اخترت هذا العنوان لتدوينتي لأنّ التعليم كان، وما زال، ميدانًا لمعركة متّصلة، فيها كلّ عناصر المعارك من هجوم ودفاع وتحصّن وزحف. هذه المعركة ليست معنويّة، كما قد يتبادر لذهنك عزيزي القارئ عند رؤيتك لهذه الكلمات. ليس المقصود أنّها معركة ضدّ الجهل، لأنّ الجهل لا يمكن أن يكون خصمًا في معركة، فالجهل معنى سلبيًّا لا يستطيع المقاومة، ولا المصادمة، ولا التحصّن، بل هي معركة حقيقيّة تدور بين السياسات التعليميّة التي عفا عنها الزمن، والدعوة نحو الإصلاح.
تعتبر معركة التعليم واحدة من أقدم المعارك التي شهدتها البشريّة على مرّ العصور. فالتعليم هو الركيزة الأساسيّة التي يقوم عليها تطور المجتمعات وازدهارها. ومنذ الأزل، تنافست السياسات التعليميّة المختلفة في سبيل تحقيق أهداف معيّنة، سواء كانت تلك الأهداف تتعلّق بتحقيق التنمية الاقتصاديّة، أو الاجتماعيّة، أو الثقافيّة.
ومع تطوّر المجتمعات وتغيّر الظروف، تغيّرت أيضًا السياسات التعليميّة؛ فبينما كانت السياسات التعليميّة في الماضي تركّز على تعليم القلّة الحاكمة، بدأت الدول الحديثة في وضع سياسات تعليميّة تهدف إلى تحقيق التعليم الشامل والمتاح للجميع، بغضّ النظر عن الطبقة الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة التي ينتمي إليها الفرد.
ولكن في واقع الأمر ما تزال بعض السياسات التعليميّة في العالم العربيّ مرتبطة بالتراث التعليميّ القديم، أو بالجهود الضعيفة لتحديث النظام التعليميّ، أو بالتدخّلات السياسيّة غير الملائمة.
أحد التأثيرات السلبيّة للسياسات التعليميّة القديمة يتمثّل بتجاهل التغيّرات والتطوّرات الحديثة في مجال التعليم. فهذ السياسات مبنيّة على النهج التقليديّ، وعلى المحافظة على الهياكل والأساليب القديمة، ما يؤدّي إلى تجاهل الابتكارات، والتطوّرات التكنولوجيّة، والتغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تحدث في العالم الحديث. وبالتالي، يفقد النظام التعليميّ القدرة على تلبية احتياجات الطلّاب، ومواكبة التطوّرات السريعة في سوق العمل.
علاوة على ذلك، فإنّ السياسات التعليميّة القديمة المتمسّكة بالتعنّت والسلبيّة قد تؤدّي أيضًا إلى نقص في جودة التعليم، كونها تركّز بشكل مفرط على الاختبارات، والتقييمات التقليديّة، والتدريس المحاضراتيّ والميكانيكيّ، ولا تُشجّع على التفكير النقديّ والإبداعيّ. وهذا يؤثّر سلبًا في مهارات الطلّاب الأساسيّة، وتفكيرهم الاستقصائيّ، وقدرتهم على حلّ المشكلات؛ ما يُقلّل من فرص نموّهم الشخصيّ والمهنيّ.
كما تؤثّر السياسات التعليميّة الرتيبة في توزيع الموارد التعليميّة بشكل غير عادل؛ فقد تكون هناك تحفظات في تحسين البنى التحتيّة للمدارس الحكوميّة، وتطوير برامج تطوير المعلّمين، وتوفير الموادّ التعليميّة الحديثة. وهذا حتمًا يؤدّي إلى تفاقم الفوارق بين الطلّاب، ويزيد من الفجوات التعليميّة بين الطبقات الاجتماعيّة المختلفة.
من أجل معالجة تأثير تلك السياسات التعليميّة، يجب على النظام التعليميّ القيام بتحوّل شامل والاستعانة بأفضل الممارسات الحديثة في مجال التعليم. ويتطلّب ذلك إصلاحات هيكليّة وتنظيميّة متعدّدة المستويات، بما في ذلك:
- - تحديث المناهج: يجب تطوير المناهج التعليميّة لتلبية احتياجات الطلّاب في العصر الحديث. ولا بدّ أن تشجّع المناهج الحاليّة على التفكير النقديّ والإبداعيّ، وتعزّز المهارات الأساسية، مثل: التواصل وحلّ المشكلات.
- - تطوير مهارات المعلّمين: لا بدّ من إتاحة فرص التدريب والتطوير المستمرّين للمعلّمين، بحيث يكونوا قادرين على تبنّي أساليب تعليميّة حديثة ومبتكرة. ويجب تشجيع المعلّمين على تبنّي ممارسات تفاعليّة، ومشاركة الطلّاب في عمليّة التعلّم.
- - اعتماد التكنولوجيا في التعليم: يجب تكييف النظام التعليميّ مع التطوّرات التكنولوجيّة الحديثة. يمكن استخدام الأدوات والتطبيقات التكنولوجيّة لتعزيز التعلّم التفاعليّ، وتوفير فرص للتعلّم عن بُعد.
- - تحسين البنية التحتيّة: يجب تحسين البنية التحتيّة للمدارس الحكوميّة، بما في ذلك توفير مرافق ملائمة، وموارد تعليميّة حديثة. ويجب توزيع الموارد بشكل عادل، لضمان تكافؤ الفرص التعليميّة لجميع الطلّاب.
- - تشجيع الشراكات والمشاركة: يجب تشجيع التعاون بين المدارس الحكوميّة مع المجتمع والقطاع الخاصّ لتعزيز التعليم. يمكن توفير الدعم الماليّ، والخبرات لتعزيز الابتكار، وتحسين جودة التعليم.
نهاية القول إنّ معركة التعليم لا تنتهي، وعلينا أن نستمرّ في السعي لإصلاح السياسات التعليميّة الزائفة. فالإصلاح الحقيقيّ للتعليم يتطلّب أن تكون السياسات التعليميّة مبنيّة على أسس علميّة قويّة، وأبحاث موثوقة، بدلًا من الاعتماد على أجندات سياسيّة، أو مصالح شخصيّة. ويجب أن تكون هذه السياسات مرنة، وقابلة للتكيُّف مع التغيّرات الاجتماعيّة، والتكنولوجيّة المستمرّة. ولا بدّ من تعزيز المشاركة الفاعلة لجميع أصحاب المصلحة في عمليّة صنع القرار التعليميّ، على أن يشمل المعلّمين والطلّاب وأولياء الأمور والخبراء التعليميّين، حيث يمكن لآرائهم وتجاربهم أن تسهم في تحسين السياسات التعليميّة وتنفيذها بشكل فعّال.