كيف نحتفظ بالتركيز الفعّال على مهمّة ما لتحقيقها على أكمل وجه، من دون الالتفات إلى أيّ مشوشات؟
يمكن البدء مثلًا بعدّ الكلمات التي بدأ بها هذا النصّ، كم كلمة هناك؟ لكن ماذا لو كان المطلوب: ما المقصود أو المفهوم من هذه المقدّمة المقتضبة؟
الإجابة ستكون حتما: "لا شيء يذكر"، أو "لا شيء مهمًّا".
مكمن الصعوبة هُنا هو ضرورة التركيز على مهمّتين في آن. حساب عدد الكلمات، ويمكن تحقيقه بقراءة مسحيّة يوازيها عدّ للمقاطع والكلمات فقط: واحد، اثنان، ثلاثة... ما يلزم هنا هو الحفاظ على ما يسمى بـِ "الحلقة الفونولوجيّة" لذاكرة العمل، والتي تشير إلى ذاك الصوت الخافت الذي يتحدّث داخل أذهاننا.
في المقابل، ولفهم مضمون المقدّمة، وجب الانتباه إلى المفردات، وذلك باستدعاء سيرورات معرفيّة أخرى، لتحويل كلّ كلمة (رسم) إلى صوت ذهنيّ، ثمّ الاحتفاظ بها في الذاكرة العاملة معطًى آنيًّا. كلّ ذلك من أجل إعطاء سلسلة المفردات "معنى".
أمر بديهي ألّا يتمكّن من الفهم مَن ركّز على مهمّة الحساب، لهذا من الضروريّ توضيح مجموعة من النقط المرتبطة بالتركيز:
1. التركيز ليس مرادفًا للانتباه، ذلك أنّ المهمّتين تختلفان من حيث الهدف أو الغاية. وإن كان الانتباه يأتي في المقدّمة، إلّا أن التركيز لا يستلزم الانتباه فقط، بل نوعًا آخر من المعالجة الذهنيّة. وبالتالي، ردود أفعال ذهنيّة (الفهم مثلًا) أو بدنيّة (كما في المهارات اليدويّة مثلًا).
2. التركيز على مهمّة ما إذا اقترنت بتمثّل ما، تتمّ المزاوجة بين هذا التمثّل والفعل؛ أي وجود تنسيق تامّ بين التمثّل وردّ الفعل المصاحب لهذا التمثّل، حسب المبتغى.
3. ليس هناك تركيز من دون انتباه، فالطريقة التي نتوقّع بها ردود أفعالنا حول ما نستقبله، هي ما يحدّد تركيزنا عليه. وهنا يظهر الدور الرئيس للهدف أو القصد، لأنّه هو المحدّد للمعطيات الأوّليّة التي سنستقبلها أو نتصوّرها، لذلك من المستحيل التركيز من دون عزم مسبق، أو هدف مرصود سلفًا.
4. التركيز شرط من شروط النجاح: التركيز يشير إلى شكل من أشكال المرونة الذهنيّة، وذلك راجع إلى كونه يربط بين شبكة من المهارات اللازمة لإنجاز أو تحقيق مهمّة ما. بمعنى آخر، الشخص الذي يركّز على مهمّة ما، يفعّل في ذهنه مجموعة من الإعدادات الدقيقة التي تحوّله (أي الذهن) إلى آلة متخصّصة في تحقيق هذه المهمّة. ومن هنا، الحديث عن المرونة الذهنيّة، ليتلخّص التركيز في توفير الظروف الملائمة لإنجاح المهمّة المطلوبة.
5. لا يمكن التركيز على أكثر من مهمّة، مثلما حدث في التجربة بداية هذا النصّ. وهذا لا يلغي أبدًا إمكانيّة تعدّد المهام المنجزة في وقت واحد. فإذا تمكّن القارئ من حساب عدد المفردات وفهم معاني الفقرة، فالسبب راجع إلى شكل من "التناوب السريع" بين التركيز على الحساب والتركيز على القراءة والفهم. وهذا ما يحدث عادة عند محادثة أحد المارّة في الوقت الذي تبحث فيه عن الطريق أو مكان لركن السيارة. لكنّ هذا "التذبذب" بين المهمّتين لا يخلو من الصعوبة، ويحتّم بذلك التركيز على إحداهما من دون الأخرى.
ماذا عن التشويش؟
عادة ما تباغتنا، أثناء إنجاز مهمّة ما، مجموعة من الإكراهات، على مستوى الانتباه، الاهتمام. فحين ينحرف الانتباه، فقد يسلك طريقًا آخر نحو مثيرات خارجيّة فرضت نفسها في لحظة ما، لتسبّب الإلهاء والتشتّت، كالإشعارات على شاشات الأجهزة الذكيّة مثلًا.
أحيانا قد يتعلّق الأمر بنسيان ما كنّا بصدد البحث عنه، ليتحوّل التركيز إلى مهمّة إضافيّة قد تظهر أكثر أهمّيّة، كالإجابة على الرسائل النصّيّة في انتظار انتقال الإشارة الضوئيّة إلى اللون الأخضر مثلًا.
كيف يمكن تحقيق التركيز؟
أوّل خطوة لتحقيق التركيز هي وضوح الرؤية حول الهدف، أو ما ننوي إنجازه، بغضّ النظر عن ماهيّة المهمّة، بساطتها أو تعقيدها. ويبدأ الأمر بتجزئتها إلى خطوات بسيطة أو مهمّات صغيرة، واضحة من حيث إمكانيّة التنفيذ ويمكن المضيّ فيها بسلاسة. هذا التجزيء يقتضي قبل كلّ شيء، نوعًا من التخطيط الخالي تمامًا من المشوّشات أو الرغبة في إنجاز مهمّة أخرى. مثال على ذلك، يمكن ذكر تقنيّة "Promodoro"، وهي واحدة من الطرق التي تعمل على تحسين إدارة الوقت وتحقيق مستوى عالٍ من النجاح والإنتاجيّة. هي وسيلة ابتكرها في ثمانينيّات القرن الماضي "Francesco cirillo"، وتقتضي تقسيم المهامّ المزمع إنجازها على فترات، مع التزوّد بعدّاد لضبط التوقيت، وإضافة دقائق استراحة بين مهمّة وأخرى.