هل المدرسة مكانٌ للتربية والتعليم، أم للتعليم فقط؟
هل المدرسة مكانٌ للتربية والتعليم، أم للتعليم فقط؟
2025/06/18
نهيل عبدالقوي شديد | معلمة وباحثة ومنسقة أكاديمية-مصر

عندما أرى مشكلة الجيل الحالي في احترام الكبير، أو حبِّ التعلُّم، والقدرة على مواجهة المشاكل، وحلِّ الخلافات مع الزملاء، وقوّة الاحتمال، وكلُّها مشكلات نلحظها في صفوفنا، ويلاحظها الأهل أيضًا مع تحدّيات وأولويّات أُخرى في التَّربية، تكون هذه المشاكل، وكلُّ ما له علاقة بالحياة المدرسيّة، يتمحور فقط حول المناهج والامتحانات بالنسبة إلى الأهل.

دور المدرسة بالنسبة إلى الأهل هو شرح الدروس لدخول الامتحانات وتحصيل الدرجات، ولا يكتفي الأهل بالدور الأكاديميّ للمدرسة؛ ولكن بالاستعانة، كذلك، بالدروس في جميع المراحل الدراسيّة، وهذه مشكلة أُخرى.

أمّا بالنسبة إليّ بوصفي معلّمةً، فأتعامل مع الطلبة ليس فقط من الناحية التعليميّة، ولكن أرى ردود فعل الطالب على المعلّم، وفي التعامل مع التحدّيات المختلفة أثناء اليوم الدراسيّ، فأجد المشكلة عدم احترام المعلّم أو قلّة هذا الاحترام، وعدم اتّباع الأوامر، وعدم حبّ التعلُّم.

فأبدأ بالتَّساؤل: هل ينحصر دوري معلّمةً، طوال وجود الطالب في المدرسة ولمدّة 8 ساعات يوميًّا، في شرح الدرس، أم واجبي أن أَغرِس في التلميذ حبَّ طلب العلم وخصالًا أُخرى مختلفة، تجعل منه إنسانًا فاعلًا في المجتمع عندما يكبر؟ هل دوري الأساسيّ تلقين الطالب المعلومات بحيث يستطيع الإجابة عنها في الامتحان لتحصيل درجات عالية، أم دوري أن أُعلّمه كيف يبحث عن المعلومة، وكيف يستفيد منها في حياته؟ هل كان ذلك دور المعلّم دائمًا منذ بدأت فكرة المدارس؟ ماذا قبل أن تكون هناك مدارس، كيف كان يتعلّم الإنسان؟ كيف كان يقضي الطفل والشاب وقتهما طوال فترة الصباح؟

تساؤلات كثيرة أحاول أن أصل إلى الإجابة عنها لدوري الأساسيّ بينما أتواجد مع الطالب، وهو لَبِنة المستقبل، لمدّة 8 ساعات كلّ يوم.

بدأت فكرة المدارس في شكلها الحاليّ بعد الثورة الصناعيّة، بفعل الحاجة إلى موظّفين يقومون بالأعمال الكتابيّة، فنشأت المدارس ليتعلّم الجميع التعليم نفسه. وكانت البداية بالقراءة والكتابة والحساب، وهي أساس كلّ تعليم. وكان قبل ذلك، كلُّ من له حرفة يعلّم أبناءه هذه الحرفة؛ فكان ابن الفلّاح فلاحًا، ويعرف منه متطلّبات هذه الحرفة. وابن النجّار نجّارًا، فكان يتعلّم كيف يصنع الأثاث ونوعيّات الخشب. وكان ابن البنّاء بنّاءً، فيبني البيوت والقصور.

قبل المدارس، كان في مصر "الكُتّاب"، والذي كان مخصّصًا لتحفيظ الأولاد القرآن، وعاملًا أساسيًّا في قوّة اللغة العربيّة لأجيال سابقة، لم تكن درست نحوًا ولا بلاغة، ولكنهم حفظوا القرآن على شيخٍ متقن، فتعلّموا القرآن وبعض علوم الدين وما يفيدهم في حياتهم.

وقبل الكُتّاب، كان هناك المؤدِّب أو المعلّم، الذي كان دوره تعليم الأمراء وعلية القوم وتأديبهم. وكانت متطلّبات هذه الفئة مختلفة، يُعدّون هؤلاء للمناصب الحاكمة، مثلهم مثل ابن الفلّاح وابن البنّاء وابن النجّار.

وتشترك كلّ الصور السابقة بأنّ وسائل التعليم هذه كانت تصنع إنسانًا، لا يتعلّم فقط علمًا نظريًّا كالرياضيّات والعلوم، ولكن معها يتعلّم التعامل مع الناس، وأخلاقيّات كلّ مهنة.

ثمّ بدأت المدارس، وكانت المدرسة لتعلُّم الدروس، والبيت للتربية. فكان هناك مدرّس للغة العربيّة والدين والحساب، واللغات بعد ذلك. وبدأ دور المعلم يتبلور شيئًا فشيئًا، فهو المتخصّص بتدريس مادّة معيّنة، ولكن له سمات وصفات وأدوار، أدوار تُعرَّف لمن يختار الدراسة في مدرسة المعلّمين، ثمّ كلّيّات التربية، وأدوار أُخرى يفرضها عليه المجتمع.

 

فيجد المعلّم نفسه في الفصل يشرح الدرس لعددٍ من الطلبة، كلّ طالبٍ فيهم له قدرات وسمات مختلفة عن الآخرين... يجد شخصيّات وأمزجة وهوايات وطباع مختلفة.

فهل المهمّ الآن توصيل المعلومة، أم المهمّ التأكّد من وصول المعلومة بالشكل الصحيح لكلّ طالبٍ يجلس في الفصل أمامي؟

لو اعتبرنا المدرسة تحضيرًا للتعامل في مجتمعٍ أكبر، وفي مجتمعٍ أكثر جدّيّة، ستكون ملاحظة سلوك الأولاد ورؤية ردود أفعالهم في المواقف المختلفة فرصة لتعديل سلوكهم، وغرس ما ينقصهم في التعامل مع الآخر.

ففي مواقف كلّ طالبٍ مع زملائه ستظهر أخلاقه الحقيقيّة، وكيف يفكّر.

كلُّ يوم أعود من المدرسة أراجع مواقف كثيرة تحدث معي ولمدرّساتٍ أُخريات، تكون أمنيتي أن يكون لديّ وقت لأناقش الطالب في تصرّفه الذي بدر منه أثناء الحصّة، في ردِّ فعله على زميله صاحب التحصيل الضعيف، أو زميله الذي أجاب إجابة خطأ وبدأ في السخرية منه.

أجد نفسي أتمنّى لو أنّ عندي بعض الوقت لأتوقّف عن شرح الدرس وأكلّمهم عن محاسن الأخلاق.

هل تكفي فترة تواجدهم في البيت لغرس هذه الأخلاق وإظهارها؟ هل تحدث في المنزل مواقف مختلفة تجعلنا نتعرّف إلى أولادنا بشخصيّات مختلفة، وفي التعامل مع أفرادٍ آخرين لا يحبّونهم مثلًا، أو يخافون منهم، أو يسخرون منهم؟

وتواجهنا كمدرّسين أحيانًا كثيرة مشكلة أُخرى، وهي تدخل وليّ الأمر لمعرفة مشاكل الطالب في المدرسة أو حلّها. فيكون هناك تواصل مع مسؤولي المدرسة لحلّ مشكلة ما بين الطالب وزميله، من دون أن يترك ولي الأمر لابنه فرصة التعامل مع الموقف بعد الرجوع إلى الأهل وأخذ نصيحتهم.

المدرسة نموذجٌ مصغّر من الحياة، فلنحاول أن نترك الطالب يعيش في هذا النموذج ليتعلّم، حتّى يخرج جاهزًا للحياة الحقيقية.