محاورة مع د. رفعت صبّاح
محاورة مع د. رفعت صبّاح

 

  • - يحملُ درجة الدكتوراه الشرفيّة في التربية من جامعة المعارف في اليمن.
  • - رئيس الحملة العالميّة للتعليم.
  • - رئيس البيت العربيّ لتعليم الكِبار والتنمية (AHEAD).
  • - المنسّق الإقليميّ للحملة العربيّة للتعليم للجميع (ACEA).
  • - رئيس الشبكة العربيّة للتربية على حقوق الإنسان والمواطنة.
  • - مؤسّس مركز إبداع المعلّم.
  • - يتمتّع بخبرة واسعة في مجال التعليم باعتباره فاعلًا اجتماعيًّا، إذ يعمل على تمكين المعلّمين وتعزيز دورهم الحاسم.
  • - عضو مجلس إدارة وممثّل عن المجتمع المدنيّ في عدد من المنصّات الدوليّة الرائدة: اللجنة التوجيهيّة للتعليم رفيع المستوى 2030؛ فريق التنسيق الدوليّ في مشاورة اليونسكو الجماعيّة للمنظّمات غير الحكوميّة بشأن التعليم 2030؛ اللجنة الاستشاريّة للجنة الدوليّة لمستقبل التعليم بقيادة اليونسكو؛ المجلس الاستشاري للتقرير العالميّ لرصد التعليم (GEM)؛ اللجنة التوجيهيّة رفيعة المستوى للتعليم لا ينتظر (ECW).

 

كيف يعرّف رفعت صبّاح بنفسه؟

معلّم، أنا بالأساس معلّم، وبدأتُ معلّمًا في مرحلةٍ، بين 1990 و1994، وهي فترة من الفراغ القانونيّ/ المؤسّساتيّ في المدارس، حيث كانت فترة نهاية الانتفاضة الأولى، ولم يكن لدى الاحتلال سلطة كاملة على المدارس. وكانت، كذلك، بداية محادثات اتّفاق أوسلو، حيث كانت السلطة الفلسطينيّة بعيدة عن استلام زمام المنظومة التعليميّة. وبالتالي، أدّى انسحاب الاحتلال من مسؤوليّته تِجاه التعليم وسيره، ومحاولاته المستمرّة لتخريب التعليم وتعطيل العمليّة التعليميّة عبر إغلاق المدارس لسنوات، إلى خلق نوع من الفوضى في قِطاع التعليم. وكان هناك نوع من الصراع بين المعلّمين والطلبة، والذي انعكس بالانخراط في الحالة الثوريّة في حينهِ، ما جعل العلاقة بين الطلبة والمعلّمين والأهالي تحملُ نوعًا من عدم التوازن. ما توازى مع إحساس عامّ بقلّة أهمّيّة التعليم، ولا سيّما في سياق وقع فيهِ التعليم تحت سلطة احتلاليّة. الأمر الذي كرَّه الطلبة بالمؤسّسة.

 

عن التعليم الشعبيّ في الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى

وفي ذلك الوقت، قمنا نحن، المعلّمين، بإعادة ترتيب بعض الأمور، والتأكيد على أهمّيّة التعليم، مع فهمنا الحالة الجمعيّة الثوريّة في ذلك السياق، وبدأنا بتشكيل مجموعات معلّمين لحماية الطلبة. وكان اتّفاق أوسلو قد وُقّع في ذلك الوقت، سنة 1993، فبدأت السلطة الفلسطينيّة التواصل لخلق مساحة لاستلام المؤسّسة التعليميّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. علمًا أنّنا كنّا قد بدأنا بتطبيق أفكار ومبادرات بهدف خلق توازنات بين أطراف العمليّة التعليميّة، تُسهِم في تكوين علاقة صحّيّة بين المعلّمين والطلبة، وتموضع مفهوم التعليم عند الطلبة كأداة تحرّر.

 

ولكن قبل ذلك، وتحديدًا عندما أُغلقت جامعة بيرزيت والمدارس، وعُدنا، نحن والطلبة، إلى قرانا ومُدننا، بدأنا العمل على فكرة التعليم الشعبيّ، بتطوير مناهج تركّز على تعليم الصفوف الابتدائيّة، كونها مرحلة تأسيسيّة حسّاسة. وامتدّت حالة التعليم الشعبيّ إلى مُختلف مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. والآن، نرى أنّ منهجيّة التعليم الشعبيّ في ذلك الحين، أنقذت الطلبة، ولا سيّما في المراحل الأساسيّة، للِحفاظ على المهارات القرائيّة وتنميتها. بطبيعة الحال، عانينا لاحقًا من "الفاقد التعليميّ"، إن جاز التعبير، نتيجة إغلاق المدارس، وتحديدًا طلّاب المرحلة الثانويّة الذين اندمجوا في الحالة الثوريّة. وبالتالي، كان الالتزام في مسألة التعليم، بالنسبة إليهم، موضوعًا فوق المنطق. ومع ذلك، كنّا واعين أهمّيّة الحفاظ على استمرار العمليّة التعليميّة، ولا سيّما أنّ قوّات الاحتلال كانت تدفع إلى حركة فوضى في المدارس والتعليم، من أجل تجهيل أجيال كاملة. وأقول إنّهم نجحوا في بعض أهدافهم، ولكن كون التعليم مصدرًا أساسيًّا عند الفلسطينيّين، وأداةً أساسيّة للحياة والصمود، انصبّ الاهتمام على التعليم، ممّا أثّر في النُضج والوعي الجمعيّ.

 

عن الحِرص على التعليم فلسطينيًّا

وفي سياق الإبادة الجماعيّة والكوارث الإنسانيّة الجارية الآن في غزّة، ما زال الناس يحرصون على الوصول إلى المدارس/ التعليم، نتيجةً للحرص على التعليم، ووعي الفلسطينيّ أنّ التعليم والمدارس جزءٌ من استهداف الاحتلال، لتحقيق تجهيل الفلسطينيّين بقضيّتهم وروايتهم ووعيهم الجمعيّ.

 

والحقيقة أنّ إصرار الطلبة والمعلّمين على استمرارهم في العمليّة التعليميّة في خضمّ المستحيل، مذهلٌ؛ فالصفوف تنتقل بانتقال القصف، فقبل قصف خانيونس كانت هناك صفوف مختلفة، انتقلت إلى رفح بعد قصف خانيونس، وهذا يدلّ على قوّة الناس ومحاولاتهم التماسك في مختلف جوانب الحياة، ممّا يفتحُ مجالًا للصمودِ والأمل.

 

هاجس النشر عتبةً إلى التعليم

عندما كنتُ طالبًا في جامعة بيرزيت، وناشطًا في مجلس الطلبة، أسّسنا نحن، مجموعة طلبة، في الانتفاضة الأولى مجلّة "الغربال"، والتي كنتُ مدير تحريرها. وكانت تُعنى أساسًا بالأدب الديمقراطيّ. وكنّا نستكتبُ كُتّابًا وأكاديميّين وتربويّين وسياسيّين للإسهام في المجلّة، وكانت الفكرة نقاش البُعد الأدبيّ الفلسطينيّ ودوره في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وفي الوقت نفسه، تركيزًا على التنوّع والتعدّد وضرورته في المجتمع الفلسطينيّ بإطارٍ أدبيّ.

 

وفي تلك الفترة، تشكّل لديّ شغف بالرواية الأدبيّة، وكان عندي اهتمام بالرواية اليساريّة، على غرار روايات حنّا مينة وغسّان كنفاني، مع أنّ تخصّصي في الأدب العربيّ كان يدفعني إلى نجيب محفوظ، وقرأتُ الرواية الروسيّة التي كانت مهمّة بالنسبة إليّ. هذا الشغف بالكُتب دفعني إلى فكرة تأسيس دار نشر، فبدأتُ أطبع كتبًا وروايات، في الفترة 1990 و1994، وهي الفترة ذاتها التي عملت فيها معلّمًا. وكنتُ أطبع آلاف النسخ، وأوزّعها بسعر زهيد. وكنتُ أعمل، وأنا طالب في الجامعة، في بيع الكُتب وتوزيعها قبل أن أعمل معلّمًا. ومن بين الكُتب التي طبعناها، كانت هُناك قصص أدب أطفال، فكنتُ أمرُّ على مدارس مختلفة لبيعها. وفي يوم كنت في مدرسة أبيع كتبًا، وكانوا يحتاجون إلى معلّم، فبدأت مسيرتي في التعليم. وخلال عملي معلّمًا، بدأت تتشكّل عندي أهميّة المدرسة الاجتماعيّة: كيف تخلق المدرسة حالةً من السلم الأهلي؟ وكيف تؤدّي دورًا في صقل الطلّاب بأبعاد وطنيّة واجتماعيّة، انطلاقًا من إيماني بأنّ مُرافقة الجوانب الاجتماعيّة للجوانب الوطنيّة والأكاديميّة أمرٌ مركزيّ ومهمّ جدًّا؟

 

وعودةً إلى سياق توزيع الكتب؛ كُنّا نوزّعها مجّانًا على الطلبة، ونعقد جلسات نقاشيّة لها باستضافة أدباء بارزين أو نقّاد أدبيّين، للإسهام بتأسيس رؤية مبكّرة فكريّة اجتماعيّة وسياسيّة عند الطلبة. ولكنّ اندماجنا في التدريس، ومحاولتنا بوصفنا معلّمين، إيجاد حلّ للأزمة التربويّة العميقة في خضمّ الانتفاضة الأولى، أبعدني عن تأسيس دار النشر، وقرّبني من فكرة تأسيس مركز إبداع المعلّم، والتي كانت فكرة نُناقشها من دون مأسسة واضحة. ولكن مع وجود السلطة، بات علينا ترخيص المؤسّسة، بينما كانت الفكرة تأسيس حركة تربويّة فلسطينيّة تحملُ رؤية تنويريّة تقودُ إلى الإسهام في المجتمع.

 

ومن هُنا، انصبّ تركيزنا على الجوانب الاجتماعيّة في التعليم، كوننا كنّا نريد حراكًا اجتماعيًّا موازيًّا للحراك الثوريّ، من أجل إخراج إنسان سويّ يؤدّي أكاديميًّا، وواعٍ إنسانيًّا واجتماعيًّا. من هُنا، كانت هناك مخرجات اجتماعيّة للمدرسة، مخرجات تقدّميّة إنسانيّة تُسهم بدفع الناس إلى حُبّ الذات أوّلًا، منطلقًا للإنتاج والمقاومة والفِعل.

 

بدأت التعليم صُدفةً، ما الذي دفعك إلى الاستمرار؟ وما الرؤية التربويّة التي شكّلتها؟

هو الشغف. الشغف في المهنة وفي سياق رؤية، هو ما يجعل الناس تستمرّ في عملها. والحقيقة أنّ علاقتي مع طلبتي كانت ممتازة، وهو ما يتجلّى وينعكس برؤيتي القائمة على ربط المخرجات الاجتماعيّة بالمخرجات الأكاديميّة. وركّزت في بداية تجربتي، على التربية المدنيّة والاجتماعيّة، لأنّ إنتاج الخِطاب يحتاج إلى وعي وإنسانيّة وديمقراطيّة، ولا سيّما وسط أجواء عنيفة، بطريقة تحول دون تحويل هذا العُنف إلى عنف داخليّ. وبالتالي، تطويع الطلبة لقبول العنف، وهذا أمر خطير. وكنّا واعين لهذا الأمر؛ ففي الانتفاضة الأولى، وبشكلٍ غير مرئيّ، كانت هُناك مشكلات، لأنّ الثورة تشكّل حالة عامّة، فيصعب الانتباه إلى التفاصيل وهي مهمّة، كالإشارة إلى خطأ شخص ما. والمضيّ مع هذه الأخطاء الصغيرة المقبولة أخلاقيًّا، يقودُ إلى تدمير ذاتيّ، لأنّ الحالة أيضًا تُسهم بتذويت قيم ناتجة عن حالة جمعيّة ليست بالضرورة صحيّة أو سليمة كلّيًّا. والحقيقة أنّ الاحتلال يُسهم في توتّر الروابط بين الفلسطينيّين، فالدبابات، باجتياحاتها المستمرّة، تستبدلُ الحُب بالتوتّر والغضب والحزن، وهو، باعتقادي، يقصّر مدى المقاومةِ في الفرد.

 

من هنا، كنّا نعمل في المدارس على استعادة الحُبّ والأمل مع الطلبة، لأنّنا كنّا نعلم أنّ الإحباط كان قريبًا، وإن سيطر على الطلبة فستكون النتائج سلبيّة. وكنّا نقوم بذلك بما يؤدّي إلى تطبيق اعتبارنا أنّ التعليم أداة تحرّر سياسيّ واجتماعيّ وأخلاقيّ وثقافيّ. لذلك، كان ضروريًّا ربط الوظيفة الاجتماعيّة للتعليم، بوظيفته الأكاديميّة، لتحقيق عمليّات تحويل في التعليم أيضًا. فعلى سبيل المثال، عندما نسعى إلى تعزيز تعليم نقديّ وتحرّري، نحنُ بحاجةٍ إلى عقليّات تحويليّة، كونها ستُشكّل قاعدة هذا التغيير. وبدون هذه العقليّات لن يؤخَذ التعليم إلى أبعاد تحويليّة أو إدماجيّة أو تحرّريّة. وأعتقد أنّ هُناك من يؤمن بأنّ الوظيفة الاجتماعيّة للتعليم تمثّلُ بُعدًا غربيًّا، ولم أرَ أبدًا صحّة هذا الأمر، ولكنّ هذه الأفكار موجودة، وتحتاج إلى نقاشات عميقة صحّيّة، وعليها أن تمتدّ إلى بُعدٍ إقليميّ، لأنّ الإقليم مترابط، والمصادر مُشتركة عربيًّا، لتؤسّس حركةً تربويّة عربيّة، تُسهم في الأبعاد الوطنيّة، ومن هُنا كان تأسيس الحملة العربيّة للتعليم.

 

ما تحدّيات المعلّم الفلسطينيّ التي يتشارك فيها مع زملائه في العالم؟ وما التحدّيّات الاستثنائيّة أمامه؟

الحقيقة هُناك تحدّيات مُختلفة: تحدّيات في الوضع السياسيّ، وهي تحدّيات معقّدة؛ وتحدّيات في العقليّة، وهي تحدّيات تتعلّق بالمنظومة الرسميّة في التعليم، وخوفها المتعلّق بالسيطرة على المدرسة، ولا سيّما في زمنٍ كان المعلّم يدرك فيه أنّ الخيال أهمّ من المعرفة، والحوار المبنيّ على الخيال والانفتاح مهمّ في الوصول إلى الحقيقة واكتساب معرفة تحرّريّة. كما أدّت المناهج دورًا سلبيًّا في تحديد المعلّم ضمن إطار مادّة ماضويّة يصعب الخروج عنها، ليضطرّ إلى إعادة نقل هذه المادّة، ذاتها، من جيلٍ إلى جيل. وعليه، فقضيّة المناهج، باعتقادي، من أصعب القضايا التي تواجه المعلّم اليوم، وتحدُّ من حرّيّته إلى حدٍّ كبير، إلى درجة أنّ المعلّمين يعتقلون في كثيرٍ من الدول، إن خرجوا عن المنهاج بسؤالٍ أو نقاش. وهو ما يقود إلى أنّ المنظومة السياسيّة الاجتماعيّة العربيّة شبيهة إلى حدٍّ كبير ببعضها، يجمعها الخوف ومحاولة السيطرة، والتعليم مساحة من هذه المساحات التي تسعى المنظومة دائمًا إلى حدّها وتحديدها والسيطرة عليها. وخلاصتي، أنّ التحدّي الذي يواجه المعلّم يتمثّل بعدم قدرته على إنتاج المعرفة وتحسين التعليم وتطويره في ظلّ بيئة سياسيّة قمعيّة، وتحويل فئة المعلّمين إلى فئة محاطة بسياسات وإجراءات تجعلها خائفة على الدوام على الراتب الشهريّ.

 

وهُنا، أودُّ الإشارة إلى تحدٍّ آخر، يتلخّص في أنّ قيمة التعليم ارتبطت براتب، وراتب المعلّم قليل فعلًا بالنسبةِ إلى شخصٍ "يُهندسُ العقول". وبالتالي، هُناك قيمة اجتماعيّة للمعلّم فُقدت من الراتب والتغيّرات الاجتماعيّة. وبالمقارنة مع المعلّمين في أزمان مضت، المعلّمون الجُدد لديهم كمّ هائل من المعلومات والاستراتيجيّات، ولكنّ المعلّمين قديمًا كانوا يؤدّون أدوارًا اجتماعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة وسياسيّة، ومن هذه الأدوار نالوا قيمةً اجتماعيّة. أمّا الآن، فالمعلّم مُنع من أداء هذا الدور الاجتماعيّ، وتُقمع محاولات تقرّبه إلى هذا الدور، وحُصر دوره في التعليم البحت، الأكاديميّ. ولا يُمكن حلّ هذا الأمر، إلّا بتفكيك هذه المنظومة، والإيمان بأفكار تنويريّة قويّة، تُقادُ عربيًّا.

 

بداية مشروع مركز إبداع المعلّم: تطوير ذاتيّ داخليّ أم نضال في وجه محتلّ؟

كانت البداية خليطًا بين الجهتين. ففكرة تأسيس مركز إبداع المعلّم هي المناعة التربويّة، والتي تقود إلى المناعة الوطنيّة. وأنا أؤمنُ بالتخصّص، وبالقدرات، وعلينا ألّا نُحمّل الفرد أعلى من طاقته - وكلٌّ من مجالهِ؛ سواء الكتابة أم الغناء أم الرقص، فعمليّة النضال ليست محصورة، بل واسعة ومنفتحة على أنواع مباشرة ومختلفة، على غرار التعبير بالفنّ والكلمة والشعر؛ فمن لوحة قد تنطلقُ ثورةٌ، وقصيدة شعر قد تغيّر مشاعر جماهير... ونحنُ بحاجةٍ، كذلك، إلى توافق وجدانيّ بين الناس في المجتمع تجاه فكرة أو قضيّة موجودة في الأذهان والقلوب.

 

إذًا، فالمركز جاء لتعزيز مناعة تربويّة عند المعلّمين الفلسطينيّين، من أجل تحسين الأوضاع والظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، للخلاص من الاحتلال، وتحسين الأوضاع أوّلًا، لأنّ عمليّة النضال تحتاج إلى محبّة وعمل. والحقيقة أنّ المركز بُني على أساس أنّ الخلاص من الاحتلال أساسٌ لعمليّة تطوير التعليم، من غير إغفال ضرورة الانفتاح خلال عمليّة النضال والثورة على المتضامنين في العالم، والانتباه إلى الخِطاب الفلسطينيّ إلى العالم، لئلّا يكون ضدّ دين مثلًا: فحركات اليهود في العالم اليوم متضامنة مع غزّة ومع فلسطين، وهذا يحتاج، مُجدّدًا، إلى انتباه ووعي يأتي من خلال التعليم، فتكون المدرسة واعية ومؤسِّسة وتفتح على مساحات مهمّة، مع ضرورة النظر إلى الأمور من دون خسارة الإنسانيّة، وبإيجابيّة.

 

انطلق مركز إبداع المعلّم لمواجهة ثلاثة تحدّيات: الحقّ في التعليم، وبرنامج التربية المدنيّة، وبرنامج الدعم النفسيّ الاجتماعيّ. لمَ ركّزتم على هذه التحدّيات؟

في الواقع، البرامج الثلاثة مرتبطة ببعضها، ولكنّ فصلها يأتي نتيجة ضرورات العمل. ولتوضيح ذلك، التعليم يحتاج إلى ثلاثة مسارات: الحقّ في التعليم؛ وصول الطلّاب إلى مدرسة آمنة؛ وقدرة المدرسة على التكيّف وحاجات الطلّاب، وتوفير تقنيّات التعليم، وتأهيل المعلّمين المرتبط ارتباطًا واضحًا بقضايا المواطنة وقضايا التربية المدنيّة التي هي الوظيفة الاجتماعيّة للتعليم. فعند الحديث عن الوصول الآمن إلى المدرسة، يشمل الحديث أيضًا وصول الفتيات وذوي الإعاقة والمهمّشين وتوفير الميزانيّات لتعزيز ذلك. ولكنّ فصل هذه الفئات ضروريّ لتسهيل استيعابها وفهمها: فالنوع الاجتماعيّ مثلًا، مصطلح يُنظر إليه على أنّه نقاش حرّيّة المرأة كانطباع عامّ، أمّا في الواقع فهو مفهوم يفكّك علاقات القوّة، ليسَ بين المرأة والرجل وحسب، وإنّما بين الشمال والجنوب أيضًا. وما يحدث الآن في غزّة مثال واضح، ولا سيّما مع فشل الحركة النسويّة العالميّة في حماية نساء غزّة. واستعمال مصطلح مثل التعليم الدامج لا يقتصر على دمج مدرسة في منطقة مهمّشة فقط، بل هو مفهوم يعكس علاقات القوّة الموجودة في هذا العالم، ومن هُنا، تظهر مشكلة أنّنا لسنا شركاء في إعطاء المعنى للأشياء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى برنامج الدعم النفسيّ والاجتماعيّ، وهو برنامج مهمّ، يسعى إلى تعزيز حصانة المعلّمين والطلبة النفسيّة، وقد طوّرنا منهجيّات عديدة لتعزيز أهداف البرنامج.

 

خلاصتي أنّ البرامج الثلاثة مُترابطة لتحقيق الهدف الأساسيّ: وجود تعليم مجّانيّ وإلزاميّ وشامل ونوعيّ مدى الحياة.

 

ما أشكال الأنشطة التي قمتم بها في المركز والتي تصل إلى مواجهة هذه التحدّيات؟ وما العقبات التي واجهتكم في ذلك؟

بما يتعلّق بالأنشطة، ولحماية الحقّ في التعليم، سواء من الاحتلال أم من تقصير الجانب الوطنيّ، أسّسنا الائتلاف التربويّ الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وغزّة، والذي ضمّ عشرات المؤسّسات. ينصبّ تركيزنا في الائتلاف على السياسات، من إيماننا بأنّ العمل الجماعيّ ضمن هذا السياق أشمل وأكثر تأثيرًا، ولا سيّما عند الحديث عن السياسات المُختلفة: الإدماج والبدائل إلخ...

 

إذًا، عملنا على السياسات، وعلى تعديل بعض القوانين والإجراءات الموجودة، واقتراح سياسات أُخرى، وتوثيق انتهاكات الاحتلال المُستمرّة للتعليم والمدارس، وكذلك دعم المدارس الموجودة في مناطق معرّضة للهدم وإسنادها. ولم نكتفِ بهذا الائتلاف المحلّيّ، فأسّسنا الحملة العربيّة للتعليم، انطلاقًا من شموليّة البرنامج، والطموح بخلق حركة تربويّة عربيّة قادرة على الإسهام بإحداث تغيير حقيقيّ في السياسات والبُنى الفكريّة والتنظيميّة والتربويّة الموجودة ضمن الأنظمة.

 

أخبرنا عن تجربة ريادتكم الحملة العالميّة للتعليم، والتحدّيات التي واجهتم.

امتدّ هذا النشاط إلى تواجدنا في المساحات الدوليّة. وجزء من عملنا الحثيث على هذا المستوى، إلى جانب تأسيس الحملة العربيّة للتعليم، كان تمثلينا المجتمع المدنيّ العربيّ في ما يُطلق عليه "CC NGO’s"، مع اليونسكو، وهو إطار يمثّل المجتمع المدنيّ في العالم، للتعديل والتطوير على أجندات التعليم عالميًّا. ولاحقًا لذلك، سنة 2011، التحقنا بالحملة العالميّة للتعليم، وهي أكبر حركة تربويّة عالميّة، وانتُخبتُ سنة 2018، رئيسًا وأُعيد انتخابي لدورة أُخرى سنة 2022. وهي حملة تضمّ 120 دولة، تُمثّلها عشرات الآلاف من المؤسّسات التربويّة. الأمر الذي جعل سير الانتخابات معقّدًا وتنافسيًّا. ولكن، وباعتقادي، كانت نقطة القوّة بالنسبة إلينا، خِطابنا المتوازن، لإيماني بأنّ الخِطاب المتوازن والعقلانيّ يجعل الإنسان متّسقًا مع ذاته ومع معاييره، والحديث هُنا بشكلٍ عامّ، أمّا في سياق مقاومة الاحتلال، فيتغيّر الخِطاب، ولكن لا تتغيّر المعايير القائمة على الديمقراطيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة.

 

والحقيقة أنّ رؤيتنا وفلسفتنا، سواء شخصيًّا أم على صعيد المؤسّسة، تنعكس في العديد من الأنشطة التي قمنا بها في ظروف ليست سهلة. على سبيل المثال، في الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، عملنا على العنف والأزمة والتربية المدنيّة والحقّ في التعليم، وأنتجنا دليلًا تدريبيًّا، وصلنا به إلى 40 ألف معلّم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بالتّعاون مع وزارة التربية والتعليم، إذ دُرّبوا على هذا الدليل، إلى جانب عدد كبير من المدراء، للمُضيّ ببناء مناعة القيادة التربويّة، لتكون قادرة على تسيير العمليّة التعليميّة وتيسيرها بكفاءة وفعاليّة. وبالإضافةِ إلى هذا العمل، توسّع مركز إبداع المعلّم أكثر في المنظّمات العالميّة؛ فأنا أمثّل، كذلك، الحملة العالميّة في اللجنة السياسيّة العُليا مع "اليونسكو"، وكذلك اللجنة السياسيّة العُليا مع "التعليم لا ينتظر"، فضلًا عن المنتدى السياسيّ رفيع المستوى في الأمم المتّحدة. ووجودي ودوري مواطنًا فلسطينيًّا في هذه المستويات مهمّ، فنحنُ نؤدّي أدوارًا عديدة لا تنحصر في إيصال الصورة على الأرض لعديد من الدول لكسب التأييد، أو إيقاف بعض السياسات ومشاريع قرارات تسعى إلى حرمان السلطة الفلسطينيّة من تمويل في مجال التعليم، وهذا ينصبّ في المناصرة والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينيّ.

 

أمّا على صعيد المدارس، فنعمل مع آلاف الطلبة على مشاريع في التربية المدنيّة، وهي مشاريع قائمة على مناهج تقوم على "التعليم عن طريق العمل". تبدأ من العمل مع المدارس على مبادرات وقضايا وأفكار لتطوير مُستمرّ لحالتها الداخليّة والخارجيّة. كما نُدرّب الطلبة على قضايا المواطنة: المواطنة السياسيّة؛ والمواطنة الرقميّة؛ والمواطنة البيئيّة، لإنماء حسّ المواطنة الفاعلة السياسيّة عندهم، بتدريبات عمليّة، تربط المساقات الأكاديميّة بالجوانب الاجتماعيّة، مع تعزيز مهارات البحث والاستنتاج والنقد والفحص، يُسهم الطلبة، ضمن برنامج التدقيق الاجتماعيّ، في نقد مؤسّسات ومستشفيات من أجل تحسين الظروف المُجتمعيّة والحياتيّة، كمواطنين فاعلين في التغيير للأفضل.

 

والآن، وفي ظلّ الأحداث المؤسفة والمؤلمة في غزّة، نستمرّ بالعمل في برنامج الدعم النفسيّ والاجتماعيّ في مراكز الإيواء، بمنهجيّة التعلّم العاطفيّ - الاجتماعيّ التي تُساعد الطلبة وتدعمهم في مهارات إدارة الغضب وتقوية الذات، بأنشطة دقيقة، حيث طوّرنا أدلّة تفصيليّة للمعلّمين، ودُرّبوا عليها لتنفيذها مع الطلبة. والعمل ضمن البرنامج مستمرّ، ليس في غزّة فحسب، بل في قرى فلسطينيّة مُعرّضة لهجمات المستوطنين، وأُخرى بجانب جدار الفصل العنصريّ أيضًا.

 

والحقيقة أنّ العمل مع عشرات آلاف الطلبة على هذه القضايا، خرّج مواطنين فاعلين يقودون اليوم مؤسّسات كبيرة، ويُسهمون في تطوير المجتمع الفلسطينيّ، وفي الاستمرار بعمليّة المواطنة الفاعلة. والاستمرار قدرة كبيرة في ظلّ ظروف متغيّرة على الدوام، ومحبطة في كثير من الأحيان، ولكنّ الاستمرار هو القوّة التي تجعلنا نهبُّ لإعادة بناء مدرسة بعد أن هدمها جيش الاحتلال، على غرار ما يحدث في مسافر يطّا.

 

يبدو واضحًا أنّ المانحين والشركاء جلّهم من المؤسّسات والمراكز الغربيّة، ما سبب غياب الدعم العربيّ؟ وهل من أثر للدعم الغربيّ في الخطط والمشاريع؟

السؤال محوريّ في عمل المؤسّسات. ولكن بوضوح، الدعم العربيّ يتّجه إلى التعليم الأساسيّ النشط ٍتوجّهًا مباشرًا، أو الدعم النفسيّ - الاجتماعيّ في غزّة، من دون اهتمام يُذكر في قضايا البُعد الاجتماعيّ، وأمنياتي أنّ يتغيّر هذا الوضع الآن. وبالتالي، معظم التمويل للمركز تمويل غربيّ، مع فهمنا العميق للاستعمار، ولضرورة تفكيك استعمار العقل، لتخفيف الضغوط. وتاريخيًّا، تمويل الغرب يحمل أجندة اجتماعيّة وسياسيّة، ونحنُ نلتقي مع ما هو إنسانيّ منها، ونختلف مع مؤسّسات ونرفض تمويلها. وبطبيعة الحال، أتمنّى لو كان لدينا مصادر، لتطبيق رؤيتنا بحرّيّة ومساحة. ولكنّنا، في واقع الأمر، غير مستقلّين في هذه العلاقة مع المموّل وإجراءاته، ولكنّنا نموَّل من مؤسّسات متضامنة مع فلسطين، وأجنداتها، إلى حدٍّ بعيد، قريبة من دعم الشعب الفلسطينيّ، كالحملة العالميّة للتعليم.

 

وفي خضمّ الظروف، هُناك مؤسّسات مانحة كثيرة أوقفت تمويلها، وهُناك مؤسّسات أُخرى تُراجع شروط تمويلها. وفي هذا السياق، أطلقت شبكة المنظّمات الأهليّة الفلسطينيّة رسالةً قانونيّة قويّة تؤكّد التزامنا بكافّة المواثيق والمعاهدات الدوليّة لحقوق الإنسان، وبالميثاق الفلسطينيّ أيضًا، وأيّ تعامل خارج هذا الإطار ينقض التعاقد القائم مع المؤسّسات كافّة.

 

لو كنت مستقلًّا مادّيًّا، ما المشاريع التي كنت ستقوم بها ولم تستطع؟

كنتُ بالتأكيد لن أُغرق المؤسّسة بالتقارير الماليّة والإداريّة، وهي مُنهكة لفريق العمل وتستهلك جهدًا كبيرًا منهم. وكنتُ سأضع خطّة استراتيجيّة خمسيّة لرؤية المؤسّسة لتطبيقها براحة، من دون التعقيدات البيروقراطيّة الهائلة القاتلة للعمل. وبالتالي، تصبح الخطّة مرنة أكثر للتغيير والتحويل بحرّيّة، ومتجاوبة مع الظرف والزمان والمكان، ومتحرّرة من التفكير كثيرًا بخطّة المانح وشروطه وإجراءاته. وبالطبع، سيتّخذ حينها المركز موقفًا سياسيًّا بحرّيّة وراحة، من دون اعتبارات لمانح أو داعم، وهو ما يُحَدّ مع التمويل الآن، مع أنّنا أطلقنا بيانات عديدة تعبّر عن مواقفنا، ولكنّها اتّسمت بالحذر والتزمت بالمواثيق والمعايير من أجل حماية المؤسّسة. وكان ذلك بحكمة، ومن غير الوقوع في خِطاب شعبويّ يؤدّي إلى انهيار سريع.

 

غزّة: المعلّم والمتعلّم والحيّز المجتمعيّ: كيف تصفون هذا اليوم؟

ما حصل ويحصل في غزّة كارثة تعليميّة بكلّ معنى الكلمة، وتدمير كلّيّ للمنظومة التعليميّة. والجراح المفتوحة على الألم كثيرة ومتنوّعة؛ جرح الروح، والعري، والجوع، والإهانة، والذكريات. وقد شعر المعلّمون، والذين ارتُكبت مجازر بحقّ أهاليهم وجيرانهم وبيوتهم، بعجزٍ منعهم من مساعدة أنفسهم أو أولادهم أو جيرانهم، غزّة اليوم حالة إنسانيّة غير مسبوقة. أمّا المدارس، فهُدّمت أكثر من 300 منها، ومئات المعلّمات والمعلّمين ارتقوا شهداءً، والآلاف ما زالوا تحت الردم، وأكثر من 7000 طفل استشهدوا. ووقفت العمليّة التعليميّة بشكلٍ كامل، وازدحم الناس والأزمات في مراكز الإيواء، حيث نعمل على التخفيف عن الناس لأنّنا لم نصل بعد إلى مرحلة معالجة الأمور. والواقع أنّ المنظومة الدوليّة فشلت في حماية التعليم في غزّة، والمنظومة النسويّة فشلت في حماية النساء في غزّة، والمنظومة الصحّيّة، ومنظومة العُمّال... وغيرها. وحتّى المؤسّسات الأمميّة، والتي استثمرت بملايين الدولارات في إنشاء مدارس شاملة وبناء قدرات معلّماتها ومعلّميها لتشكّل نماذج تعلّميّة في مناطق الصراع، مدارسها تلك كلّها قُصفت ودُمّرت، ولم تستطع هذه المؤسّسات حمايتها.

 

وبالنسبة إليّ، من أقسى الأمور كان الصمت المُطبق الدوليّ من مؤسّسات أمميّة وغير أمميّة، وتراوح الأمر بين مؤسّسات حرصت على مصالحها فالتزمت الصمت خوفًا، ومؤسّسات التزمت بمواقف حكوماتها، ومؤسّسات أُخرى التزمت صمتًا مُطبقًا. والحقيقة، تمنّيت لو كنت في هذه اللحظات معلًمًا أعمل مع الطلبة في غزّة.

 

وفي السياق ذاته، أعادتني هذه الأحداث إلى قراءة التاريخ مرّة أُخرى، بحثًا عن مشكلة التعاطف مع قضايا الشعب السوريّ واليمنيّ والبوسنيّ والرونديّ... أي ما يدعو إلى مراجعة الذات، ولا سيّما في هذه الظروف المستحيلة التي تفوق قدرة الإنسان على التحمّل، والتي دفعت الناس إلى حالات من القهر والضغط والتيه. ومع عملنا على هذه الحالات مع الناس الآن، علينا أن نعمل على المرحلة التي تلي وقف الحرب من أجل عافية الناس وإعادة الإيمان بالإنسانيّة والحفاظ عليها. وغزّة تضرب مثلًا للعالم بالصمود والعمل والقوّة، فالفرق هُناك حريصة على استكمال العمل مع الأهالي والأطفال في مراكز الإيواء، والعاملون ينتقلون بصعوبة شديدة بين المناطق وحياتهم مهدّدة في كلّ لحظة. وهذا النشاط يدفع الناس إلى الأمل للاستمرار والعمل.

 

كان لمركز إبداع المعلّم إسهامات في نشاطات الدعم النفسيّ لأطفال غزّة في بداية الحرب، هل ما زال ذلك ممكنًا؟

نعم، هُناك مؤسّسات عديدة تعمل وتُسهم على الدوام. أمّا بخصوص مركز إبداع المعلّم، فالحقيقة أنّ برنامج الدعم النفسيّ - الاجتماعيّ كان موجودًا قبل الحرب، وكان مُرتكزًا على مجموعة متطوّعين وخبراء، وقد طوّرنا مناهج واستراتيجيّات عديدة لهُ. وبعد قصف مقرّنا في غزّة، واستشهاد أفراد من عائلات طاقمنا، صار أفراد الطاقم في أوضاع مستحيلة ومؤلمة للغاية، وباتوا مشتّتين: فهم في مراكز إيواء، وأهاليهم في مراكز أُخرى. والحقيقة أنّ المتطوّعين والاختصاصيّين، والذين تفاجئنا بقوّتهم، هُم من طرحوا بدء العمل بأنشطة التدخّل والدعم النفسيّ والاجتماعيّ، وما كان منّا إلّا تقديم ما يلزم من دعم.

 

ومن هُنا، بدأوا بالعمل على أربعة محاور في 77 مركز إيواء: الأوّل، التدخّل الجماعيّ مع الأطفال من أجل التفريغ النفسيّ، حيث يتمّ العمل بأنشطة مع مئات الأطفال، بالدراما والرسم والرقص والمباريات الرياضيّة، كما بالتدخّل الفرديّ مع الأطفال، ولا سيّما الذين فقدوا أهاليهم، لمحاولة دمجهم مع الأطفال الآخرين. والثاني، إرشادات مكثّفة مع الأمّهات للتعامل مع ذواتهنّ وأبنائهنّ، وهي إرشادات مُساعدة، من دون التعمّق في الألم في هذه المرحلة، خصوصًا في ظلّ ضغط هائل في مراكز الإيواء. والثالث، اكتشفنا أنّ هُناك الكثير من المعلّمين في مراكز الإيواء، بالإضافة إلى خرّيجي الجامعات، وربطنا البُعد العاطفيّ الاجتماعيّ بموادّ الرياضيّات واللغتين العربيّة والإنكليزيّة للصفوف الابتدائيّة، وعملنا على منهج معهم، وبدؤوا عمليّة تدريس للطلّاب في مراكز الإيواء. وما ساعدنا هو أنّنا وجدنا العديد من الأدوات التعليميّة المُفيدة في مخازن مراكز الإيواء، وهي مدارس أونروا بالأساس، ما ساعد كثيرًا، سواء في عمليّة التدريس أو عمليّة التدخّل النفسيّ - الاجتماعيّ وأنشطة التفريغ، والصفوف العلاجيّة.

 

والمسار الرابع، وفي ظلّ انقطاع التواصل مع شمالي القطاع، تركنا القرار للمتطوّعين والاختصاصيّين لأنّهم على الأرض. وعلى سبيل المثال، أحد القرارات كان شراء ملابس وتوزيعها على مراكز الإيواء، والعديد العديد من الأنشطة المُلهمة التي يقومون بها يوميًّا في ظلّ القصف والتهديد المستمرّين. أمّا نحن، فنحاول على الدوام التواصل مع مؤسّسات دوليّة والضغط لتوفير الدعم المادّيّ، ومحاولات إيصاله إلى الأهل والمعلّمين والطلّاب في غزّة، ما يُعزّز بمواقف سياسيّة وبيانات على مستوى العالم.

 

ما الذي ينتظر المعلّم الفلسطينيّ بعد انتهاء الحرب؟ هل بدأتم التخطيط؟

في غزّة بعد انتهاء الحرب، لن تكون الأولويّة للمدارس، إنّما للبحث عن الأشلاء والأهل والأقارب، وعن الذات. أمّا ما نخطّطُ له، بوضوح، هو أن يستعيد المعلّم صحّته وإنسانيّته وعافيته النفسيّة والاجتماعيّة، من أجل المُضيّ ومساعدة الطلبة. والحقيقة أنّ العمل مع المعلّمين سيكون كبيرًا وعميقًا بعد حدث مؤلم وكبير كهذا، من أجل إعادة بناء الأمل. أمّا من تجربتي، فالنّاس داخل الحرب أقوى ممّن هم خارجها، وبعد الحرب تزداد الصعوبة. ومن هُنا، تتشكّل ضرورة دعم العالم كلّه لغزّة، لمعالجة ما بعد الصدمة التي خلّفتها هذه الكارثة الإنسانيّة.

 

وتصوّري أنّ أهل غزّة سيتجاوزون الأمر، وسيكون التعليم في خيام اللاجئين، لأنّ المدارس دُمّرت، ولكنّهم سيتحدّثون طويلًا عمّا جرى. ولملمة الجراح والتعبير عن المشاعر سيتطلّبان وقتًا. وسنحاول، مع وزارة التربية والتعليم، أن نذهب إلى غزّة مباشرةً بعد الحرب، للقيام بتدخّلات واسعة مع المعلّمين ضمن قضايا الدعم النفسيّ - الاجتماعيّ واستعادة العافية، من أجل الذهاب لاحقًا إلى استكمال العمليّة التعليميّة والإبداع في التدريس. وأنا على قناعة أنّ غزّة ستُبدع في التعليم، وفي المجالات كافّة، بعد الحرب، مع أمنيتي ألّا ننكسر حتّى نهاية الحرب.

 

الناس أقوياء في غزّة ومستمرّون ومتمسّكون، ككلّ الفلسطينيّين، بالأمل. فالأمل هو ما يدفع إلى البقاء، لا التوقّعات، حتّى بعد الوقوع. وهذه هي كلمة سرّ المعلّم الفلسطينيّ: الأمل.