مراحل: تارة تكون شخصيّاته مكوّنات الجهاز الهضميّ، وتارة أخرى تكون المكوّنات الطبيعيّة الحيّة وغير الحيّة على سطح الكرة الأرضيّة، وأحيانًا تكون اللام الشمسيّة واللام القمريّة، وأحيانًا أخرى كنت أستخدمه في دروس الرياضيات حين أريد إيجاد المقارنة بين عمليّتي القسمة والضرب. كنتُ أرسم الشخصيّات، وأُضفي عليها ملامح الوجه، أو أستخدم الجوارب بعد أن أصنع منها دُمية بسيطة. لقد كان هذا المسرح عامل جذب فعّال في البيئة الصفّيّة.
سألني أحد الطلّاب ذات يوم: "كيف لي أن أَصنع لعبة؟ لأنّ أسعار الألعاب باهظة الثمن في الحرب!"
أشرتُ عليه بفكرة للعبة التركيب (البازل)، وصنعتُها معه من كرتون رَسمْنا عليه أجزاء النبات، وكتبنا اسم كلّ جزء، ثمّ قصصنا الكرتون إلى قطعٍ متساوية، وطلبتُ إليه تركيبها. بعد قصّ الرسمة تاهت معالمها، واحتاج الأمر إلى وقت لإعادة ترتيبها. وبعد أن أعجبته اللعبة، أخبرته أنّ بإمكانه رسم أيّ رسمة أخرى لتكون اللعبة شيّقة وأكثر صعوبة.
لم يكن الوصول إلى عقول الأطفال وقلوبهم شيئًا خارقًا؛ كلّ ما احتاجه الأمر رغبة شديدة وإصرار كبير على التغيير.
كلّ ما يحيط بالمعلّم وطلّابه هنا يدعو إلى الإحباط، ويُحرّض على الابتعاد عن التعليم والتعلّم.
نحن بحاجة إلى ما يفوق قدرة البشر لإيقاف الحرب وعودة تدريجيّة للعلم.
لولا تلك الجهود والهمم العالية، لما حظي أطفال غزّة بهذا النزر اليسير من العلم.
ألف شكرٍ وتحيّة لكلّ المبادرين...
تلك الشموع التي تُضيء الطرقات وتُبدّد ظلام الجهل والمعلومات.
شكرًا للسواعد الفتيّة التي حملت الأمانة في وقتٍ كان الظلم والقتل والخذلان هم أسياد العالم وقادته.