من التعلّم عن الحياة إلى التعلّم للحياة
من التعلّم عن الحياة إلى التعلّم للحياة
وليد امبارك | معلم فرنسية في الاكاديمية العربية الدولية-تونس/قطر

يقال: تمنحك الطفولة الوقت والطاقة، من دون مال؛ وتمنحك مرحلة البلوغ المال والطاقة، من دون وقت؛ أمّا الشيخوخة فتمنحك الوقت والمال، من دون طاقة. ألم نكن سعداء وراضين أيّام دراستنا، حتّى مع القليل من المال والخيارات المحدودة للغاية، وكلّ الضغوط من حولنا؟ ما الذي يحجب عنّا السعادة الآن؟ وكيف لنا أن نجمع ما حصّلناه من مال مثلًا، أو ما حصّلناه من معلومات ومعارف لنعيش الحياة ونحن نفهمها؟ وهل علينا أن نتمدرس لنتعايش مع الآخر؟

 

التعلّم بين المدرسة والحياة

كان التعليم جزءًا رئيسًا من التنمية البشريّة لعدّة قرون، وما زال يؤدّي دورًا مهمًّا في مجتمعنا اليوم. في حين أنّ هناك طرقًا لا حصر لها للوصول إلى المعلومات واكتساب المعرفة خارج المؤسّسات التعليميّة التقليديّة، الأمر الذي يحيلنا إلى التساؤل عن جدوى المدرسة في ظلّ غياب أهمّ مبدأ ترشّحه جميع فلسفات المدارس، وهو التعلّم من أجل الحياة. 

 

إذا أردنا إجابة قاطعة، سنقول: لا توفِّر المؤسّسات التعليميّة مفتاح النجاح، ولا نقطة انطلاق للمستقبل، ناهيك عن محكّ جدارة الفرد أو قيمته. يعتمد النجاح الاجتماعيّ على النسيج العلائقيّ الذي يتطوّر فيه الجميع؛ فالمدارس تعلّم فنّ التفاعل، ولكن إلى أي مدى تكون هذه الإجابة صحيحة؟ وهل يعني ذلك أن نتخلّى عن المدرسة ونتبع أنماط تمدرس جديدة، كالتمدرس من البيت، مثلما تفعل بعض الدول الأوروبيّة؟

 

من المهمّ أن يتفاعل الطلّاب في المدرسة، حيث يسمعون وجهات نظر وأفكار مختلفة، ويتعلّمون أنّ الحياة موجودة خارج فقّاعتهم الصغيرة. التفاعل الاجتماعيّ نفسه صعب، ولكنّه مهمّ في الحياة، لأنّه عليك أن تتعلّم التفاعل مع الآخرين. والطلّاب الذين لا ينشئون روابط اتّصال وشراكة مع الآخرين يواجهون صعوبات في العالم الحقيقيّ.

 

علينا أن نقرأ الكثير ممّا نتعلّمه في المدرسة، إذ نتعلّمه لننجح في المدرسة. وعلى العكس من ذلك، هناك الكثير من الأشياء المفيدة في الحياة التي لا نتعلّمها في المنهج الدراسيّ، ومع ذلك، يبقى هدف المدرسة إعداد الطلّاب للحياة، من أجل الحياة الواقعيّة.

 

من الناحية النظريّة، يجب أن تستعدّ المدرسة للحياة، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان. لكنّ السؤال الذي اختُلِف حوله هو كيف تحقّق المدرسة هذا الهدف؟ وما الذي تحتاج إليه لتلائم الحياة الواقعّية؟ وفي خطّ هذا البحث، هناك سؤال مطروح منذ مئات السنين: هل يجب أن ننقل المعرفة النظريّة أم المعرفة العمليّة؟ فتلك رؤية مزدوجة تعارض فيها النظريّةُ التطبيقَ.

 

يعدّ الفلاسفة القدماء التعلّم نوعًا من تسلسل هرميّ اجتماعيّ، حيث المعرفة الرسميّة والوصول إلى العقل والتفكير امتياز، لأنّ التعلّم يستغرق وقتًا. الكلمة اليونانيّة Scholé التي اشتُق اسم المدرسة منها تعني الكسل والخمول[CE1] [GU2] . فمن الواضح أنّ الذين يدرسون يجب ألّا يكونوا نبلاءً ورهبانًا. فماذا يتعلّمون بالضبط في هذه الدراسات؟ من العصور القديمة إلى العصور الوسطى، وهي الفترة الزمنيّة التي تمتد من سقوط الإمبراطورية الرومانيّة الغربيّة سنة 476 م، أي عصر النهضة في القرن الرابع عشر، يظلّ البرنامج كما هو: سبعة تخصّصات تسمّى «الفنون الحرّة»، تشمل أربعة إلزاميّة هي مواضيع القواعد والبلاغة والحساب، وكذلك الموسيقى. وباقي التخصّصات تُسمّى الحرف اليدويّة[AAS3] [GU4] ،[CE5] [GU6]  مثل صناعة الفخّار أو الزراعة المرتبطة بالمادّة، والفنون الميكانيكيّة، وكانت تعتبر معارف مشروعة لكن غير إلزاميّة. [CE7] [GU8] وبمرور الوقت، [CE9] [GU10] لم تعد هذه القراءة [CE11] [GU12] التي تشجّع على الكسل وعدم الالتزام ذات صلة، لأنّ المدرسة باتت تتبنّى مناهج أخرى، وتقدّم أدوارًا جديدة يمكن أن تمنحها نورها وقيمتها. 

 

المدرسة مكان رائع للتعرّف إلى الحياة، حيث تُستَخلَص دروس العلوم والرياضيّات والتكنولوجيا والفنّ واللغات والعديد من الدروس الأخرى من الحياة، ومن المواقف التي نعبرها في رحلتنا. هذا واضح، ولا يمكن لأحد إنكاره. ومع ذلك، جميع هذه التعلّمات وعمليّات الحفظ والممارسة والتمارين العقليّة لن تكون مفيدة إلّا عندما يكرّرها الطالب في تجربته، ويجعلها أدوات لإعادة استخدام المهارات الاجتماعيّة وتفاعله مع الآخر. ذلك هو الفنّ الذي يجب تطويره واعتماده في مدارس العالم كلّها، لأنّه الضامن الوحيد للتعلّم الصحّيّ والصحيح والمفيد.

 

دور المدرسة الحديث ومهارات التعلّم الحياتيّة

أثّرت أساليب التعليم الحديث، ولا سيّما في المرحلة الابتدائيّة، كثيرًا في علم التربية. فالفصول الخضراء، والحرف اليدويّة، والأعمال الجماعيّة... كلّها جزء من تراث التعليم الحديث. لكن، على مستوى النظام، لم يتغيّر تنظيم التعليم العام كثيرًا، باستثناء بعض المدارس التجريبيّة، مثل المدرسة الثانويّة التجريبيّة في هيروفيل سانت كلير، والتي تأسّست سنة 1982. في هذه المدرسة التي تدار ذاتيًّا، يتابع الطلّاب الدورات التقليديّة، لكنّهم يتعلّمون كذلك العيش في المجتمع، والمشاركة في الحياة الاجتماعيّة لمدرستهم مشاركةً يوميّةً، بمساعدة الأسرة، فضلًا عن المشاركة في القرارات.

 

في الواقع، تعلّمنا المدرسة أكثر من المعارف النظريّة الكلاسيكيّة، إذ تعلّمنا فنّ اكتشاف ذواتنا، أو الالتزام بالأطعمة الصحّيّة، أو مهارة حلّ المشكلات، أو تقنيّات الإصغاء والتعاطف، أو بناء الشخصيّة، وغيرها من المهارات الحياتيّة التي يمكن للمجتمع أن يتطوّر نحو اتّجاه أكثر إيجابيّة في جيل واحد فقط.

 

المدرسة كذلك مكان للقاء الآخرين، حيث تختبر الحياة في المجتمع، فتتبادل مع غير أفراد عائلتك وأصدقائك الأحاديث وتتعاون معهم في إنجاز المهمّات. ففي المدرسة، تتعلّم احترام الآخرين، بغضّ النظر عن لون بشرتهم أو دينهم. إنّه التعايش السلميّ المبنيّ على احترام الاختلاف وتقبّله. بالإضافة إلى ذلك، تتعلّم النقاش، وتشكِّل رأيك الخاصّ، لتصبح بالغًا مسؤولاً، فضلًا عن بنائك الصداقات هناك، حيث تشجّع المدرسة جهودك وثقتك بنفسك واستقلاليّتك. ويلخّص Jacquard  (1999, p.66) هذا التعلّم بقوله: "دور المدرسة دمجُ رجل صغير في المجتمع البشريّ، لتحويل الفرد إلى شخص. دعونا نكرّر: التعليم إخراجُ الشخص من نفسه، وجعله موجودًا في التبادلات التي يعيشها مع الآخرين".

 

ومن هنا، تتوقّع بعض الدراسات [AAS13] [GU14] أنّ 40٪ على الأقلّ من الوظائف التي ستظهر في الخمس عشرة سنة القادمة غير موجودة بعد. وعليه، ألا يجب أن تتطوّر المعارف أيضًا، جنبًا إلى جنب مع بيئتها؟ 

 

يحدّد Robinson (2015)، خبير أكاديميّ ومحاضر في الفنّ والتعليم، ثماني مهارات رئيسة يجب أن تزرعها المدرسة لمساعدة الطلّاب على النجاح في الحياة. تسلّط رؤية مدرسة Robinson الضوء على الجانب الإبداعيّ للأطفال، وتذكِّرهم بأنّ المدرسة رحلة طويلة بالنسبة إليهم. وتتمثّل هذه المهارات بالآتي:

 

  1. -الفضول: تعلّم طرح الأسئلة، واستكشاف سير عمل العالم، من أجل نيل الرغبة في التعلّم والتطوّر طوال الحياة.
  2. -الإبداع: القدرة على توليد أفكار جديدة ووضعها موضع التنفيذ، حتّى يتمكّن الجميع من خلق حياة تشبهه.
  3. -التفكير الناقد: تعلّم تحليل المعلومات والأفكار، وتطوير الحجج، من أجل بناء تصوّرات المرء عن العالم. 
  4. -الاتّصال: القدرة على التعبير عن الأفكار والمشاعر بقوّة واضحة، بقنوات مختلفة، للحفاظ على علاقات صحّيّة وبنّاءة. 
  5. -التعاون: القدرة على العمل البنّاء مع الآخرين، من أجل تنمية التعاون المتبادل والتضامن. 
  6. -التعاطف: القدرة على فهم شعور الآخرين بلطف، ومساعدة المحتاجين إليك.
  7. -الصفاء: تعلّم التواصل مع داخلك وتجربة شعور الانسجام والتوازن 
  8. -المواطنة: القدرة على فهم العالم من حولك والمشاركة البنّاءة في المجتمع. 

 

* * *

نفهم من هذه القراءة لدور المدرسة أنّ الأولويّات التي تقوم عليها المؤسّسة التعليميّة، تكمن في تعلّم المعادلات الرياضيّة لترويض حياة الطالب اليوميّة على نحو أفضل. وتعلّم اللغات لمواجهة جهله والنجاح في اتّصالاته مع الآخرين، والتعمّق في سيرة الأدباء الذاتيّة لمعرفة كيفيّة توليد إبداعهم، ليحفّز ذلك إبداعه الشخصيّ ويطلق العنان لطاقته ومواهبه المخفيّة. والاستماع إلى الموسيقى المختلفة وممارستها لفهم حياة الناس مثلما ولدت موسيقى الجاز في أمريكا السوداء، ولقراءة التاريخ وفهم التحوّلات والتغيّرات المختلفة. وفي النهاية، مناقشة علم النفس لفهم مزاج أقرانه، والتعرّف إلى التقنيّات الجديدة، من ديجيتال وغيرها، حتّى لا يشعر بالعجز وعدم مسايرة التقدّم.

وعليه، فالمبدأ بسيط: ما هو غير مفيد للحياة ليس مفيدًا أبدًا في المدرسة.

 

المراجع

- Jacquard, Albert. (1999). Petite philosophie à l’usage des non-philosophes. Québec-Livres.

- Robinson, Ken. (2015). Creative Schools: The Grassroots Revolution That's Transforming Education. playback.