مقاربات التعلّم النشط وأهمّيّتها
مقاربات التعلّم النشط وأهمّيّتها
عبير حمصي | مديرة مدرسة ثانوية رياض الصلح-لبنان

"إنمّا بالتربية نبني الأوطان". عبارةٌ تلخِّص أهداف التربية والتعليم على الصعيد العالميّ، حيث يستطيع كلّ بلد أن يضع رسالته التربويّة الخاصّة به، والمنبثِقة من الرؤية العالميّة لمآل التربية سنة 2030، والتي تصوغ المؤسّسات التربويّة رؤيتها ورسالتها تحت مظلّتها. نحن في زمن تلاحقنا فيه العديد من الأزمات الصحيّة والاقتصاديّة وغيرها، فكيف نواجهها؟ هل نستسلم ونكتفي بالرؤى القديمة؟ أم ينبغي على المؤسّسات التربويّة أن تجدّد رؤيتها ورسالتها بما يتناسب مع تطوّر العصر، ويضمن لها الصمود أمام العواصف المتلاحقة؟ 

تنقسم المؤسّسات التربويّة المختلفة، من حيث رؤيتها، إلى عدّة مجموعات؛ هناك من يركِّز على المعرفة في رؤيته وأهدافه، وهناك من يسعى إلى تطوير مهارات الطلّاب، ولا سيّما مهارات القرن الواحد والعشرين. وانطلاقًا من هذه الرؤية الأخيرة، انتقل العالم بمجمله من طرائق التعليم التقليديّة إلى طرائق التعليم النشط الذي يكون الطالب فيه محور العمليّة التعليميّة، وبدأ يحدّد أهدافه لإعداد إنسان ذي قيم ومهارات مختلفة. 

في هذا المقال، أتناول بعض مقاربات التعليم المتطوّرة، بالاستناد إلى أربعة نماذج من التعليم النشط. لذلك، نبدأ المقال بتعريف هذا النوع من التعليم والإشارة إلى الاستراتيجيّات التي يرتكز إليها، ثمّ نتناول نماذج وأمثلة توضِّح أهدافه.   

 

حول التعلّم النشط واستراتيجيّاته  

التعلّم النشط هو التعلّم الذي يشجِّع الطلّاب على التدخّل والتغيير، باعتماد تعليم تفاعليّ، والارتكاز على تجارب تعلّميّة، تدعم بدورها التعلّم الذاتيّ. يحفّز هذا النوع من التعليم الطلّاب على التفكير، كما يدفعهم إلى البحث عن الحلول الجديدة لمشكلات عصرهم.

يقوم التعليم النشط على طرائق واستراتيجيّات مختلفة، أبرزها: 

  • -التعلّم القائم على الاكتشاف والمشاهدات. 
  • -التعلّم بالأسئلة. 
  • -التعلّم بالمشروع. 
  • -التعلّم بحلّ المشكلات. 
  • -التعلّم بالعمل المسرحيّ. 

وغير ذلك من الأنماط التعلّميّة التي تقتضي من المعلّم تطبيق استراتيجيّات مختلفة تناسب مبدأ التفاعل، وتتوافق مع مادّته وطلّابه والمنهج المطلوب. عند التحضير لأيّ درس أو نشاط، يجب، بدايةً، الإجابة عن الأسئلة الآتية: 

  • -أيّ طالب أريد؟  
  • -كيف أساعد طالبي على تحقيق المكتسبات التي أنوي مدّه بها؟ 
  • -ما الاستراتيجيّات التي تعينني على تحقيق الهدف؟ 
  • -كيف أجعل الطالب يتمتّع ويسعد في تعلّمه؟ 

لا شكّ في أنّ تقدّم العصر وتطوّر الذكاء الاصطناعيّ سهّلا توافر المعلومات لكلّ مَن يطرق بابها عامّةً، وللطالب خاصّةً. وعليه، يسهِم التعليم النشط في تطوير شخصيّة الطالب وينمّي مهاراته. ولكن، ما مقاربات التعليم النشط؟ 

 

التعلّم القائم على الاكتشاف والمشاهدات

هو التعلّم الذي يدعم الطلاّب في اكتشاف المعارف واستخدام التجارب الذاتيّة، فيدفعهم إلى الاطّلاع على الأسئلة والحلول الجديدة. يعزِّز هذا النوع من التعليم مهارات الطلاّب، ولا سيّما البحث العلميّ والتفكير الذاتيّ والتعلّم المدمَج، كما تُستخدمَ فيه المشاهدات الحيّة والتجارب العمليّة، لتدعم الطالب في تعلّمه الذاتيّ وتطوّره الشخصيّ. يتطلّب ذلك استخدام مستندات، ووسائل إيضاح، وزيارات ميدانيّة، يسجّل الطالب بها ملاحظاته، فيحسن توظيفها للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها المعلّم.

تعدّ الزيارات الميدانيّة من أكثر النشاطات تحفيزًا للطالب، حيث ينطلق من بين جدران الصفّ إلى مكان أوسع، يرى فيه بعينيه ويسمع بأذنيه ويحسّ ويُسمَح له بالملاحظة. الأمر الذي يثير فيه الميل إلى الاكتشاف والبحث والنقد والاستنتاج، فيربط المعلومات ويطبّقها في حياته وبيئته. بالإضافة إلى ذلك، تغني الزيارات الميدانيّة خبرات الطالب، وتنمّي مهاراته المتنوّعة، ولا سيّما مهارات التعاون والتواصل والتفكير الناقد.  

زار طلّاب الصفّ الثامن في ثانويّتنا الرسميّة في لبنان مصلحة الأرصاد الجوّيّة. تعرّف الطلّاب إلى أجهزة الرصد الجوّيّ، وأجهزة قياس قوّة الزلازل، واكتشفوا كيفيّة عملها ودقّتها، بمشاهدات جماعيّة. تبع ذلك تعبئة بطاقة تقييم موضوع الزيارة الميدانيّة. استطعنا، بهذه الزيارة، مساعدة الطلّاب على تطوير مهارة العمل التعاونيّ، والتواصل والقيادة، فضلًا عن اكتساب معلومات علميّة يطبّقها الطالب في مادّتي علوم الحياة والجغرافيا، يستعين بها لفهم ظواهر معيّنة في حياته اليوميّة. أسهم هذا النمط من التعلّم في ربط الناحية النظريّة بالناحية العمليّة، ووفّر المعلومات الحسّيّة التي يصعُب توافرها في غرفة الصفّ، فضلًا عن تحقّق الأهداف التربويّة والتعليميّة بمتعة وسعادة. 

 

التعلّم بالأسئلة

تُستخدَم الأسئلة في هذا النمط أداةً لتعليم الطلاّب، وتحقيق التعلّم العمليّ. يعتمد المعلّم فيه توضيح المعلومات وتحقيق تفاعل الطلّاب، بهدف تحسين فهم موضوع الدرس. يجب على المعلّم أن يختار الأسئلة المناسبة لغرض التعليم، وعليه أن يتعامل مع هذه الأسئلة بحريّة ومن دون تعطيلها. يمكن أن يستخدم المعلّم هنا العديد من الاستراتيجيّات والأنواع المختلفة من الأسئلة، مثل الأسئلة التوضيحيّة والأسئلة التحليليّة والأسئلة التفاعليّة... إلّا أنّ طرح الأسئلة لا يقتصر على المعلّم، بل يمتدّ إلى الطالب الذي يجب أن يكتسب هذه المهارة، كما يكتسب مهارة القراءة والكتابة. تعتمد هذه التقنية على تطوير قدرة الطالب على البحث والاستقصاء، ليصل إلى اكتساب مهارة التفاوض وحلّ المشكلات. 

نعتمد هذه التقنيّة دائمًا في مادّة علوم الحياة في ثانويّتنا، حيث يبني الطالب معارفه باستعمال الأسئلة التوضيحيّة والتحليليّة والتفاعليّة، حول أيّ ظاهرة علميّة أو طبيعيّة. يبدأ الطالب، مثلًا، بتحليل مستند علميّ بطرح الأسئلة الآتية: ما المتغيّرات؟ ما النتائج؟  لماذا هذه الظاهرة أو هذه النتيجة؟ ما الفرضيّات التي يمكن أن تفسّرها؟ كيف وصلنا إلى هذه الظاهرة أو النتيجة؟ ماذا لو كانت النتيجة مختلفة؟

تسمح هذه الممارسات بتمتّع الطالب بالحشريّة العلميّة؛ فهو باحث صغير يتقصّى الحقائق العلميّة بما يشاهده في حياته اليوميّة. أحمد، مثلاً، طالب في الصفّ السابع الأساسيّ، لم يهمل ظاهرة تجمّع نوع من الحشرات تحت صخرة صغيرة في حديقة المدرسة، بل ذهب يتحرّى عن الأسباب، وأتبعها باختبارات أوصلته إلى الحقيقة العلميّة القاضية بأنّ هذا النوع من الحشرات لا يستطيع العيش في الضوء، فهي تسعى إلى الاختباء في مكان ذي فيء، ورطِب. طبّق أحمد تقنية طرح الأسئلة التي تعلّمها في مادّة علوم الحياة، ممّا ساعده على اكتساب مهارة التفكير الناقد.

 

التعلّم بالمشروع

هو طريقة في التعلّم، يطبّق بها الطلاّب ما يتعلّمونه في صفوفهم الدراسيّة في الحياة العامّة. تتيح هذه الطريقة لهم ممارسة المهارات والمعارف الخاصّة بهم. كما تشجّعهم على التفكير الإبداعيّ وحلّ المشكلات التي تواجههم. من المفيد أن تكون هذه المشاريع ضمن أعمال جماعيّة، لما في ذلك من إسهام في تطوير التعاون والعمل الجدّيّ. تنطلق هذه التقنيّة من طرح مشكلة معيّنة، يسعى الطلّاب إلى إنتاج مشروع فرديّ أو جماعيّ، ضمن تخصّص واحد أو عدّة تخصّصات. 

أدّت الأزمات الاقتصاديّة التي لحقت بلبنان إلى انقطاع التيّار الكهربائيّ انقطاعًا تامًّا. الأمر الذي دفع بالمؤسّسات التربويّة وغيرها إلى تشغيل المولّدات الخاصّة لتغطية حاجاتها. ونظرًا إلى ما يتطلّبه ذلك من تكلفة ماليّة كبيرة، فضلًا عن تلويثه البيئة، عمد طلّاب المرحلة الثانويّة عندنا إلى وضع مشروع متعدّد التخصّصات. رصد الطلّاب المشكلة المذكورة في الثّانوية، ثمّ درسوا الكلفة الماليّة لتشغيل المولّد، مقابل كلفة تركيب طاقة شمسيّة، وذلك بعد دراستهم حاجة الثانويّة من الطاقة. بعد ذلك، حدّدوا أثر استعمال الطاقة الشمسيّة، بدل الطاقة الأحفوريّة، في البيئة، بهدف تحفيز المتبرِّعين على تأمين كلفة المشروع. أنتجوا فيلمًا توثيقيًّا، ثمّ عرضوه على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بهدف تمويل المشروع. 

تعلّم الطلّاب بهذا المشروع الأمور الآتية: الإحصاء (رياضيّات)، وقياس الطاقة (فيزياء)، وأهمّيّة المحافظة على البيئة (كيمياء)، وكتابة سيناريو (لغة عربيّة)، والتصوير والإخراج... فضلًا عن اكتسابهم مهارات التفكير الناقد، والعمل التعاونيّ، والتواصل، والتمثيل، والإخراج...  يسهِم هذا النمط التعلّميّ في تمكين الطالب من طرح الأسئلة، وبناء المعرفة، وتحديد حلول لقضايا حقيقيّة، ثمّ إثارة التساؤلات حولها والتعاون وتوسيع مهارات الاستماع النشط. يساعد ذلك كلّه على الانخراط في شبكة تواصل ذكيّة ومركَّزة، تتيح للطالب التفكير بعقلانيّة في كيفيّة حلّ المشكلات.

 

التعلّم بحلّ المشكلات

هو مقاربة تركِّز على تحديد المشكلات الحقيقيّة والعمل على حلّها. تدمِج هذه المقاربة المقاربات السابقة، حيث تعتمد على تحديد مشكلة معيّنة بطرح الأسئلة، بالاستناد إلى مشاهدات مختلفة. كما تشجّع الطلّاب على التفكير الذكيّ والإبداعيّ، وتطوّر القدرات اللازمة لحلّ المشكلات الحقيقيّة، سواءً بالمشاريع، أم بالتطوّر في طرح الأسئلة والفرضيّات، أم بالتجارب. يدفع هذا النمط من التعليم إلى التعلّم التطبيقيّ، ما يجعل الطلاّب قادرين على تطبيق المعلومات التي يتعلّمونها تطبيقًا ذكيًّا، في إطار البحث العلميّ لحلّ المشكلات. 

 

* * *

بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ هذه الطرق التعلّميّة لا تتطلّب من المعلّم جهودًا مضاعفة للتحضير فحسب، بل تُظهِر إبداع المعلّم في تيسيره عمليّة التعليم. من هنا، يجب التأكيد على أهمّيّة التعليم النشط في تطوير الطلّاب وتحسين مهاراتهم، إذ يدعم التعلّم الشامل، ويشجِّع على التصميم والتفكير الإبداعيّ. كما يجعل الطلّاب قادرين على تطبيق المعلومات، ويشجّعهم على الابتكار والتحديّ، وينمّي لديهم مهارات القرن الواحد والعشرين التي تخوّلهم النجاح في مجتمعاتهم، ومواكبة تطوّر عصرهم، فضلًا عن إسهامها في تحقيق تعلّمهم بمتعة وسعادة.

لكن، يجب التأكيد على أنّ أيّ نمط من أنماط التعليم النشط ليس حلًّا وحيدًا لجميع الطلّاب. لذلك، على المعلّم اختيار النمط الذي يناسب طلّابه، ويشجّعهم على الابتكار والتحديث. وأخيرًا، لا بدّ من الاستمرار في البحث عن الطرق الفضلى للتعليم النشط والتعلّم الشامل.

 

 

المراجع

- القضيب، محمّد بن عبدالعزيز. (2023، يناير). التعلّم القائم على المشاريع- دورة تدريبيّة. [إنترنت]

- Browne, Neil and Keeley, Stuart. (2007, January). Asking the Right Questions: A Guide to Critical Thinking. Pearson College.