هكذا أودّعُ مع تلاميذي الموسم الدراسيّ
هكذا أودّعُ مع تلاميذي الموسم الدراسيّ
2021/07/25

يُختتم الموسم الدراسيّ عادة، في المدارس الابتدائيّة وما قبلها، بحفلٍ جميل، قد يكون بسيطًا، لكنّ مشاعر البهجة الممزوجة بشجن الوداع تُضفي عليه خصوصيّة خالدة. ولربما ما يزال أغلبنا يستعيد ذكريات جميلة عن حفلاتنا المدرسيّة؛ الحفلات التي كُنّا نحجّ إليها بفرحٍ عارمٍ ونغادرها بحزنٍ عميقٍ، حيث الألوان والبالونات والحلوى وإيقاعات الموسيقى والصور.

بتدرّجنا في السنّ والدراسة، كان احتفال الختام يتضاءل شيئًا فشيئًا في مسارنا الدراسيّ، أحيانًا يختفي البتة، وأحيانًا يعود محتشمًا، وهو ما كان يحفّزنا على أن نستشعر خصوصيّة الختام حتى دون احتفال، إذ نُطيل الوقوف في اليوم الأخير أمام باب المؤسَّسة، نتحدّث كثيرًا، ونودّعُ بعضنا البعض، إمّا بتحيّةٍ أو بنظرة أو بدمع مكتوم. وفي نهاية الثانويّة أدركنا عمق المأساة: أن الختام صعب وشاقّ. ودّعنا بعضنا، على أمل لقاء مفترض، وتبادلنا أرقام الهواتف.

وفي الجامعة، كنت أظنّنا نكبر عن الاحتفال والوداع شيئًا فشيئًا، لكن هيهات، كانت هناك ضرورات كثيرة لتنظيم حفل في نهاية كلّ موسم، تسهر عليه الفصائل الطلّابيّة، فنحجّ إليه بتلك البهجة القديمة. وحين تأكّد أننا كبرنا، ودخلنا مراكز التكوين التربويّ، كأساتذة متدرّبين، كانت ثمّة دموع تخنق كلماتنا الأخيرة في حفل التخرّج، وأخرى أسبلتها الأجفان بكرم، وحُقّ لها.

هكذا أستفز خزَّان النوستالجيا لديّ بعلاقتي مع نهاية الموسم. لربّما أخفيتُ تفصيلًا مهمًّا جدًّا، لعلّه دافعي لكتابة هذه الأسطر، وهو ذاك المتعلّق بالأزمة النفسيّة التي تنتابني في نهاية كلّ عام، فلا أجد أقرب من الكتابة منصّة أرتّب فوقها خليط المشاعر الدفينة، التي أجدني محاصرًا بها وأنا أرصد نهاية كل موسم دراسيّ، مستحضرًا حجم امتلائه بالأحداث والذكريات.

 

دخلتُ التعليم بخلفيّة شاعريّة، هي هاته التي تُقيم وزنًا خاصًّا لأعقاب الموسم، فألزمت نفسي باحتفال ختاميّ نهاية العام في أوّل موسم لي في المدرسة العموميّة كأستاذ لغة عربيّة في السلك الثانويّ التأهيليّ، لكنّني فشلتُ فيه. تَغيّب تلاميذ كُثر وحضر قلّة، فخاب ما راهنتُ عليه. وفي العام الثاني آثرت أن يكون الاحتفال رمزيًّا، أن أباغتهم في آخر حصّة بجلسة مفتوحة نستعيد من خلالها ذكريات العام، محاسنه ومساوئه، فامتثلوا، وحين بدا بوحهم دافئًا جدًّا، ألزمتهم بأن يكتبوا هذا الذي شرعوا في قوله، فكان هذا الطقس الثابت لديّ: في نهاية كل موسم أجمع من أقسامي قصاصات تضمّ ذاكرة تلاميذ العام المنصرم، يضمّنها أحلامه، ورهانته، ومنجزاته خلاله.

انتهى عام كورونا الأوّل في تلك الظروف المقلقة، التي لم يكن ممكنًا معها لإقامة "احتفال" التقييم ذاك، أو بالأحرى لم يخطر لي أن أفعله "عن بُعد". فندمت لذلك ندمًا شديدًا، إذ أنني وعلى مدار الخمسة أعوام الماضيات، كان لي ملف خاصّ يضم قصاصات الختم الشجيّة تلك، فكيف يغيب عام عن السلسلة، هو الأجدر بأن يخلّد!

وحيث لا يُلدغُ، عمدتُ نهاية هذا الموسم الحالي إلى استثمار مجموعة واتساب مدرسيّة، كنت أبعث إليهم من خلالها الدروس والمواعيد وكل ما يتعلّق بالفصل، في عملية استصدار القصاصات، فغيّرت اسم المجموعة إلى "مجموعة الوداع وتقييم الموسم"، وكتبت لهم رسالة افتتاحيّة، ممّا جاء فيها: "انتهى العام أيّها الأعزّاء، دون أن يكون بالإمكان أن نعقد لقاءً تقييميًّا، وقد كان هذا العام استثنائيًّا جدًّا، رأيتم ذلك من دون شك. حقًّا أن أحداثًا كثيرة وقعت، أنتم أولى أن تذكّرونني بها لتترسّخ في وجداننا جميعًا، جميلة كانت أو سيئة، لا يهم، إنّنا نتوق جميعًا أن نكون في القادم أحسن وأفضل ممّا نحن عليه، لهذا أودّ منكم تقييمًا دقيقًا لهذا العام من خلال نصوص تكتبونها هنا، تحدّثونني فيها ببوح صريح عن حصّة اللغة العربيّة...".

لم يُعر أي من العناصر الـ 96 في المجموعة أيّ اهتمام، بل إن بعضهم غادرها مباشرة بعد الرسالة، دون أن أستطيع فهم دافع هذا النفور واللامبالاة لديهم. مرّت أيّام، وعدت للمجموعة، كانت الرسالة على حالها، وحصرت عدد المغادرين في ثمانية تلاميذ بعضهم متميّز، فقمت بإضافتهم مرّة أخرى، وراسلت خمسة عناصر متميّزة أحفّزها على الرد على الرسالة، امتثل اثنان، ونشر كلّ منهما نصًّا مميّزًا، وتوالت بعدهما نصوص أكثر تميّزًا. وتوقّف التعبير. كانت نسبة من كتبوا قليلة مقارنة بالعدد. وغادر هذه المرة المجموعة آخرون. فأيقنت أن عمق المشكلة، يكمن في كون المتعلّم يرى في نهاية الموسم خلاصًا هائلًا، وأي استفزاز يمكن أن يعيده للقسم، وهو خارجه، يرى فيه إزعاجًا نفسيًّا له.

 

ضمَّنَ عبد العالي قصاصته المؤثّرة بعبارة قال إنني قلتها لهم ذات يوم، والحقّ أني نسيت، هي: "الإرادة هي التي تصنع كل الأشياء". وعزيز الغزالي، تلميذ استثنائيّ التعبير والشخصيّة، استحضر في قصاصته بيتًا فخمًا لشوقي: "عصفت كالصّبا اللعوبِ ومرّت – سِنَةً حُلوة ولذّة خِلْس". أمّا حسناء، وهي متعلّمة تميل للغات الأجنبيّة كما عبّرت دومًا، فقد جاءت رسالتها طويلة جدًّا، وممّا قالته فيها: "كنت في بداية الموسم من ضحايا هذا الوباء اللعين، لكن لم تكن تجربتي معه قاسية بل مرت مرور الكرام والحمد لله..."، وختمت بنصح زملائها: "لا تحزنوا إذا لم تحصلوا على نقاط جيّدة في الامتحان الجهويّ، فبإمكانكم تعويض ذلك في الامتحان الوطنيّ العام القادم". خولة خالص كانت الأكثر بلاغة في التعبير، واستهلّت قصاصتها بـالقول: "بداية الموسم الدراسيّ، أعلنتُ انطلاقتي بروح ورديّة متعطّشة لرؤية الملامح المشرقة لأصدقائي مجدّدًا، متحمّسة لخوض تنافس جازمة أن الفوز لي...". وآثر الحسين شيكري، وهو تلميذ يهتم اهتمامًا كبيرًا في التكنولوجيا، أن يرقن قصاصته/ مقاله على صفحة word، ويبعث بنسخة موازية بصيغة pdf إلى المجموعة، فصّل فيها كثيرًا وبتدقيق بليغ، وعَنونها بـ "تقييم قسم اللغة العربيّة"، وبوبّها إلى: استهلال، نظرتي العامّة، منهجيّة التدريس، ظرفيّة التدريس، في الأخير". ومن خلال جملته هذه، أيقنت مرّة أُخرى، "خطورة" أن نكون مدرّسين!: "وحصّة العربيّة أمدّتني، كما تمدّني من سنوات، بقيّم وأدوات ذات فوائد عظيمة، لا على مستوى اللغة أو على مستوى المبادئ". بينما ختمت وفاء الحبزي قصاصتها، وهي تلميذة ذات خطابة مميّزة: "ياليتني أضع هذه المشاعر والذكريات في قنينة وأغلق عليها لتبقى دومًا بحوزتي وأعيدها في كلّ مرّة أشعر فيها بالحزن".