نتعلّم بالفنون
نتعلّم بالفنون
علي عز الدين | مستشار ومدرب تربوي-لبنان

حين بدأتُ كتابة هذا المقال عدتُ بالزمن إلى بدايات مسيرتي التعليميّة، وبحثتُ في ملفّاتي عن مشاريع نفّذتها مع طلّابي. شعرتُ بالفرحة حين اطّلعت على كلّ تلك الصور، وتذكّرتُ كلّ حصّة وكلّ طالب. تذكّرتُ الوقت الذي كنتُ أمضيه في غرفة الفنون، والمشاريع التي نفّذتها بالتعاون مع معلّمات الفنون. 

لكن، قبل الغوص في تلك الصور والمشاريع، أريد أن ألفت انتباه القارئ إلى الفكرة الأساسيّة لهذا المقال، والتي تركِّز على كيفيّة استخدام الفنون لتدريس الموادّ الأخرى، كاللغات والرياضيّات والعلوم، إذ تصبح مهارات الإبداع في صلب المنهج، من دون الحاجة إلى فرز حصّة أسبوعيّة منفصلة، أو انتظار حدث عالميّ نحتفل به. تتطلّب المشاريع التي نعرضها تحضيرًا وتعاونًا بين المعلّمين، وإعادة الاعتبار الى الموادّ الفنّيّة، فهي ليست نشاطات ننظّمها بين الحين والآخر، بل فلسفة تعتمد على تربية شموليّة وتنمية شخصيّة الطفل وخياله، وتركِّز على قبول الاختلاف وإثارة الفضول، وتقدِّر الفنّ بجميع أشكاله وألوانه.

 

 

يسلّط المقال الضوء على ثلاثة أنواع من المشاريع التي يمكن توظيف الفنون فيها، من حيث سهولة التنفيذ وصعوبته.

 

مشاريع سهلة التنفيذ

 

"الصورة قصيدة من دون كلمات"- Horace

يمكن أن ينفّذ المشاريع السهلة والبسيطة معلّمُ اللغة وحده، كما يمكنه التعاون في ذلك مع معلّم الفنون، فتُدرَّس المصطلحات والنصوص في حصص اللغة، ثمّ تُنفَّذ عمليّة القصّ واللصق في حصص الفنون. في هذا النوع من المشاريع، تتحوّل دروس المفردات والقواعد والتعبير الكتابيّ إلى حصص غنيّة تثري ثقافة الطالب الفنّيّة وتنمّي خياله، كما يشمل معرض نهاية العام الفنّيّ التعبير الكتابيّ. وإليك بعض الأفكار عن المشاريع التي يمكن تنفيذها في هذا الإطار:

 

تصميم الفاكهة والخضار

طلّابنا كلّهم يدرسون شيئًا عن الفاكهة والخضار، ولكن ماذا لو استخدمنا أعمال الفنّان الإيطاليّ Arcimboldo، أو أعمال الفنّان المكسيكيّ Mario Gonzalez، لإثراء مخزون الطلّاب اللغويّ، ثمّ صمّمنا نماذج مشابهة لوجوه تحتوي على صور الفاكهة والخضار المفضّلة لدى الطالب؟

Photo5      Photo4    Photo3

 

استخدام تقنيّة "Collage"

تقتضي هذه التقنيّة أن يمزّق الطالب مجلّات وصورًا، ويحوّلها إلى أشكال جديدة، قد تكون أشخاصًا أو حيوانات خياليّة، ثمّ يصِفها. تساعد هذه التقنيّة على مواجهة الورقة البيضاء في حصص التعبير الكتابيّ، وتخطّي الخوف باستخدام الوسائل الفنّيّة التي نفّذها الطالب في حصّة سابقة، حيث يتميّز كلّ منتج عن غيره لأنّه مرتبط مباشرةً بالعمل الفنيّ الذي صمّمه الطالب.

Photo6    Photo7

 

تصميم مدينة ثلاثيّة الأبعاد

يصمّم المتعلّمون مدينة ثلاثيّة الأبعاد يمتزج فيها الفنّ بالرياضيّات والعلوم، فيصنعون البيوت من ورق، ويدمجون بعض النباتات في التصميم بزراعتها داخل قشور البيض. اقتضى هذا المشروع تدوين ملاحظات تتعلّق بنموّ النباتات في ورقة مراقبة، فجاء المنتج النهائيّ لوحة متكاملة، شجّعَت الطلّاب على المراقبة والتفكير التصميميّ والتنفيذ وتدوين الملاحظات.

Photo10     Photo8  Photo 9

 

تعليم خارج الصفّ

يحضّر المعلّم ثلجًا ملوّنًا وأوراقًا كبيرة ليشرح دورة المياه. يضع المعلّم الثلج الملوّن على الأوراق في ملعب المدرسة، يراقب الطلّاب الثلج ويستخدمون المهارات العلميّة، ولا سيّما مهارة التوقّع والمراقبة وتدوين الملاحظات، لاكتشاف كيفيّة تحوّل الثلج الى ماء، ثمّ إلى بخار. يترك المعلّم الأوراق خارج الصف في الملعب وتحت أشعّة الشمس، حتّى تتبخّر المياه، ثمّ تُستخدَم الأوراق الكبيرة لتخيّل أشكال ورسومات زيَّنت جدران المدرسة.

photo 11    Photo12    Photo13

 

مشاريع تحتاج وقتًا وتعاونًا

"ينتمي المستقبل إلى نوع مختلف تمامًا من الأشخاص الذين يتمتّعون بنوع مختلف تمامًا من العقول، المبدعون والمتعاطفون والمتعرّفون على الأنماط وصانعو المعنى. هؤلاء الأشخاص- الفنانين والمخترعين والمصمّمين ورواة القصص ومقدّمي الرعاية والمرشدين والمفكّرين بالصورة الكبيرة - سيجنون الآن أغنى مكافآت المجتمع، ويشاركون أعظم أفراحه"- Daniel Pink

تمتدّ المشاريع التي تحتاج إلى وقت وتعاون بين المعلّمين لفترة زمنيّة طويلة، وتساعد على تطوير تفكير الطالب. وبالطبع، نركِّز من خلالها على عمليّة التعلّم وليس المنتَج فقط.   

أذكر هنا وحدة نفّذها معلّم الموسيقى في الصفّ الأوّل، بالتعاون مع معلّمة اللغة الإنجليزيّة، ضمن برنامج السنوات الابتدائيّة التابع لمنظمة البكالوريا الدوليّة، وذلك في محور "كيف نعبِّر عن أنفسنا؟" والذي كانت جملة البحث والاستقصاء فيه: "يعبِّر المؤلِّف الموسيقيّ عن معتقداته بالأغاني".

شاهد الطلّاب مسرحيّة "Peter and The Wolf". وبعد العرض ألّفوا أغاني عن دولة قطر بالتعاون مع معلّمة اللغة الإنجليزيّة، ولحّنها معلّم الموسيقى. عُرضِت هذه الأغاني في الاحتفال الوطنيّ للدولة.  

 

مشاريع تحتاج إلى جرأة

 

"الإبداع يحتاج إلى شجاعة"- Matisse 

تخرج هذه المشاريع من إطار غرفة الفنون الضيّق، إلى ممرّات المدرسة، أو أزقّة الحيّ، أو المتحف، أو المعرض. البلدان العربيّة بمعظمها غنيّة بالمتاحف والآثار، وللحفاظ عليها يجب أن تصبح جزءًا لا يتجزّأ من عمليّة التعلّم والتعليم. هذه الفئة من المشاريع تنمّي الروح القياديّة في الطلّاب، وتنمّي أيضًا قدرتهم على التعاون وتصميم المشاريع وتنفيذها.  

وفي هذا، أذكر التعاون الذي جرى بين معلّم الدراسات الاجتماعيّة ومعلّم الفنون: صمّم طلّاب الصف الثالث جداريّة تظهر تطوّر قطر، تحت عنوان: "قطر بين الماضي والحاضر". استمرّ العمل بهذا المشروع حوالي ستّة أسابيع. اتّفق المعلّمون، خلال اجتماعات التنسيق الأسبوعيّة، على الخطوط العريضة للوحدة، فقُسِّمت النشاطات بين المادّتين. ركّز معلّم الدراسات الاجتماعيّة على مفهوم التغيير، في حين ركّز معلّم الفنون على مفهوم وجهة النظر. أدّى هذا التعاون إلى تطوير مهارات العمل الجماعيّ والإبداع، حيث تعلّم الطلّاب كيفيّة تحويل الحقائق إلى لوحة فنّيّة والتعبير عنها، بعيدًا عن الامتحانات التقليديّة.  

Photo16   Photo17    Photo14    Photo15

 

* * *

هذه لمحة سريعة عن بعض الأفكار التي يمكن تطبيقها داخل المدرسة. ومن أجل تحقيق التكامل بين الموادّ، على المدارس تخصيص حصص عمل تعاونيّ بين المعلّمين، وتنظيم دورات تدريبيّة عن مفهوم الدمج وأهمّيّته. بالإضافة إلى ضرورة منح الأهمّيّة ذاتها لكلّ الموادّ الدراسيّة، وتقديم محاضرات لأولياء الأمور تركِّز على أنّ كلّ طفل لديه نقاط قوّة ونقاط تحتاج إلى التطوير، وأنّ المجتمع بحاجة إلى الفنّان والموسيقيّ والراقص، وليس إلى المهندس والطبيب فحسب. حين تتوفّر تلك الأرضيّة، تظهر الأفكار الإبداعيّة تلقائيًّا في اجتماعات التنسيق. 

نختم بالإشارة إلى مدى حاجة المعلّمين إلى اللحظات الإبداعيّة، مثل ما فعله بعض المعلّمين في إحدى مدارس المغرب، عندما زيّنوا غرفتهم بتصميم جداريّة مستوحاة من أعمال Kandisky. أسهم هذا التمرين في بناء روح الجماعة، والترفيه عن النفس، واكتشاف أساليب فنّيّة جديدة، والمحافظة على الفنّان الموجود داخل كلّ واحد منّهم.

Photo 20    Photo 19    Photo 18