مدرسة المستقبل: رهان الإصلاح التربويّ في عالم متغيّر
مدرسة المستقبل: رهان الإصلاح التربويّ في عالم متغيّر

يأتي كتاب الباحث والسوسيولوجيّ مصطفى محسن "مدرسة المستقبل: رهان الإصلاح في عالم متغيّر"، ليضع القارئ أمام مجموعة من الإشكالات والأسئلة النظريّة والمنهجيّة، وأمام قراءات متعدّدة لقضايا المنظومة التربويّة من قبيل: علاقة التعليم بالعولمة، وكيفيّة بناء "مدرسة المستقبل"، مذكّرًا ببعض أهمّ الأطر المرجعيّة الموجّهة لرهانات الإصلاح التربويّ في مجتمعاتنا العربيّة، ومحاولًا تحديد الرؤى المرجعيّة والإرشاديّة لمنطلقات هذا الإصلاح. وذلك من أجل بناء المواطن والمجتمع في آنٍ معًا، خاصّة في هذه الظرفيّة الصعبة الموسومة بإكراهات العولمة الزاحفة.

 

أزمة التربية في الوطن العربيّ وتحدّيات عصر العولمة

يرى الأستاذ مصطفى محسن أنّ تحدّيات خطيرةً تنتظر مجتمعاتنا العربيّة في مجال التربية والتكوين، ذلك بسبب التطوّر المذهل الذي يشهده "مجتمع المعرفة" في ظلّ "النظام العالميّ الجديد المعولم"، مشيرًا إلى ضرورة البحث عن وسائل علميّة منهجيّة لمقاربة الوضع التربويّ الراهن محليًّا وكونيًّا. ويقترح في سبيل ذلك:

  • العمل على تحديد واضح الرؤى للأطر المرجعيّة والنماذج الإرشاديّة الموجّهة لمنطلقات الإصلاح.
  • وضع الخطط والاستراتيجيّات والبرامج والسناريوهات المتعلّقة بما ينبغي أن يكون عليه "تعليم المستقبل" في مجتمعاتنا العربيّة.
  • تعيين الأدوات، ووسائل العمل الإجرائيّة، والأجهزة، والفاعلين، والعمليّات المطلوب إنجازها.

إنّ مجتمعاتنا العربيّة، مع الأسف، لا تستحضر أهميّة التربية والتعليم والتكوين في بناء "المواطِن/المواطِنة"، خاصّة في هذه الظرفية الصعبة التي تفرض تطوير المجتمع، وبناء المستقبل الوطنيّ والقوميّ، دون الانصياع إلى أيّ تعليمات، أو إملاءات، أو توجيهات، أو مشاريع مفروضة غير منشودة في إطار حوار حضاريّ وثقافيّ منفتح متعدّد الأبعاد.

إنّ تشخيص أزمة نظام التربية والتعليم والتكوين يجب أن يرتبط بالسياقات والشروط الاجتماعيّة المتمايزة التي أفرزتها، أو إعادة إنتاجها ضمن بلورة منظور شموليّ يتجاوز المقاربة الاختزاليّة التبسيطيّة، ويرينا الأزمة ظاهرةً بنيويّةً مركّبةً تختلف عوامل إنتاجها من مجتمع إلى آخر، ضمن شروط بالغة التعقيد، منها ما هو ذاتيّ خاصّ، ومنها ما هو سوسيو-تاريخيّ موضوعيّ. وفي هذا الإطار يمكن استحضار ظاهرة العولمة بوصفها ظاهرةً كونيّةً، وما لها من آثار. هنا، يطرح المؤلّف تصوّرات محوريّةً، مثل رصد آثار العولمة على نظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا، من قبيل الأدوار والمهمّات الممكنة أو المفترضة التي يجب أن تناط بالتربية ضمن متغيّرات هذا الزمن.

 في ظلّ هذه الأزمة، يحيلنا الباحث إلى إشكاليّة آثار العولمة في علاقتها بتفاعلات النظم التربويّة مع متغيّرات النظام الكونيّ الجديد وتتجلّى هذه الآثار في تعزيز توجّه العولمة بوصفها موجةً سوسيو-اقتصاديّة.

وهي كذلك موجة تجاريّةً وماليّةً وخدماتيّةً حرّرت الأسواق والفضاءات، وأغرقتها بمفاهيم جديدة أصبحت مثار جدل فكريّ وسياسيّ وحضاريّ، مثل: التنافسيّة، والشراكة، وتخصيص القطاع العامّ، والتبادل، والاندماج، والحوار، واحترام الديمقراطيّة (ص 26-27)، ومفاهيم عدّة، هي ليست بالضرورة ذات قيمة سلبيّة، ولعلّ لها محمولات إيجابيّة. لهذه الكونيّة العالميّة الجديدة ارتباط وثيق بتطوّر مستقبل التعليم والتربية والتكوين خاصّة في مجتمعات العالم الثالث، ويأتي ذلك من خلال مقوّمين:

  • مقوّم ثقافة السوق، إذ تبلوَر منظور تسليع المعرفة، وتبضيع البشر، فأصبحت المؤسّسة التربويّة كما لو كانت مجرّد مصنع ينتج ما سمّاه الباحث "البضائع البشريّة".
  • مقوّم "الثورة المعرفيّة الثقافيّة الجديدة" التي أصبحت أساس السلطة والقوّة حاليًّا، عوضًا عن الموارد الطبيعيّة كما كان عليه الوضع خلال القرنين السابقين.

إنّ منظور ثقافة السوق ما فتئ يتعزّز باستمرار في ميدان التربية والتكوين ضمن طلب متنامٍ، لكن مع الأسف، ساهم هذا التوجّه في إفراز منظور اقتصاديّ اختزاليّ لوظائف التربية والتكوين، وفي خلق فوضى تنظيميّة أدّت إلى تشتيت النظام التربويّ، وخلخلة وحدته وتماسكه (ص 29).

لقد ألقت ثقافة السوق بأثرها على المؤسّسة التربويّة، مع ما يصاحب هذه الثقافة من تحوّل في القيم، والعلاقات، والتبادلات الاجتماعيّة كشيوع الأنانيّة، والمصلحة الخاصّة، والربح السريع. المؤسّسة التربويّة لم تنجُ بدورها من آثار هذه القيم العولميّة الجديدة التي تكرّس "ثقافة الرداءة" عميقًا. وبسبب الثورة المعلوماتيّة التي رافقت انتشار ثقافة السوق، انتقلت السلطة من الاعتماد على القوّة الاقتصاديّة والماليّة والعسكريّة، إلى الاعتماد على قوّة امتلاك المعرفة. لذلك، بات على المؤسّسة التربويّة تجديد ذاتها لتكون فعلًا "مدرسة المستقبل". هذه الثورة عمّقت كذلك الفجوة بين مجتمعات العالم وبين الفئات المختلفة داخل كلّ مجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وكرّست هيمنة الدول الغنيّة فارضةً بذلك قيمها وثقافتها، بل ومواقفها ومصالحها على الدول الضعيفة (ص 39).

 

استشراف المستقبل في التخطيط التربويّ

لقد بات ينظر إلى قضية دراسة المستقبل، من خلال مقاربتها علميًّا، وأمسى الاهتمام بها مسألةً استراتيجيّةً، وأرضيّةً لوضع السياسات التخطيطيّة في شتّى المجالات. لذا شُكّلت لها في الدول المتقدّمة لجانٌ، وفرق، ومجموعات بحث. في هذا الإطار، يركّز الأستاذ مصطفى محسن على أهميّة التخطيط لـ"تعليم المستقبل" بوصفه إشكاليّةً أصبحت متداولةً في الخطاب التربويّ المعاصر، وهي تتطلّب وعيًا بالأبعاد المستقبلية نظريًّا، ومنهجيًّا، واجتماعيًّا، وحضاريًّا. هو مفهوم عميق مركّب ديناميّ تاريخيّ، لا يمكن اختزاله في توقّع ما سيأتي من أحداث ووقائع، بل إنّه الماضي والحاضر والذي سوف يأتي معًا، سواءً تعلّق الأمر بـ"تعليم المستقبل" أو بمجالات المجتمع بصورة عامّة (ص 43).

إنّ التخطيط استراتيجيّة وتقنيّة تهدف إلى التحكّم في المعطيات الموضوعيّة، إمّا بطريقة كميّة إحصائيّة تجريبيّة، وإمّا بطريقة استقرائيّة وصفيّة استنتاجيّة. من هنا، فالتخطيط تصوّر نظريّ، وإجراء تفسيريّ، وهو يعتمد على قراءة الأسباب الدافعة، مع تبيان العلل والحيثيّات التفسيريّة التي تكمن وراء ظاهرة معيّنة. إنّ التخطيط أيضًا تصميم تنبئيّ يتحكّم في الظواهر المستقبليّة، ويستشرفها عن طريق إعداد خطط وتدابير للإحاطة بالظاهرة من أجل الشروع في بناء تصاميم توقعيّة ناجعة.

تأسيسًا على هذا التعريف، فإنّ التخطيط، حسب الأستاذ مصطفى محسن، لا ينحصر فقط في تأهيل القوى العاملة وإعدادها لأسواق الشغل، كما ترى بعض المنظورات الاقتصاديّة الضيّقة، بل يصبح عمليّة إنماء متكامل للطاقات البشريّة كمًّا وكيفًا، ورفع مستوياتها، وتوجيهها نحو حياة أفضل، وذلك في إطار تنمية شموليّة للمجتمع، منسجمة مع ما أصبح يدعى "التنمية البشرية الشاملة المستديمة" (محسن، 2001). لذا يقتضي التخطيط لمشاريع المستقبل من الناحية الفكريّة والمنهجيّة أمورًا، منها:

  •  تحديد نماذج وأطر إرشاديّة "براديغمات" تستمدّ مرجعيّتها من قيم المجتمع وقناعاته، ورؤاه للعالم. وبالتالي تعتبر الوسيلة والأداة المِؤطرة لتفكيره ووعيه، مع ضرورة ربط هذه النماذج بمنظور عقلانيّ وعلميّ للزمن ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.
  •  الاعتماد على معطيات واقعيّة ملموسة لوضع الفرضيّات، وطرح الأسئلة والسيناريوهات لمقاربة الواقع.
  •  الاستفادة من نماذج وتجارب مجتمعات أخرى وذلك بهدف استثمارها بوعي ناقد.
  •  الاعتماد على الدراسات العلميّة المعمّقة (محسن، 1999).

ومع هذا، يبقى شرط توفّر مشروع مجتمعيّ واضح المعالم، وضرورة توفّر رؤية تربويّة له، سواء على المستوى القطريّ الخاصّ، أو على المستوى القوميّ العامّ. وفي هذا الإطار، يمكن الرجوع إلى إنتاجات الباحث في هذا الصدد لا سيّما كتابه "أسئلة التحديث في الخطاب التربويّ بالمغرب"، حيث يشير إلى ضرورة اعتماد استراتيجيّة متكاملة الأهداف والمكوّنات لتحديث المجالات والقطاعات الاجتماعيّة كافّة. وتأسيس وعي حداثيّ ينتقل بمكوّنات مجتمعاتنا من مظاهر الحداثة وخطاباتها وشعاراتها، إلى ثقافة حداثيّة مؤصّلة قائمة على نموذج إرشاديّ (براديغم) موجّه للفكر.

 

مرجعيّة التحديث

 أمّا على مستوى مرجعيّة التحديث فقد نادى الأستاذ محسن بضرورة بلورة فلسفة اجتماعيّة شاملة، تقوم عليها سياسة تربويّة تكوينيّة. هذه الفلسفة يجب أن تهتمّ بثلاثة محاور:

  •  تحديد رؤية واضحة للإنسان الذي نريد تكوينه.
  •  أن يكون نظام التربية والتكوين مستجيبًا لمتطلّبات الأفراد والجماعات على اختلاف مستوياتها وعقائدها، ملبّيًا متطلّبات النظام الاجتماعيّ ومشاريعه التنموية التحديثيّة.
  •  تحديد هُويّة المؤسّسة التربويّة، لتجاوز مخلّفات التغريب، وذلك بالتشبّث بالهُويّة العربيّة الإسلاميّة (اللّغة، المضامين التعليميّة... إلخ)، والعمل على تجاوز المنظور الميتافيزيقيّ السكونيّ لمفهوم الهُويّة بمشروع سوسيو-حضاريّ عامّ يكون داخلَ التاريخ، لا خارجَه.

 

سياق التحديث

أمّا على مستوى سياق هذا التحديث، والمقصود هنا إشكاليّة التحديث في سياقها السوسيو-حضاريّ عالميًّا، فيؤكّد المؤلّف على أنّه ينبغي الانطلاق في التعامل مع العولمة من مبادئ واقعيّة، من أهمّها: أن العولمة هي وضع بشريّ كونيّ جديد يحتّم علينا تحقيق المزيد من الوعي بشروطه ومحدّداته، لنكون داخله، لا خارجه. وعلينا بناء استراتيجيّة عقلانيّة لتدبير أنماط العلاقات والتفاعلات التبادليّة بين الذات والآخر، وتحقيق مثاقفة متوازنة بينهما، حتى في ظلّ الصراع القائم معه. وإنّ الحداثة لم تعد خيارًا، لقد أصبحت شرطًا للانخراط في سياق العصــر ثقافيًّا، ومعرفيًّا، ومؤسّساتيًّا، وحضاريًّا (محسن، 1999).

 

خاتمة

يأتي طرح الأستاذ مصطفى محسن حول أعطاب أنظمتنا التربويّة، والتصوّرات الموضوعيّة حول طبيعة مدرسة المستقبل المرجوّة، ضمن سعيه إلى بلورة منظور إصلاحيّ تربويّ اجتماعيّ شامل يضعنا كشعوب نامية على الطريق الصحيح لبناء "مدرسة المستقبل" القادرة على المواكبة والتحدّي والإبداع. وينسجم مع القناعة بأننا لا نستطيع التصدّي لتحدّيات القرن الحادي والعشرين بالمبادئ التعليميّة للقرن التاسع عشر. زمننا يشهد اكتساحًا علميًّا وتكنولوجيًّا، ولمواكبة هذه التغيّرات أو تجاوزها، نحتاج إلى كلّ قدراتنا لنتعلّم، ونبدع وفق منظور يستشرف المستقبل، محدّد في تفاصيله، يمزج بين تجارب الماضي وأفكار الحاضر. وهذا في سبيل خلق بدائل وإمكانيّات فكريّة قادرة على تشكيل فضاء لبناء الفرد الذي نريد، بإعداده وتأهيله للانخراط بكفاءة وفاعليّة في استحقاقات زمن العولمة المتحوّل على الصعد والمستويات كافّة.

وإذا كان وباء كورونا كشف لنا بعض مظاهر القصور في منظوماتنا التربويّة وطنيًّا ودوليًّا، فقد أوقفنا أيضًا على أهميّة الاستثمار في الإنسان، من أجل تهيئته ليتمكّن من تجاوز التحدّيات غير المعروفة القادمة، وتكون تهيئة إنسان المستقبل بإنماء القدرات الفكريّة والنفسيّة والبيولوجيّة للأفراد، خاصّة العناصر الشابّة، وبتسليحهم بالخبرات والمعارف اللازمة، ونمط الوعي الثقافيّ والاجتماعيّ، بهدف أن تتوفّر لديهم المؤهّلات الضروريّة، التي تمكّنهم من المساهمة الإيجابيّة المبدعة في عمليّة التنمية الشاملة المستديمة، وتمنحهم فرصًا متكافئة للعيش في مجتمع يكرّس كرامة الإنسان وحريّته، ويصون حقوقه المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

 

المراجع:

- محسن، مصطفى (2009). مدرسة المستقبل، رهانات الإصلاح التربويّ في عالم متغيّر. منشورات الزمن.

- محسن، مصطفى (2001). أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب، الأصول والامتدادات. المركز الثقافي العربي.

- محسن، مصطفى (1999). الخطاب الاصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري، رؤية سوسيولوجية نقدية. المركز الثقافي العربي.