نظرة عن قُرب لمستقبل التعليم
نظرة عن قُرب لمستقبل التعليم
2021/05/22
حلمي رؤوف حمدان | جامعة عبد الحميد ابن باديس/كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية/التربية/الجزائر-فلسطين

يعتبر التعليم أهمّ الحقوق الأساسيّة للإنسان، وهو حقّ تمكينيّ لمساهمته الكبيرة في تحقيق كافّة حقوق الإنسان الأخرى، كما يعتبر التعليم بأنه مصلحة أمميّة، لا بدّ من تضافر الجهود الدوليّة وتعاونها معًا من أجل حمايته والعمل على تطويره، فهو بذلك يعتبر أساس السلم المجتمعيّ والأهليّ، إذا انهار، فإن هذا السلم سيتعرّض للخطر.

لا يخفى على أحد الآثار التي تركتها الجائحة على التعليم، إذ ما زالت العديد من الدول مغلقةً للمؤسّسات التعليميّة لكافّة المراحل العامّة والعليا، وعدد آخر من الدول تحاول إعادة التعليم إلى جذوته، فتارة تفتح المدارس لمراحل معينة، وتارة أخرى تعود إلى حالة الإغلاق تماشيًا مع مستوى انتشار الفيروس ارتفاعًا وانخفاضًا، لكن الأمر المشترك في كلّ العالم والأنظمة التربويّة هو التوجّه نحو التعلّم عن بُعد بأساليب متعدّدة، ومنها استخدام التعليم والتعلّم الإلكترونيّ بكل ما له وما عليه من إيجابيّات وسلبيّات.

لعلّ من أهم نتائج وآثار الجائحة عالميًّا هو التسبّب في كساد اقتصاديّ كبير في كافّة المجالات، والخطورة في هذا الكساد ما قد يترتب من آثار سلبيّة على التعليم، والذي يتمثّل في نقص تمويله والاستثمار به وتقليل نسب الانفاق عليه، ومن هُنا، فإن الحكومات مطالبة بوضع الخطط اللازمة من أجل التقليل من تأثّر التعليم من هذا الكساد الاقتصاديّ كونه الضامن للسلم والأمان المجتمعيّ.

عند الحديث عن الآثار السلبيّة للجائحة على التعليم، لا بدّ، كذلك، أن نتحدّث عن الآثار الإيجابيّة لهذه الجائحة على التعليم، ومن تلك الآثار تطوّر الفكر المجتمعيّ حول التعليم والقناعة التي تشكّلت في ضرورة الانتقال من عمليّة التعليم إلى عمليّة تعلّم، وما يترتّب عليه من تطوير البنى التحتيّة للتعليم المدمج، الذي يشكّل خليطًا بين التعليم الوجاهيّ والتعلّم عن بعد ومنه الإلكترونيّ، الذي بدوره يساهم في تطوّر أدوار المعلّم، إذ أصبح  محوّرًا للاهتمام انطلاقًا من ضرورة تطوير كفاياته ومهاراته، وتحديدًا مهارات القرن الحادي والعشرين، وتطوير استراتيجيّات التعليم والتعلّم، والتي تساهم في تنمية مهارات التعلّم الذاتيّ للطالب وصولًا به إلى أن يكون مبدعًا ومبتكرًا ومتكيّفًا مع التطوّرات الهائلة في عالم الرقميّة والتكنولوجيا، وهذا بدوره سيعمل على رفع جودة التعليم إلى مستويات مرتفعة.

 

إنّ تحقيق مستويات مرتفعة في جودة التعليم لا يمكن أن يتحقّق دون أن يكون المعلّم مُلهمًا ومبدعًا ومتطوّرًا بأدواره الجديدة، وهذا لن يتحقّق دون أن يكون للمعلّم مكانةً اجتماعيّةً واقتصاديّةً مرموقة، ومن هُنا يجب أن تتبنّى الحكومات السياسات اللازمة لتحويل التعليم الى مهنة كبقية المهن كالأطبّاء والمحامين والمهندسين وغيرها، وكما هو معروف فإنّ ذلك سيكلّف موازنات الحكومات أعباءً إضافيّةً ستحاول الإفلات منها، ومن هنا لا بدّ من تدخّل الحوار والحراك المجتمعيّ الذي يجب أن تقوده نقابات واتحادات المعلّمين لانتزاع هذا الحقّ، والتي أي النقابات والاتحادات يجب أن تتمتع بالاستقلاليّة الكافية لتستطيع القيام بهذا الدور الهامّ.

إذًا فالتحدّيات التي تواجه التعليم كبيرة، ومع هذا التحوّل في أنظمة التعليم يصبح شعار التعليم للجميع في خطر محدّق، اذ سيكون عدد غير مستهان به من الطلبة والمعلّمين خارج هذا النظام، لأنهم ببساطة لا يملكون القدرة على الاتصال بشبكة الإنترنت لأسباب عديدة، وهذا سبب آخر في تدنّي نسب الانخراط والتفاعل في التعليم الإلكترونيّ، حيث الكثير من الطلبة لا يملكون ليس فقط وصولًا بالإنترنت، بل لا يملكون أيضًا الأجهزة والأدوات اللازمة للتعليم عن بُعد، وحتى وإن توفّرت لديهم شبكة الإنترنت، وهُنا لا بدّ من عدم إغفال أسلوب المعلّم الذي يتبعه في التعليم الإلكترونيّ والتعلّم عن بعد، إذ لا يمكن استخدام التكنولوجيا بأنها وسطًا ناقلًا للمعرفة فقط، بل يجب توظيف أدواتها في خدمة التعليم، وهذا لن يكون إلّا من خلال تدريب المعلّمين وتمكينهم من استخدام وتوظيف الطرق الحديثة في التعليم التي تركّز على الطالب وتساعده في إدارة عمليّة تعلّمه، في هذا السّياق، لا بدّ من تقديم هذا التدريب لكلّ من يتعامل مع المعلّم كمدير المدرسة والمشرف وكافّة الطواقم المساندة ذات العلاقة بالعمليّة التعليميّة التعلّميّة، وبالتالي فإنّ هذا يشكّل تحديًا كبيرًا يتطلّب إيجاد الحلول الخلاّقة لانضمام الطالب والمعلّم إلى التعليم من جديد.

إنّ من التحدّيات المهمّة أيضًا هي عملية التقويم التي تشكّل قضيّة بحدّ ذاتها، بحيث لا يمكن ضبطها ولا الوثوق بها عن بُعد، لذلك فإنّ من المهم أن يتم التعامل معها بأنها عمليّة تقويميّة تهدف إلى تحسين التعلّم، وليس إلى وضع الدرجات والعلامات، وبالتالي يجب أن نتعامل مع أدوات التقويم بأنها أدوات تعليميّة تعلّميّة، وأن نرتقي في استخدام أدوات التقويم للوصول إلى تقويم نوعيّ وأصيل يضع الطالب في عباءة الخبير من خلال دمجه في مهمات تقويميّة تعلّميّة حقيقيّة، تساعده على توظيف ما يتعلّمه في مواقف حياتيّة حقيقة.

وفي نظرة سريعة حول وضع التعليم في الدول العربيّة، نجد أن كلّ ما ذكر سابقًا يحتاج إلى العمل على تحقيقه، فمثلًا البنى التحتيّة التكنولوجيّة ضعيفة في دولنا العربّية، هذا إن استثنينا دول الخليج العربيّ التي تمتلك بنى تحتيّة قويّة نوعًا ما، بينما إذا تفحّصنا ذلك في جمهورية مصر العربيّة ودول المغرب العربيّ، نجد أنها تعاني من ضعفٍ في تلك البنى على نحوٍ لا يسمح بالتعامل المرضيّ للتحوّل والتطوّر الذي فرضه واقع جائحة كورونا، بينما في بقيّة الدول العربيّة، فإن هذه المشكلة تتحدّد في إما أنّ الاشتراك بالإنترنت مكلف جدًّا كما في لبنان، أو محاربة كما في فلسطين التي تعاني من سياسات الاحتلال الإسرائيليّ التي تمنع الولوج إلى تقنيّات الوصول السريع للإنترنت، أو تلك الدول التي تعاني من عدم الاستقرار والحروب كما في اليمن وليبيا والسودان وسوريا والعراق وغيرها، أو تلك التي تعاني من عدم تقبّل المجتمع للتعليم عن بُعد كما في المملكة الأردنية الهاشميّة، وبالتالي إذا أردنا أن نحمي مستقبل التعليم ونطوّره في المنطقة العربيّة فإنّه لا بدّ من العمل على تطوير تلك البنى التحتيّة التكنولوجيّة بالإضافة إلى إعادة تأهيل وبناء المدارس التي تمكِّن المعلّم والطالب من الاستفادة من التطوّرات والتكيّف مع التغيّرات الحاصلة.

إنّ من أهمّ التحدّيات كذلك هو المناهج التعليميّة في الدول العربيّة، والتي تحتاج إلى عمل دؤوب ومهنيّ، يتمّ من خلاله مراجعة شاملة للمناهج، لتكون مرنة وقادرة على مواكبة التطوّر في العمليّة التعليميّة التعلّميّة وتداعيات تطوّر التكنولوجيا، وهنا لا بدّ من أن يكون في الدول العربيّة هيئات مستقلّة لتطوير المناهج تُشرك كلّ مكونات المجتمع، ويكون هدفها الوصول إلى مخرجات تساهم في مواكبة العلم والتطوّر.

 

في فلسطين، استطعنا بجهود الجميع وبقيادة وزارة التربية والتعليم، من رسم معالم مستقبل التعليم، رغم ما نعاني منه نتيجة سياسات الاحتلال المتمثّلة في محاربة كلّ ما يتعلق بالتعليم، من منع ترميم المدارس في العاصمة القدس، وإغلاق وهدم العديد منها في مناطق كثيرة في القدس وباديتها وجنوب الخليل ومناطق متعدّدة أخرى، إضافة إلى محاربة المناهج الفلسطينيّة والتحريض المستمرّ عليها، وصولًا إلى منع استخدام الإنترنت عالي السرعة والجودة، فمع كل ذلك ما زلنا نسعى لبناء نظام تعليميّ طموح يمكِّنُنُا من توظيف التكنولوجيا، بدءًا من تدريب المعلّمين والطواقم المساندة من خلال المعهد الوطنيّ للتدريب التربويّ والإدارة العامّة للإشراف والتأهيل التربويّ والإدارات الأخرى لا سيما الإدارة العامّة للتعليم المهنيّ التقنيّ، وصولًا إلى تأسيس وإطلاق فضائيّة فلسطين التعليميّة بإمكانيّات متواضعة وفي وقت قياسيّ، واعتماد منصّة تعليميّة إلكترونيّة موحَّدة، بالإضافة إلى توفير منصّة تواصل بين النظام التعليميّ والمجتمع المتمثّل بأولياء الأمور.

أخيرًا، للحفاظ على جذوة التعليم والارتقاء لأعلى المستويات، لا بدّ من أن يأخذ الحراك المجتمعيّ بقيادة نقابات واتحادات المعلّمين في الدول العربيّة من أجل الارتقاء بوضع المعلّم، فالجهود الرامية لرفع جودة التعليم واستشراف مستقبله تحتاج إلى عمل مستمرّ تبدأ من تحسين وضع المعلّم وتمكينه مجتمعيًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا، والذي يتمثّل في تحويل التعليم إلى مهنة بحدّ ذاتها، وعلى سبيل المثال، يقود الاتحاد العام للمعلّمين الفلسطينيّين جنبًا إلى جنب مع الوزارة، جهودًا حثيثة لتطبيق اللّوائح التنفيذيّة والناظمة لقانون التربية والتعليم الفلسطينيّ العام الذي أقرّته الحكومة الفلسطينيّة في العام 2017، والذي يصطدم دائمًا بعدم قدرة الحكومة على توفير ما يلزم من موازنات ماليّة خاصّة بهذا القانون، نتيجة أسباب كثيرة أهمّها الاقتصاد الفلسطينيّ الضعيف والمتواضع، الذي يعتمد على المساعدات والمنح الدوليّة، إضافة إلى الإيرادات من أموال الضرائب التي تجمعها دولة الاحتلال نيابة عن الحكومة الفلسطينيّة حسب ملحق باريس الاقتصاديّ، والتي تستخدمها دولة الاحتلال بين الحين والأخر لابتزاز القيادة الفلسطينيّة في مواقفها السياسيّة، ما يساهم في عجز موازنة الحكومة ما يؤجّل في كلّ مناسبة، تطبيق هذا القانون وإقرار لوائحه.