المشهد اليوميّ
مشهد اعتدت عليه عند دخولي الحصّة الصفّيّة: البعض ينتظر دخولي ليستأذن بالخروج؛ وآخرون يشعرون بالضجر من يومهم الدراسيّ، يُلقون برؤوسهم على الأدراج؛ وهنالك من يتناقشون بحماس حول موضوع ما، يتمازحون ويتبادلون الضحكات.
وفي كلّ مرّة، يتوجّب عليّ خطف تلك اللحظات، وقطع أحاديثهم ونقاشاتهم، وبذل بعض الجهد في تهدئتهم للاستعداد لحصّة الرياضيّات؛ "مادّة الأذكياء فقط" كما يعتبرها البعض. وما إن تبدأ الحصّة حتّى يبدأ بعضهم بالنظر إلى ساعته، ولسان حاله يقول: "لماذا كلّ هذا العناء؟ وإلى متى أبقى هادئًا ملتزمًا الصمت؟" فيعود لبعض الأحاديث الجانبيّة تارة، ويغمز زميله تارة أخرى. كنتُ أستنزف شيئًا من طاقتي في مراقبة تحركاتهم؛ فزخم المنهاج لا يحتمل أن تهدر لحظة في الفوضى، وكنت ألمح في وجوه بعضهم عبوسًا واستياء.
نقطة التحوّل
استمرّ هذا الحال حتّى قرّرت تغيير روتين الحصّة، بعد أن تلقّيت تدريبات على التعامل مع شخصيّة الطالب المتكاملة: عقله وروحه معًا. وهنا بدأت أرى الصفّ بعين جديدة.
لم يعد الطالب بالنسبة إليّ مجرّد متلقٍّ لمعلومة رياضيّة جامدة، بل إنسانًا يحمل همومه الصغيرة وأحلامه الكبيرة. فغيّرت طريقتي، وأعدت بناء الحصّة على أسس أقرب إلى عالمهم.
ممارسات جديدة
أصبحت أبدأ حصصي بأنشطة استفتاحيّة قصيرة تخاطب مشاعرهم وتفتح باب الحوار:
- - أحيانًا أسألهم عن شخصيّة محبّبة لديهم.
- - أو عن هدف بسيط يخطّطون لإنجازه في يومهم.
- - أو عن مشاعرهم في تلك اللحظة: فرح، حزن، توتّر...
أتيح لهم بضع دقائق للنقاش وللتعبير عن أنفسهم، أمازحهم وأشاركهم الحديث.
وإذا ما شاب أجواء الصفّ بعض القلق والتوتّر، أبدأ بأنشطة استرخاء، مثل التنفّس العميق، أو الاستماع إلى صوت هادئ لأخفّف توتّر اليوم الدراسيّ وأهيّئهم للانتباه. وشيئًا فشيئًا، صار الطلبة ينتظرون هذه اللحظات بشغف، ويشعرون أنّ الحصّة ليست عبئًا إضافيًّا، بل مساحة آمنة للتعبير والراحة.
وأنتقل إلى موضوع الدرس، وقد انفتحت قلوبهم وعقولهم. فأرى التفاعل يزداد، وأجد أصواتًا جديدة خرجت من دائرة الصمت.
أثر التجربة
هذه الممارسات البسيطة منحتني فرصة للتعرّف إلى طلبتي بشكل أعمق: شخصيّاتهم وخلفيّاتهم. وبتّ أضع تفسيرات لسلوكيّات وردود أفعال لم أكن أجد لها مبرّرًا في السابق. فشاركتهم بوضع قواعد الانضباط الصفّيّ، وتحديد المكافآت، واقتراح عقوبات مناسبة للمخالفين، ما جعلهم يشعرون بالمسؤوليّة والشراكة في إدارة الصف.
كما بدأت أكسر جمود الحصة باستراتيجيّات بسيطة، مثل:
- - فكّر – حاور – ناقش.
- - عرض مسائل حياتيّة بأسلوب قصصيّ.
- - إضافة جوّ من المرح عبر ألعاب تعليميّة بسيطة، قد تكون أحيانًا من تصميم الطلبة أنفسهم.
مع الوقت تغيّر الجو الصفّي: تراجعت حالات الشرود، وازدادت روح المبادرة، وصارت الحصّة مساحة للتعلّم والاكتشاف، بدل أن تكون ساحة للمراقبة والضبط المتواصل.
الخلاصة
تعلّمت أنّ الإدارة الصفّيّة لا تختزل في قوانين صارمة أو تعليمات جامدة، بل في بناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل والشراكة. عندما نعطي الطالب فرصة للتعبير عن ذاته ونشركه في صناعة جوّ التعلّم، يصبح هو نفسه شريكًا في ضبط الصفّ.
ولعلّ أهم ما أدركته أنّ الصفّ المثاليّ ليس الصفّ الصامت، إنّما ذلك الذي تنبض فيه الحياة والتفاعل والاحترام.