منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزّة في أكتوبر 2023، تغيّر وجه التعليم في القطاع بالكامل. كنتُ شاهدة على هذا التحوّل، حين تحوّلت مدارسنا إلى مراكز إيواء تضمّ آلاف النازحين، وفقدنا صفوفنا، وتحوّل أثاثها إلى وقود نار لطعام يسدّ رمق الجائعين في مراكز الإيواء التي كانت قبل الحرب تضجّ بالحياة والتعليم .
مع ذلك، وعلى رغم الدمار الواسع الذي طال معظم المدارس، لم يتوقّف التعليم في غزّة. بل على العكس، تحوّل إلى رحلة صمود حقيقيّة يعيشها الطلّاب والمعلّمون يومًا بيوم، داخل غرف صغيرة أو خلف شاشات الهواتف.
مدارس الأونروا... التعليم وسط الركام
تعدّ مدارس وكالة الأونروا عمودًا أساسيًّا للتعليم في قطاع غزّة، وقد كانت أكثر المتضرّرين خلال الحرب. تشير بيانات الأقمار الصناعيّة والتقارير الدوليّة إلى أنّ ما يقرب من 97 % من مدارس غزّة – بما في ذلك مدارس الأونروا – لحقت بها أضرار جزئيّة أو كلّيّة، ما يجعلها "على شفا الانهيار" من حيث قابليّة التشغيل.
على سبيل المثال، ذكرت الأونروا أنّ "أكثر من 70 % من مدارس غزّة تعرّضت لضربة مباشرة منذ أكتوبر 2023، وأنّ نحو 88 % من المدارس تحتاج إلى إعادة تأهيل أو إعادة بناء كبيرة."
وبحسب تقرير أصدرته الجهات المعنيّة، فإنّ نحو 162 مدرسة تابعة للأونروا، كانت من بين المدارس التي تتطلّب إعادة بناء، ضمن نطاق المدارس التي عانت أضرارًا كبيرة منذ بداية العدوان.
كثير من هذه المدارس تحوّلت إلى مراكز إيواء، تستقبل آلاف العائلات التي فقدت منازلها. لكنّ اللافت أنّ الوكالة لم تتوقّف عن أداء رسالتها، فقد أفرغت بعض الصفوف داخل مراكز الإيواء نفسها لتخصيصها للتعليم، بحيث يجتمع الطلاب في أوقات محدّدة لتلقّي الدروس في بيئة بسيطة، لكنّها مفعمة بالإصرار. كنتُ أرى زملائي المعلّمين وهم يشرحون في فصول مؤقّتة تفصل بينها ستائر قماشيّة، والطلّاب يجلسون على الأرض، لكنّ الإصرار كان أقوى من كلّ الظروف .
التعليم الإلكترونيّ... نافذة للحياة
على رغم كلّ هذا الخراب، استمرّ التعليم الإلكترونيّ في الأونروا من دون انقطاع. فهذا هو العام الدراسيّ الثاني الذي تُطبَّق فيه منظومة التعلّم عن بُعد بشكل فعّال، من خلال مجموعات "واتساب" يديرها المعلّمون بكلّ جدّيّة.
أحاول مع زملائي المعلّمين ضمّ أكبر عدد ممكن من الطلبة في هذه المجموعات ، لتبقى العمليّة التعليميّة مستمرّة. وتقول المؤسّسة التعليميّة بتوفير الموادّ الدراسيّة المصوّرة والاختبارات الأسبوعيّة عبر المنصّات الرقميّة، كي يبقى الطالب على تواصل دائم مع المناهج .
صحيح أنّ ضعف الإنترنت وانقطاع الكهرباء يشكّلان عائقًا حقيقيًّا، لكنّ روح المعلّمين والطلّاب كانت الدافع الأكبر إلى الاستمرار. كنتُ أرى زملائي يشحنون هواتفهم بصعوبة من أجل بدء حصصهم التعليميّة في الوقت المحدّد. إنّها رحلة من قلب الركام نحو المستقبل، تقودها إرادة لا تُقهر، ومعلّمون وطلبة يؤمنون أنّ النور لا ينطفئ ما دام هناك من يحمل قلمًا في يده، وأملًا في قلبه
تحدّيات متواصلة وآمال لا تنطفئ
على رغم هذا الإصرار، لا يمكن إنكار التحدّيات الكبيرة التي تواجه العمليّة التعليميّة. فالاكتظاظ، ونقص الكوادر، وتضرّر المباني، كلّها عوامل تجعل العودة إلى التعليم الطبيعيّ أمرًا صعبًا جدًّا.
ومع ذلك، أثبتت تجربة الحرب الأخيرة أنّ غزّة لا تعرف الاستسلام. فقد أصبح التعليم فيها أكثر من مجرّد حقّ إنسانيّ؛ إنّه شكل من أشكال المقاومة المدنيّة، ورسالة إلى العالم بأنّ الأجيال الجديدة لن تتوقّف عن التعلّم مهما كان الثمن.
         
        
    


