مدير المدرسة شهيدًا
مدير المدرسة شهيدًا
2024/02/18
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

جاء دوره ليعرض تجربته المميّزة على مستوى مدراء مدارس قطاع غزّة، كنتُ إحدى الحاضرات لعلّي أستفيد من التجارب المُلهمة في التعليم. وقف وألقى التحيّة على الحضور وعرَّف بنفسه وهو الغنيٌّ عن التعريف، كان مديرًا لمدرسة الرافعيّ الأساسيّة للبنين في مدينة جباليا لفترة طويلة، سبقه في إدارة المدرسة ذاتها والده طيب الأثر، حسن الذكر بين الناس.

بدأ يعرض تجربته في جودة التعليم وفق معايير وزارة التربية والتعليم في غزّة، إذ حصلت مدرسته على أعلى نسبة ضمن مستوى قطاع غزّة في برنامج "الجودة والاعتماد المدرسيّ"، والمعروف بأنه برنامج يصعب تحقيق معاييره لدقّتها وصعوبتها في التطبيق وتحقيق النتائج. لا يرسب من مدرسته أحد في الامتحانات الوزاريّة الموحّدة، والتي تُصحّح وفق لجنة وزاريّة خارج المدرسة. وكان عدد الطلّاب الذين يحقّقون نسبة تحصيل دراسي 95% فما فوق، يتجاوز الثلاثين طالبًا في الصفّ الواحد، من أصل أربعين طالبًا بشكل كلّيّ.

كان يتحدّث إلينا بثبات ويقين، كان خبيرًا بكلّ ما يتحدّث فيه مع زملائه المدراء والمعلّمين، وكان يجيب عن استفسارات الحضور بذكاء وخبرة عاليين. كان إنسانًا رائعًا مبادرًا محبًّا للخير، يمدُّ يد العون للآخرين، مديرًا فاضلًا لا يشبهه أحد على الإطلاق.

 

في لقائي الثاني به، كنتُ أترأّسُ وفد معلّمات مدرستنا في زيارة تبادليّة لمدرسته، علّنا نتبادل خبراتنا في التعليم. كان في استقبالنا عند مدخل المدرسة، بشوشًا دائمًا، مبتسمًا على الرغم من ثقل مسؤوليّته وكثرة انشغالاته. أبهرني اهتمامه بحديقة المدرسة، وزينة جدرانها، وحرصه الشديد على ترميم كلّ ما يلزم أوّلًا بأوّل. سألته عن عمر مبنى مدرسته، أجابني بابتسامة لطيفة: " كتير، بس أنا بحبّ أجدّد رسومات المدرسة كل كم سنة". فسألته كم تكلفة ذلك؟ ضحك طويلًا وقال: "محبّة الناس كنز يا أسماء؛ وأهل الخير كثر". وصلنا إلى مكتبه، عرض علينا فيديو لإنجازات مدرسته الأخيرة، وأسدى إلينا نصائح لا تُقدَّرُ بثمن.

كان عضوًا في لجنة تحكيم المبادرات المدرسيّة الفاعلة لسنة 2020. زارني في جلسة تحكيم رفقة زملائه، كانت أجمل ما في المسابقة زيارته الكريمة وكلماته الطيّبة، لن أنسى ما قاله وقتها: "عملك أصيل، وافكارك نيّرة، إيّاك أن تُحبَطِي، فلكل ناجح أعداء، استمري وربنا معاكِ".

توالت الأنشطة التعاونيّة بيننا في الآونة الأخيرة، كنّا نقوم بتدريب المعلمين في ورش عمل مشتركة، من ضمنها تدريبات "جوجل كلاسروم" زمن الكورونا. كنت ألتقيه في احتفالات تكريم المعلّمين المتميزين كثيرًا.  وقد حصل على جائزة المدير العالميّ سنة 2021، من منظّمة AKS Education Awards  من الهند، وكُرِّمَ من قبل مؤسّسات التعليم في فلسطين كافّة.

كنت إذا تحدثت إليه أَنصِتُ طويلًا واستمع إليه من دون مقاطعة. كان إنسانًا متفوّقًا في كل شيء، بارًّا بوالديه، حسن السمعة، طيب القلب، بشوش الوجه، محبًا لفعل الخير، حسن المعاملة مع محيطه الاجتماعيّ.

هاتفني قبيل استشهاده بأيّام قليلة، كان ما يزال صامدًا في بيته في شمال غزّة مع أسرته التي رحل معها بفعل آلة الغدر الصهيونيّة. قال لي ضاحكًا: "وين شردتِ يا أسماء، رحتِ ع الجنوب؟ لَه لَه لَه يا أسماء، بعرفكيش هيك، صدقيني مخلّصة الحرب عن قريب إن شاء الله... كلّها كم يوم وترجعوا بالسلامة. قولي يا رب ".

 

انتهت الحرب عليك حقًّا، رحلت مبكّرًا وتركت كلماتك الأخيرة في داخلي، وكأنّها الطمأنينة في القلب. لن أصدق نبأ استشهاد الزميل الفاضل والأخ الرائع الأستاذ أشرف أحمد الكرد "أبو أحمد". رحل مبكّرًا جدًّا وآلمني رحيله. رحل وترك خلفه إرثًا تربويًّا يُعدّ مدرسة للمعلّمين، رحل وترك خلفه تفاصيلَ تُرى وتُقرأ على وجوه الأطفال والأجيال التي تخرجت على يديه جيلًا بعد جيل. ترك ما لا يمكن أن تقرأه في كتب التربية الحديثة. مستقلّ بأسلوبه فريدٌ في عطائه وصبره، متفانِ إلى أبعد الحدود في عمله، محبّ صادق مبادر وأخ طيّب القلب.

رحم الله الأستاذ أشرف المرابط الصابر وعائلته الكريمة. اللهم إنّنا نحتسبه عندك شهيدًا ولا نزكّي عليك أحدًا.