محاورة مع د. عزيز رسمي
محاورة مع د. عزيز رسمي
  • - خبير في علم النفس التربويّ والتطوير المهنيّ للمدرّسين، وتقييم أنظمة التعليم والتدريب.

  • - حاصل على درجة الدكتوراه في علم النفس التربويّ، وعلى درجة الماجستير في القياس والتقويم التربويّ من جامعة مونتريال، كندا.

  • - عضو الهيئة الاستشاريّة في منهجيّات.  

  • - عمل لأكثر من ثلاثين عامًا في مجال التعليم والتكوين والتعليم العالي والبحث.

  • - شارك في تطوير وتنفيذ وتقييم العديد من المشاريع والسياسات التعليميّة مع منظّمات وطنيّة ودوليّة.

  • - ألّف أربعة كتب في مجال العلوم التربويّة، آخرها "الممارسات المهنيّة للمدرّسين: بين النظريّة والتطبيق"، مع د. رولا قبيسي وأ. أمهال يوسف، عن إصدارات ترشيد التربويّة (2023). 

  • - نشر نحو عشرين مقالًا علميًّا في كندا والولايات المتّحدة وأوروبا والعالم العربيّ.

 

التطوير المهنيّ في الممارسة

 

كيف نخلق رابطًا بين المعرفة النظريّة في الجامعات ومعاهد تدريب المعلّمين، والممارسة العمليّة على الأرض بمتغيّراتها الظرفيّة؟  

أريد، في البدء، أنّ أُفرِّق بين الجامعات ومراكز تكوين المعلّمين. وأتحدّث هنا عن أنموذج المغرب خاصّةً، والمغرب العربيّ عامّةً، مع علمي بأنّ الأنظمة التعليميّة متباينة في العالم العربيّ. تمكِّن الجامعات بصفة عامّة من معارف نظريّة، كعلم الاجتماع أو علم النفس. أمّا مراكز تكوين المعلّمين وكلّيّات علوم التربية، فهي مؤسّسات مهنيّة؛ تسعى إلى تأهيل المعلّمين لتمكينهم من الكفايات الأساسيّة في مهنة التدريس. 

هنا، أدعو المهتمّين بمجال التربية أو التكوين في العالم العربيّ إلى النظر إلى كلّيّات علوم التربية، كمراكز مهنيّة لتأهيل المعلّمين، تولي الأهمّيّة القصوى للممارسة المهنيّة. إذًا، الممارسة فكرة مركزيّة ضمن هذا السياق. ولتقريب الأمر، لننظر إلى الطبيب وعالم الأحياء؛ الطبيب هنا مُمارِسٌ لديه أدوات ومعارف ومساحة للممارسة، وهذا التوصيف ينطبق أيضًا على المعلّم. يُصبِح السؤال اليوميّ بالدارجة المغربيّة "آش كدّير؟" وبالفصحى "ماذا تعمل؟" مركزًا تفسيريًّا لمنطق الممارسة الأساسيّ في عمليّة التعليم. وتجدر الإشارة إلى أنّ كتابي الأخير، والذي كُتِب بالمشاركة مع د. رولا قبيسي وأ. أمهال يوسف، عُنوِنَ بـِ"الممارسات المهنيّة للمدرّسين: بين النظريّة والتطبيق"، من إصدارات ترشيد التربويّة، تضمّن إشارة إلى أهمّيّة الممارسة المهنيّة في سيرورة العمليّة التعليميّة برمّتها.  

وانطلاقًا من تجربتي المهنيّة في هذا المجال، واحتكاكي المباشر بالمؤسّسات التعليميّة، كثيرًا ما أصادف مدرّسين ذوي معارف نظريّة متواضعة، ولكنّ ممارستهم المهنيّة ناجعة، وتسهم في تحقيق النجاح الدراسيّ والتربويّ. وهذا لا يعني عدم أهمّيّة التأطير النظريّ للمدرّسين. 

ومن الملاحظ أنّ هناك نقصًا كبيرًا في عدد الخبراء والمكوِّنين المجدِّدين، والذين تُعزَى إليهم مهمّة تأطير الممارسين في ميدان التدريس بمزاوجةٍ بين ما هو نظريّ وما هو تطبيقيّ، من خلال الممارسة الفعليّة في الميدان، إلى جانب الحاجة إلى مشرفين تربويّين يساعدون الطلبة على الانفتاح على معارف ومفاهيم جديدة. فضلًا عن تمكينهم من كيفيّات تأطير هذه المعارف في الممارسات التربويّة، بحيث تستجيب إلى متطلّبات متعلّم القرن الحادي والعشرين.  

 

تُدرَّس عادةً النظريّات التربويّة الغربيّة في الجامعات العربيّة، فهل تعتقد أنّنا بحاجة إلى نظريّات تربويّة محلّيّة؟  

سأبدأ إجابتي بالتمييز بين المقاربات البيداغوجيّة والبرامج الدراسيّة، على غرار نظريّة بياجيه في التطوّر المعرفيّ (مراحل تطوّر الذكاء لدى الطفل)، إذ هي مقاربة شاملة، تصلح للتعميم على جميع الأطفال باختلاف أجناسهم وأعراقهم. وبالتالي، فالمقاربات العلميّة البيداغوجيّة مقاربات معتمَدة في جميع البرامج في مختلف دول العالم. بينما البرامج الدراسيّة المعتمَدة في كلّ دولة هي التي ينبغي أن تراعي الخصوصيّة الثقافيّة والدينيّة والعرقيّة...

ما يستحقّ الاهتمام فعلًا التركيز على الكفايات المهنيّة، والتي يجب أن تتوفّر لدى المدرّس: كفاية تدبير الفصل، وكفاية التقييم، وكفاية توظيف التكنولوجيا، وكفاية الأخلاق المهنيّة... من هنا، علينا أن نتّخذ خطوات لتوظيف مختصّين في كلّيّات التربية ومراكز تكوين المعلّمين، من أجل تعزيز اكتساب هذه الكفايات وتطويرها. على سبيل المثال، نظّمنا مؤتمر "التربية في مرحلة ما قبل المدرسة: رهانات العرض والجودة" في المغرب، والذي عُقد بالشراكة مع منهجيّات، فلاحظنا قلّة عدد المختصّين في هذا المجال في المغرب.  

 

استقلاليّة المعلّم 

 

كيف يمكننا الحديث عن استقلاليّة المعلّم وإحساسه بالفاعليّة، في ظلّ أنظمة مركزيّة بالمعنى السياسيّ، ونظام لا يُعطي قيمة للصوت المختلف بالمعنى الاجتماعيّ؟ وكيف يمكن للمعلّم صاحب التوجّه المُختلِف أن يترجم رؤيته من غير أن تضيق به المساحة؟ 

في الواقع، لا يمكننا الحديث عن استقلاليّة في الممارسة المهنيّة من دون استقلاليّة مهنيّة. ولا الحديث عن استقلاليّة المعلّم من دون استقلاليّة الإدارة التربويّة. ولا الحديث عن استقلاليّة هذه الأخيرة من دون استقلاليّة الحكومة، حيث تُتاح المساحة للمؤسّسة لتنفيذ برامجها المهنيّة التي تراعي خصوصيّة الوسط الاجتماعيّ للطالب والمؤسّسة.  

والحقيقة أنّه من غير المنطقيّ التحدّث عن استقلاليّة في الممارسة المهنيّة، إذا لم تتوفّر فلسفة ديموقراطيّة وتدبير إداريّ يضعان استقلاليّة المدرّس والمُمارسين التربويّين أساسًا للدافعيّة والعمل. بالنسبة إليّ، الاستقلاليّة أساس العمل في الميادين كافّة، والمصحوبة بالكفاءة والمسؤوليّة والأخلاق المهنيّة، واستحضار مبدأ المحاسبة والمسؤوليّة. في غياب هذه الشروط، تفقد المؤسّسات التعليميّة نجاعتها، ممّا يؤدّي إلى ضعف النتائج المتوخّاة. 

ختامًا، أنا من الذين يرون وجود ارتباط مباشر بين استقلاليّة المدرِّس المهنيّة والاستقلاليّة المؤسّساتيّة، من الصفّ الدراسيّ، إلى التسيير الإداريّ، إلى الحكومة الناجعة. 

 

كيف نعزِّز دافعيّة المعلّم، ولا سيّما في ظلّ تحدّيات مادّيّة ومعنويّة؟  

نلاحظ أنّ عدد المقبلين على مهنة التعليم على الصعيد العالميّ في انحدار. لم يعد الشباب يرغبون في هذه الوظيفة، كونها مهنة صعبة متطلّبة، وتطوّرها على مستوى المنصب أو المسيرة المهنيّة محدود. بالإضافة إلى ظهور خاصّيّة التعلّم عن بُعد، والتي أسهمت في العزوف عن هذه المهنة، ولا سيّما بعد جائحة كورونا. إذًا، هي مجموعة من المتغيِّرات، أثّرت في دافعيّة الشباب تجاه مهنة التدريس، وقادت إلى هذا العزوف. وعلى الرغم من وجود دراسات تقلِّص من الترابط بين الدخل والنجاعة المهنيّة في الدولة الواحدة، خاصّةً أنّها مهنة إنسانيّة أخلاقيّة تتطلّب تضحيات وتكوين مستمرّ للتعامل مع فئة الأطفال وإدارتها بمراحلها المختلفة، إلّا أنّ هذا لا ينفي أهمّيّة الدخل.  

في هذا الصدد، أودّ الإشارة إلى تأثير التسيير الإداريّ داخل المؤسّسة في دافعيّة المعلّم بشكلٍ كبير. أشارت عدّة دراسات إلى أنّ التدبير الإداريّ في المدارس أقرب إلى التدبير المقاولاتيّ منهُ إلى التدبير التربويّ. وهذه المسألة لا تقتصر على دولنا العربيّة، بل تشمل الدول الغربيّة أيضًا. ونأسف على حرص بعض الإدارات التربويّة الشديد على التفاصيل الإداريّة المتعلّقة بالمعلّم، كمواعيد الدوام، وضبط الحصّة الصفّيّة، وإعداد الوثائق التربويّة... مقابل إهمالها جانبه الإنسانيّ. فإدارات المدارس لا تأخذ بعين الاعتبار عمل المعلّمين الدؤوب، المرئيّ وغير المرئيّ، في المدرسة والمنزل، وتركِّز، في المقابل، على تفاصيل بيروقراطيّة ليست جوهريّة في العمليّة التعليميّة-التعلّميّة. ووفق هذا المنظور، نعدّ التدبير الإداريّ القائم على أسس غير تربويّة عائقًا أمام خلق بيئة تربويّة إيجابيّة داخل المؤسّسة، تسهم في رفع حافزيّة المعلّم من أجل العطاء. 

كما نجد أسبابًا أخرى تؤثّر سلبًا في دافعيّة المعلّم، على رأسها وجود مشكلات سلوكيّة في الفصل الدراسيّ، في ظلّ غياب منظومة تربويّة من شأنها تدبير هذه السلوكات (غياب تكوين المعلّمين والإداريّين في هذا الميدان). ويؤدّي غياب هذه المنظومة إلى ضعف أداء المعلّمين المهنيّ لتمكينهم من إدارة الصفّ الدراسيّ، وتدبير المشكلات السلوكيّة. وهو ما يفاقم معاناة المعلّم في الصفّ الدراسيّ، ويقلّل من حافزيّته تجاه المهنة، ومن مردوديّته في العمل. 

 

تقييم التعليم  

 

إلامَ تحتاج المؤسّسات التعليميّة لتقييم أدائها؟  

لا بدّ من التفريق بين التقييم الخارجيّ والتقييم الداخليّ (الذاتيّ). فتقييم المؤسّسة الخارجيّ تقييم تُجرِيه مؤسّسات وخبراء غير منتمين إلى المؤسّسة موضوع التقييم. أمّا التقييم الداخليّ، فهو التقييم الذي يُعدُّه وينفِّذُه القيّمون على المؤسّسة. وبصفة عامّة، فإنّ أنظمتنا التعليميّة بحاجة إلى خبراء وأكاديميّين متخصّصين في تقييم المؤسّسات التعليميّة، حتّى نحصل على معطيات موضوعيّة حول تسطير الأهداف والبرامج وتنفيذها وتحقيق النتائج المرجوّة. من هنا، على المؤسّسة التعليميّة أن تُخضَع لتقييمين: خارجيّ استراتيجيّ كلّ خمس سنوات، وداخليّ سنويًّا، لمراجعة الأهداف والتصويب والتعديل المستمرّ.  

وبشكلٍ عامّ، التقييم عمليّة معقّدة، فهو بحاجة إلى حوارات مستمرّة بين أطراف العمليّة التعليميّة، ومراجعة الأهداف، وتواصل مُستمرّ مع الأهل. والأهمّ تمكين المدير وإعطائه استقلاليّة وفترة لمعرفة الإشكاليّات، ومن ثمّ تحديد الأهداف وبناء الخطّة من متطلّبات المؤسّسة الواقعيّة. بالإضافة إلى متابعة صيرورتها العمليّة، لا الاكتفاء بنتائجها، من أجل التعرّف إلى مكامن الضعف، لغرض التطوير المُستمرّ؛ أي، وبكلمة أدقّ، متابعة انعكاس تحقُّق أهداف المؤسّسة وغاياتها على ممارسات المعلّم داخل الغرفة الصفّيّة، والذي عليه أن يكون شريكًا رئيسًا في عمليّة التقييم، ومتابعتها، وتنفيذها بطبيعة الحال.  

 

الواضح أن تقييم المؤسّسة عمليّة معقّدة ومركّبة، فهل يمكن للمدارس الرسميّة أو الحكوميّة أن تؤدّي التقييم الذاتيّ لتطوِّر من أدائها؟ وهل يمكن تعميم تجربة أو سياسة تقييم مؤسّسة ربحيّة على أُخرى غير ربحيّة؟ 

في ما يتعلّق بالشقّ الأوّل إجابتي واضحة: إذا وجّهت الحكومة الراشدة بالتقييم الخارجيّ والداخليّ ضمن استراتيجيّتها، ووضعت شروط إنجاز ذلك وتنفيذه، وإذا قدّرت الإدارة المدرسيّة أهمّيّة توجيهات الحكومة، ولا سيّما تأثير التقييم المنهجيّ في النتائج، وضرورة توفير عمليّة تكوين مستمرّة وتنفيذها، والعمل الجماعيّ داخل المؤسّسة، فمن الممكن جدًّا تحقيق عمليّة تقييم ذاتيّة وناجعة للتطوير والتحسين. 

أمّا في ما يتعلّق بالشقّ الثاني، فبالنسبة إلينا في المغرب، من الصعب أن يكون التقييم موضوعيًّا، نظرًا إلى تداخل المصالح. يظهر ذلك جليًّا في المؤسّسات التعليميّة الخاصّة، حيث يفتقر المدرّسون فيها إلى التكوين، ولا سيّما في المناطق النائية التي تمثّل غالبية المدارس الخاصّة في المغرب. كما أنّ جُلّ المباني غير ملائمة للتدريس مقارنة بالمؤسّسات الحكوميّة، ومؤسّسات البعثات، وبعض المؤسّسات الخاصّة المتواجدة في المراكز أو المدن الكبرى. ومع ذلك، نجد أنّ الوزارة الوصيّة على قطاع التعليم تشجّع الأسر على التوجّه نحو التعليم الخاصّ. 

إذًا، ما الذي يجعل الأهل يُدرّسون أبناءهم في المدارس الخاصّة؟ كما ذكرنا سابقًا، الدولة تشجّع الأسر على التوجّه نحو المدارس الخاصّة، بالإضافة إلى أسباب اجتماعيّة تتجلّى في البحث عمّا يسمّى بالارتقاء الاجتماعيّ المفترَض، والذي يعبِّر عن رغبة بعض الأُسر في تعليم أبنائها مع أبناء من مستوى اقتصاديّ مرتفع، وهذا الجانب اجتماعيّ يطغى على الجانب التربويّ.

وإجابة على السؤال، علينا أن نفهم مثلًا أنّ نتائج تقييم المؤسّسات التعليميّة على الصعيد الدوليّ هي تقريبًا متساوية بين المدارس الحكوميّة والخاصّة. يعود ذلك إلى سياسات المدارس الخاصّة باستقطاب الطلبة المتفوّقين. وعليه، لا تبذل المدارس الخاصّة جهدًا كبيرًا في تحقيق النتائج الدراسيّة، بينما يتركّز الاهتمام على رضا الطلّاب وآبائهم ومراقبتهم سلوكيًّا وأخلاقيًّا. والأمر المثير هنا هو التقصير في التقييمين الخارجيّ والداخليّ للمدارس الخاصّة والحكوميّة.

 

في كتابك المُشترك مع د. رولا قبيسي وأ. أمهال يوسف "الممارسات المهنيّة للمدرّسين: بين النظريّة والتطبيق"، والذي صدر حديثًا عن إصدارات ترشيد التربويّة، تُناقش فكرة أنّ التعليم والتقييم عمليّة واحدة، وتتحدّث عن تقييم الهادف إلى تطوير أداء المتعلّم وإشراكهِ في العمليّة التعليميّة. شاركنا توضيحك لهذا المفهوم المثير للاهتمام.  

شهد الميدان التربويّ العالميّ تغيّرات جذريّة في العشرين سنة الأخيرة، منها انزياح التعليم من تعليم معارف إلى تعليم كفايات، ومن تمركُز عمليّة التعليم حول المعلّم باعتباره مصدرًا للمعرفة وفاحصًا لها، إلى تمركُزها حول المتعلّم.  

هذه التغيُّرات في عمليّة التعليم فرضت مباشرةً تغيُّرات في عمليّة التقييم. تطوّرت عمليّة التقييم من عمليّة خطّيّة ثنائيّة، إلى شبكة واسعة مركَّبة ومُستمرِّة. يكتسب الطالب الكفايات والمهارات الآن في صيرورة تعلّمهِ، ولديهِ الأدوات لفحصها وتطويرها بالتدريب على ما يضعف منها لديه. مثال توضيحيّ على ذلك، بدلًا من حفظ تلقينيّ مجموعة معلومات يفحصها اختبار، بات لدينا مجموعة من الكفايات والمهارات التي لا تُختبَر بامتحانٍ، وإنّما بعمليّة تقييم متجاوِرة مع عمليّة التعلّم، حيث يفحص المتعلّم باستمرار تمكّنهُ من اكتساب المهارة ومراحل تطوّر هذا الاكتساب لديه بتيسير المعلّم.  

 

هنالك صورة مثاليّة لفكرة "الطالب يقود تعلّمه"، بينما هنالك شكوى حقيقيّة من المعلّمين من غياب دافعيّة المتعلّمين. ماذا تقول بغياب دافعيّة المتعلّم؟ 

أريد أن أطرح السؤال بطريقةٍ مختلفة، هل كانت الدافعيّة قديمًا موجودة عند الطلبة والآن تلاشت؟ ببساطة، أنا أعتقد أنّه منذ وقتٍ طويلٍ، تشكّل الدافعيّة تحدّيًّا دائمًا في العمليّة التعليميّة-التعلّميّة. وعلى الرغم من أنّ هناك تغيُّرًا في طرق التعليم والوسائل والأدوات البيداغوجيّة، إلى جانب تبنّي نظريّات جديدة وإدماج تكنولوجيّات التعليم، وتغيُّر في مفاهيم التدبير والإدارة الصفّيّة، من مفاهيم قديمة تستند إلى الضبط وممارسة السلطة، إلى مفاهيم وممارسات أكثر رحابة، إلّا أنّ المشكلة في كلّ ما سبق، أنّ المعلّم لم يتلقَّ تكوينًا وتدريبًا شاملين وملائمين لكلّ هذه السياقات الجديدة، بما تشمله من مساحات واسعة من الوسائل والأدوات.  

من هنا، أرى أنّ الدافعيّة لم تتغيّر بين الماضي والحاضر، بل ما تغيّر هو ضعف قدرة المعلّم على إدارة الصفّ، وعدم قدرته على مواكبة إيقاعات الجيل الجديد، ومستجدّات السياقات التربويّة، والتحوّلات الاجتماعيّة لدى الطلّاب والأسر والمجتمع بصفة عامّة. وفي سياق تختلف فيه الآراء، أعتقد أنّ هذا الأمر يحتاج إلى دراسة وفحصٍ، ولا سيّما أنّ الدافعيّة عامل مغيِّر وديناميّ، يحتاج إلى تتبُّع وتقييم مُستمرّين.  

 

التكنولوجيا في التعليم 

 

هل حضور التكنولوجيا أو الذكاء الاصطناعيّ في الصفّ حميد دائمًا؟  

سأقسِّم الجواب إلى قسمين:  

بخصوص التكنولوجيا، وببساطة، لا أعتقد أنّنا نستطيع اليوم التخلّي عنها في الحياة. هنالك مهارات أساسيّة كالبحث والقراءة، ومهارات مختلفة أخرى، تقود إلى خلاصة تفيد بإيجابيّة توظيف التكنولوجيا في التعليم، وهذا ما لوحظ أيضًا في تجربة التعليم عن بُعد خلال فترة الجائحة. وفي ما يخصّ إدماج التكنولوجيا في التعليم، تجدر الإشارة إلى ضرورة توفير تكوين قبليّ مهمّ ضمن هذا السياق، من أجل توظيف ناجع لتقنيّات تكنولوجيّة تؤدّي دورًا في تحقيق الهدف التعليميّ.  

أمّا عن الذكاء الاصطناعيّ، فإشكاليّاته كبيرة بأدواته الواسعة. والحقيقة أنّني لم أطوِّر موقفًا واضحًا من إدماجه أو توظيفه في التعليم، ولكنّني على دراية بأنّ بعض المؤسّسات في الغرب بدأت تُدرِّب المعلّمين من أجل إدماج أدوات الذكاء الاصطناعيّ للمساعدة ضمن أمور معيّنة، على غرار بناء خطط، وتحضير إجراءات الدروس.  

أعترف أنّ عدم تطويري موقفًا كان لاحقًا لمرحلة تجريبيّة لأداء ChatGPT، وذهولي من أدائه الدقيق في البحث والمعالجة والتحليل في موضوع ضمن مجال تخصّصي. لكنّي، أُشير إلى وجود مشكلات أخلاقيّة محيطة بهذه الأدوات، والتي ستُشكِّل صعوبات كبيرة إن استُخدمت في غير سياقها. أركِّز هنا على أهمّيّة الديموقراطيّة ضمن سياقنا: تكوين إنسان حُرّ يحمل منظومة أخلاقيّة، ويمتلك مهارات تفكير ناقد. بهذا التكوين، نضمن توظيفًا إيجابيًّا خلّاقًا لأيّ أداةٍ كانت، من دون الخشية من سلبيّات استخداماتها. 

وإلى جانب خوفي ونقدي الاستخدامات السلبيّة للذكاء الاصطناعيّ، أرى أنّ إحدى المشكلات التي نُقبِل عليها تتمثّل في تهديد هذه الأدوات وظائف ومهنًا مختلفة، ولا سيّما في دول غير ديموقراطيّة. الأمر الذي ينعكس مباشرةً وبوضوح على توزيع طبقيّ جديد لن يكون، بطبيعة الحال، في صالح الطبقتين المتوسّطة والدنيا.   

 

في شهر شباط 2023، عقدتم، بالشراكة مع منهجيّات، مؤتمر "التربية في مرحلة ما قبل المدرسة: رهانات العرض والجودة"، ما الخلاصات التي توصّلتم إليها خلال المؤتمر؟ وما تقييمك تجربة منهجيّات في المؤتمر، وفي المشهد التربويّ العربيّ عامّةً؟

تقييم المؤتمر كان إيجابيًّا جدًّا، ولاحقًا لأهدافهِ التي ركّزت على أمور مختلفة، منها أهمّيّة الموضوعات المطروحة ومركزيّتها، إلى جانب التشبيك والتواصل بين المؤسّسات والأفراد. بالإضافة إلى النقاشات الخلّاقة وتقديم توصيّات تربويّة قابلة للتحقيق والتطبيق في المجتمعات العربيّة عامّةً، والمجتمع المغربيّ خاصّةً.

أمّا عن مشاركة منهجيّات، فكان لها دور رئيس في إنجاح المؤتمر وإثرائه والتشبيك بين المشارِكات والمشاركين. إلى جانب اطّلاع المدرسة العليا للأساتذة في الدار البيضاء على منهجيّة عمل منهجيّات المهنيّة والدقيقة؛ هذه الشراكة التي أسهمت في إثراء المؤتمر، أسهمت في الوقت نفسه، في نشر باحثين مغاربة في هذا العدد، لإيصال تجارب محلّيّة مختلفة وتعميمها، وتكوين نقاشات حولها عربيًّا. وهذا دور رأيتُ نفسي فيه جزءًا من المؤسّستين: أستاذًا في المدرسة العُليا، وعضوًا في الهيئة الاستشاريّة لمنهجيّات.  

وبكلمة عامّة، أقدِّر تجربة منهجيّات بوضوح، فهي تجربة اختصاصيّة في الحقل التربويّ العربيّ، تُثريه بخبرات مهمّة. وهذا أمر ينقصنا في العالم العربيّ، تستحقّون عليه الثناء والتقدير.