- مديرة مدرسة الأهليّة والمطران في الأردن.
- حاصلة على بكالوريوس وماجستير في اللغة الإنجليزيّة وآدابها من الجامعة الأردنيّة.
- نالت دكتوراه في التربية/ القيادة التنظيميّة من جامعة نورث سنترال – أريزونا.
- تناولت أطروحتها دور المدرسة الأهليّة في تمكين الفتيات عبر التعليم التقدّميّ النوعيّ.
- بدأت مسيرتها المهنيّة معلّمة للغة الإنجليزيّة في المدرسة الأهليّة للبنات.
- تدرّجت في المناصب: رئيسة دائرة اللغة الإنجليزيّة، ومن ثمّ مديرةً للقسم الثانويّ، فمديرة للمدرسة الأهليّة.
- شغلت رئيسة جمعيّة مدارس البكالوريا الدوليّة في الأردن، وهي مشاركة فاعلة في مؤتمرات عربيّة ودوليّة.
كيف تعرّف د. أليس نفسها وبطريقتها؟
أحبّ أن أقدّم نفسي أوّلًا بوصفي امرأة وأمًّا، وأؤمن دومًا بأنّ النساء هنّ الأقدر على مساعدة العالم في التعافي من جنونه ووحشيّته. فالمرأة بطبيعتها الحانية، ودورها في الرعاية والتنشئة، تمتلك القوّة التي تمكّنها من الإسهام في شفاء هذا العالم. وكوني امرأة وأمًّا يمثّل مصدر اعتزاز كبير لي، وقد شكّل جانبًا أساسيًّا من هويّتي معلّمةً وإنسانةً. وأنا أؤمن بأنّ هويّة المعلّم، صغيرًا كان أم كبيرًا، تحمل في جوهرها رسالة تحسين المجتمع، انطلاقًا من منظومة القيم والمبادئ التي يؤمن بها.
وما أودّ إضافته هنا، أنّني كنتُ معلّمة قبل أن أصبح أمًّا. ففي بداياتي في تدريس اللغة الإنجليزيّة، كنتُ أحمل تصوّرًا خاطئًا عن المعلّم، إذ اعتقدت أنّ عليه أن يكون صارمًا وجادًّا على الدوام، بعيدًا عن الودّ واللين. غير أنّ الأمومة منحتني فرصة أعمق للتأمّل وإعادة النظر، فاكتشفت أنّ وجودي بين الطلبة لا يقتصر على تدريس المادّة فحسب، بل يقوم بالأساس على رعايتهم والانتباه إليهم. وأنّ التربية بالأخلاق، وغرس قيم المحبّة والتعاطف، وبناء جسور التواصل الإنسانيّ، تمثّل جوهر التعليم الحقيقيّ. كانت الأمومة نقطة تحوّل جعلتني معلّمة أفضل، وأكثر وعيًا وإنسانيّة ممّا كنت عليه من قبل.
ما الأثر الأكبر لكونك في المدرسة ذاتها، طالبة، ثمّ معلّمة وإداريّة، فمديرة؟ هل أتاح لك هذا الاستمرار في المكان ذاته فضاء رحبًا كان يمكن أن تفتحه تجارب في أماكن مختلفة؟
أشعر أنّ الأهليّة والمطران فضاء رحب يفتح آفاقًا واسعة أمام كلّ من يعمل فيها؛ آفاقًا للتفكير والإبداع والابتكار والإنتاج. فهي أشبه بأرض خصبة، مُحبّة وداعمة، يترك وجودها أثرًا إيجابيًّا في نموّ تجارب الإنسان وتطوّره.
وعندما أتأمّل تجربتي الممتدّة على مدى ثمانية وثلاثين عامًا، منذ أن بدأت معلّمة وصولًا إلى أن أصبحت مديرة لمدرستين اندمجتا في مدرسة واحدة، أستطيع القول إنّني لم أشعر يومًا أنّني "أذهب إلى العمل". إنّ العبارة التي تقول: "اختر عملًا تحبّه، ولن تضطرّ إلى العمل يومًا واحدًا في حياتك"، تصف تجربتي بدقّة.
لقد كنتُ محظوظة بكوني في مكان أبوابه دائمًا مفتوحة، يتيح مساحات للعطاء الصادق من القلب، ولنسج العلاقات الإنسانيّة والصداقات العميقة، ما ساعدني أن أكون إنسانة إيجابيّة في تعاملي مع مجتمع المدرسة.
كيف أثّرت تجربتك عندما كنت طالبة في تجربتك معلّمة في المدرسة ذاتها؟ ولاحقًا ما تأثير تجربتك معلّمةً في تجربتك مديرةً؟
ساعدتني هذه التجارب المتراكمة في بناء منظور متكامل وشموليّ، أغنى رؤيتي وأعطاني قدرة أعمق على الفهم. فكوني ابنة هذه المدرسة أوّلًا منحني محبّة استثنائيّة لها، إذ كنتُ أشعر دائمًا أنّها بيت يحتضن الجميع. هذه التجربة الإيجابيّة لي طالبةً، كانت الدافع الأجمل للعودة إليها معلّمة، لأبقى قريبة من الجوّ الذي شكّل شخصيّتي وأحلامي.
وحين انتقلتُ لاحقًا إلى العمل الإداريّ، لم أشعر أنّني ابتعدت عن روح الغرفة الصفّيّة، بل ظلّ حضوري مع المعلّم والطالب حاضرًا في داخلي، ما منحني فهمًا أوسع لواقع المعلّم وتجربته في الأهليّة والمطران. وهكذا تكوّنت لديّ رؤية مختلفة للمدرسة، رؤيةً شاملة تستند إلى خبرة العيش في كلّ الأدوار: طالبة ومعلّمة وقائدة تربويّة.
أيّ أليس تفضّلين: المعلّمة أم المديرة؟
أشعر أنّ أليس المعلّمة أقرب إلى قلبي، لأنّ المعلّم يحظى بفرصة يوميّة للقاء الطلبة في لحظات تفاعل حيّة وإيجابيّة داخل الصفّ، حيث يلمس نموّهم وتفتّحهم أمام عينيه. أمّا المدير، ففي الغالب يلتقي الطلبة في سياقات مرتبطة بالمشكلات أو الشكاوى، ما يحرمه من متابعة ذلك البريق الجميل في رحلة نموّهم، وهي نعمة لا تُقدّر بثمن.
أسعد لحظاتي حقًّا حين أصادف طالبة أو طالبًا كنتُ قد علّمتُه/ علّمتها يومًا ما، فأرى في عينيه/ عينيها محبّة صادقة، وأسمع ذكريات دافئة تستحضر لحظات عشناها معًا في الصفّ. هذا النوع من اللقاءات مختلف تمامًا عن لقاء طلبة عاصروني فقط في فترة الإدارة؛ فهناك يكون التفاعل محصورًا في المعرفة الرسميّة، بينما لقاءات التعليم تظلّ مشبعة بالذكريات العميقة، واللحظات المؤثّرة التي تبقى حيّة في القلب.
يعتبر المدير الأكثر تغييبًا في الخطاب التربويّ، وفي علاقته بالمعلّمين والمتعلّمين، ما أبرز تحدّيات الإدارة المدرسيّة الأردنيّة، والعربيّة بشكل عامّ؟
المدير غالبًا ما يكون غائبًا في الخطاب التربويّ، سواء في علاقته بالمعلّمين أو المتعلّمين. وهذا يطرح تحدّيات كبيرة على الإدارة المدرسيّة، في الأردنّ والعالم العربيّ بشكل عامّ. من أبرز هذه التحدّيات نقص برامج إعداد المديرين بشكل فعّال. كثير من الذين يدخلون مجال الإدارة، يجدون أنفسهم مضطرّين إلى الاعتماد على خبراتهم الذاتيّة، والبحث والقراءة الفرديّة، من دون وجود برامج رسميّة تدعم هذا الإعداد أو توجّهه بشكل ممنهج.
نتيجة لذلك، تصبح رحلة الإدارة عمليّة استكشاف عفويّة وسط تجارب صعبة، بدل أن تكون رحلة مجهّزة بأدوات ومعارف وخبرات سابقة، تساعد المدير منذ البداية وفي مسار عمله. البرامج المتوفّرة حاليًّا، وإن وُجدت، غالبًا ما تظلّ تقليديّة، وهو ما يزداد وضوحًا عند مقارنة هذه البرامج ببرامج عالميّة، فيتّضح الفارق الكبير في العمق والمنهجيّة.
ومن حواراتي مع معلّمات ومعلّمين وإداريّين من مختلف الدول العربيّة، وجدت أنّ هذه التحدّيات ليست فريدة في الأردنّ فقط، بل تشترك فيها مدارس عديدة في المنطقة، ما يؤكّد الحاجة الماسة إلى تطوير برامج إعداد متكاملة للقيادات التربويّة، تضمن تجهيز المديرين لمواجهة الواقع التعليميّ المعقّد والمتغيّر.
وفي ظلّ اغتراب السياسات التربويّة الرسميّة عن واقع الميدان، أودّ أن أشيد بمشروع "تمام" الذي يسعى لصياغة السياسات التربويّة انطلاقًا من القاعدة، لا من أعلى الهرم، بما يضمن ارتباطها الحقيقيّ بالواقع التربويّ.
وأخيرًا، على القائد التربويّ الإلمام بالبرامج الأكاديميّة. فالمدير ليس إداريًّا فحسب، بل أكاديميّ بالدرجة الأولى، وهذا يفرض عليه مواكبة المناهج والبرامج المتنوّعة التي يتعامل معها المعلّمون.
هذا الغياب ينسحب على تعيين الإداريّين والمنسّقين في المدارس، فالقليل منهم يتلقّى تدريبًا قبل تعيينه. كيف استطعتِ بوصفك مديرة تلافي هذه المُشكلة؟
هذا الغياب في التدريب يمتدّ أيضًا إلى تعيين الإداريّين والمنسّقين في المدارس، إذ إنّ القليل من يُهيّأ قبل تولّي مهامه. لمواجهة هذه المشكلة، نعقد تدريبات داخليّة شاملة للإداريّين والمنسّقين، ونعيّن مشرفين لمتابعتهم، ودعم تطوّرهم المهنيّ، والمشاركة معهم في مسيرتهم العمليّة.
التعيين في مدارسنا يعتمد أساسًا على ملاحظة مهارات المرشّح وسماته في العمل، ثمّ يُكمّل ذلك بتدريب مفتوح نناقش فيه الأداء، ونحدّد نقاط القوّة والفرص للتحسين. نحرص على وجود قنوات اتّصال مفتوحة ونقاش مستمرّ، بما يتيح التأمّل والمراجعة المستمرّة للممارسات.
أمّا عند اختيار القادة الأكاديميّين، فنركّز على المهارات القياديّة والتواصليّة مع المعلّمين. نحن مدرسة لا تعتمد القيادة الرأسيّة التقليديّة، بل نسعى للتعاون والحوار الأفقيّ، ما يكسر الهيمنة ويعزّز روح التشاركيّة. نتيح للطاقم مساحة من الحرّيّة لاتّخاذ القرارات وتنفيذ المبادرات، ونتابع هذه التجربة مع التأمّل المستمرّ والنقاش، لضمان التطوير المستدام. غالبًا ما تملأ المدرسة شواغرها داخليًّا، حتّى يكون المنسّق أو الإداريّ مؤمنًا بفلسفة المدرسة، ويحمل روحها. وهذا يرافقه نظام لقاءات دوريّة بين المدير والمنسّقين، وأخرى بين المدير والإداريّين.
يشغلك موضوع التقييم، وترين فيه سلبيّات جمّة. كيف يمكن تحويل التقييم إلى علاقة إيجابيّة بالمتعلّم؟ وهل ذلك متاح في ظلّ المناهج الحاليّة؟ وهل يقبل الأهل بمثل هذه التغييرات؟
من أكثر القضايا تحدّيًا في التعليم قضيّة التقييم، إذ ما تزال ثقافة المجتمع الأردنيّ تُعلي من قيمة العلامة بشكل يفوق الضرورة. فحتّى مع البرامج التربويّة المتقدّمة، والنماذج التي تركّز على التعلّم باعتباره رحلة واكتشافًا، نجد أنّ المجتمع غالبًا ما ينظر إلى العلامة بوصفها المؤشّر النهائيّ لتقييم الطالب والأهل، وحتّى المدرسة نفسها.
على سبيل المثال، في المدارس التي تعتمد البكالوريا الدوليّة، لا توجد علامات في المرحلة الابتدائيّة، بل تقييم وصفيّ. أمّا في المرحلة الإعداديّة، فيُترجم هذا التقييم إلى علامات، ويصبح الاهتمام منصبًّا على الرقم أكثر من المحتوى أو التقدّم الحقيقيّ للطالب. ويزداد هذا التركيز على العلامة في المرحلة الثانويّة، على الرغم من أنّ التقييم في هذه المرحلة لا يعتمد فقط على الامتحانات، بل على المهامّ الداخليّة والبحوث المطوّلة، مع بقاء الامتحان حاضرًا في النهاية. هذه الظاهرة تمثّل أزمة، إذ يتمّ الحكم على الطالب والأهل والمدرسة بالعلامة وحدها، على الرغم من أنّنا نحاول دائمًا أن نؤكّد على أنّ التقييم ينبغي أن يكون احتفاءً بما تعلّمه الطالب، وإشارة إلى تطوّره عن مرحلة سابقة.
تشير الأبحاث بوضوح إلى أنّ التعلم من أجل العلامة أو المكافأة، أقلّ جودة من التعلّم بدافع الفضول والاستكشاف. الواقع أنّ الأنظمة الجامعيّة والمنح الدراسيّة، لا تزال تعتمد بشكل أساسيّ على العلامات، مع محاولات إدخال جوانب أخرى، مثل الشخصيّة المتكاملة والمهارات المختلفة، إلّا أنّ هذه المحاولات لم تحقّق تغييرًا جذريًّا بعد.
لذلك، يظلّ من الضروريّ التركيز على القيم والأخلاق، وتعليم الطلبة أهمّيّة خدمة المجتمع والتواضع والسعي لتحسين الذات، بدلًا من الانشغال بالعلامة فقط. فإذا بقي التقييم محصورًا بالعلامة، فإنّ النتائج التعليميّة قد تكون كارثيّة، إذ يفقد الجوهر الحقيقيّ للتعلّم والمعرفة.
هل تفتح المناهج غير الأجنبيّة المجال لأشكال مختلفة من التقييم؟
في شكلها الحاليّ، لا تتيح المناهج غير الأجنبيّة مجالًا واسعًا لأشكال تقييم مختلفة. هناك جهود لتطوير المناهج الأردنيّة، مثل تطبيق برنامج البيتك (BTEC)، أو تقسيم مرحلة الثانويّة العامّة على الصفّين الحادي عشر والثاني عشر. لكنّ التغيير لا يقتصر على المنهاج فقط، بل يمتدّ إلى المعلّم ونظرته إلى التقييم.
الواقع أنّ تغيير المفاهيم المجتمعيّة حول التقييم أمر أصعب بكثير من تعديل الكتب، إذ لا يزال الكثيرون ينظرون إلى العلامة باعتبارها حكمًا نهائيًّا على قدرات الطالب ومستقبله، متناسين أنّ التقييم الحقيقيّ ينبغي أن يعكس النموّ الشخصيّ والقيم والقدرة على المساهمة في المجتمع. من دون تغيير هذه النظرة، يظلّ التركيز على العلامة عائقًا أمام التعليم المعمّق والمتكامل.
في عملك تتعاملين مع معلّمين مخضرمين، وآخرين حديثي التخرّج. هل الفوارق بينهما كبيرة؟ وهل من ميزات مشتركة تلحظينها بين المجموعتين؟
في مدرستنا تتعايش أجيال مختلفة، وأنا أنتمي إلى جيل القُدامى، لذا قد تكون رؤيتي متأثّرة بتجربتي الطويلة. أشعر أنّ جيل المعلّمين القدامى يمتلك شغفًا حقيقيًّا بالمهنة، ومحبّة عميقة للطلّاب، وانتماءً صادقًا للمدرسة، وهي خصال قد لا تكون متجذّرة بالقدر نفسه لدى بعض المعلّمين الجدد، والذين ينظرون إلى التعليم أحيانًا بوصفه وظيفة بامتيازات محدّدة، من دون أن يشعروا بالمعنى الأعمق لوجودهم في المدرسة.
لكن لا يمكن إنكار أنّ لدى الجيل الجديد إمكانات رائعة، وطاقات خام تحتاج إلى رعاية وإرشاد. لذلك نعمل معهم باستمرار لنمكّنهم من اكتشاف شغفهم الحقيقيّ، ونرشدهم إلى رؤية التعليم باعتباره رسالة وقيمة، لا مجرّد عمل.
والسؤال الذي يراودنا دائمًا: هل ستتمكّن المدرسة من المحافظة على هويّتها ورسالتها، بعد أن يغادر جيل المعلّمين القُدامى؟ وهل ستبقى مكانًا ينبض بالمحبّة والعطاء والخدمة للطلبة والمجتمع؟
ماذا يجب على المدرسة أن تفعل حتّى تتعزّز قيم الانتماء لدى معلّمي الجيل الجديد؟
أودّ التأكيد على أنّ المنافسة في التعليم ليست بين الوظائف، بقدر ما هي بين المدارس نفسها. أسهمت المدارس الخاصّة في عمّان في جعل التعليم جذّابًا للجيل الجديد من المعلّمين، خصوصًا من ناحية الرواتب وفرص التطوير. فبعض معلّمات القسم الابتدائيّ في مدرستنا كنّ من خلفيّات مهنيّة مختلفة مثل الهندسة، ووجدن في التعليم فرصة لنقل خبراتهنّ.
لكن، في المقابل، تعطي المنافسة بين المدارس التعليم بعدًا مادّيًّا أحيانًا، ويصبح التركيز على النجاح السريع والمكافآت الماليّة، وهذا يطرح سؤالًا مهمًّا: هل يسعى المعلّم للعمل من أجل المبادئ والقيم، أم من أجل المكاسب المادّيّة؟
إذًا، ما الذي يجب أن تفعله المدرسة لتعزيز قيم الانتماء لدى الجيل الجديد؟ الجواب يكمن في الحوار المستمرّ والمفتوح معهم، والمبنيّ على فكرة أنّ التعليم ليس مجرّد وظيفة، بل أرقى المهن التي تمنح مردودًا غير مادّيّ. يجب أن يشعر المعلّم بأنّ دوره لا يتوقّف عند انتهاء الحصّة أو نهاية اليوم، وأنّه جزء من بيئة داعمة يقدّرها الجميع.
قبل حوالي 15 سنة، لاحظت معلّمة جديدة الفجوة بين المعلّمين الجدد والقُدامى، ما ألهمنا العمل على تجسير هذه الفجوة، حتّى لا تصبح البيئة طاردة للجيل الجديد. ومنذ ذلك الحين، بات لدينا وعي أكبر بأهمّيّة تنويع الفرق بين القُدامى والجدد، مع الحفاظ على ثقافة مدرستنا العريقة، بحيث نشجّع التعلّم المشترك، والحوار الثقافيّ التربويّ، والانتماء القيميّ العميق لكلّ من يعمل معنا. كما علينا نقل الانتماء والشغف إلى الجيل الجديد، بالنمذجة والتأثّر والتأثير التي تمتلك إمكانيّات هائلة، ولا سيّما في التكنولوجيا. حينئذ نطمئنّ أنّ المدرسة ستبقى شامخة لمئات السنين القادمة.
دخلت في أكثر من تجربة تشبيك بين المدارس، ما تقييمك لمثل هذه التجارب؟ كيف يمكن تطويرها عموديًّا داخل البلد الواحد، وأفقيًّا بين مدارس من بلاد عربيّة مختلفة؟
قناعتي الخاصّة أنّ غياب التشبيك بين المدارس يعني خسارة كبيرة لنا جميعًا. ومن تجربتي، حاولتُ تأسيس روابط بين مدارس مختلفة، لأنّنا جميعًا نستثمر في جيل واحد، ضمن رؤية وطنيّة وعربيّة مشتركة.
هناك تحدّيات مختلفة في هذا المجال، فالتشبيك يكون أسهل في المراحل الابتدائيّة والمتوسّطة، مثل PYP وMYP، لأنّ هذه المراحل لا تعتمد على العلامات بشكل مباشر، ما يسهّل التعاون وتبادل الخبرات. أمّا عند الوصول إلى مرحلة الدبلوما (DP)، تصبح الأمور أصعب، إذ ترتبط بالعلامات ومتطلّبات التقييم الصارمة. ولعلّ مسألة العلامات والتقييم تجعل المنافسة بين المدارس أكثر حدّة، وأحيانًا غير صحّيّة، ما يحدّ من فرص التعاون ويضعف روح التشبيك.
مع ذلك، أؤكّد على أنّ التشبيك ليس رفاهية، بل ضرورة حقيقيّة. فمع كوني في مدرسة الأهليّة والمطران، يمتدّ اهتمامي إلى كلّ الطلبة ومستقبلهم. وما نحتاج إليه في المقام الأوّل ليس وجود طرف محايد ليبدأ التشبيك، بل تخلّي المدرّسين والإدارات عن الاعتداد المفرط بالنفس، والانطلاق من تساؤل أساسيّ: ما دوري معلّمًا أو معلّمةً؟
القناعة الجوهريّة التي يجب أن تتبنّاها الإدارات التربويّة أنّنا نخدم جيلًا كاملًا، وعلينا أن نعمل معًا لدفع التعليم نحو الأفضل، وتعزيز فرص التعلّم والنموّ لكلّ طالب، بعيدًا عن الحدود المدرسيّة أو الجغرافيّة.
ماذا عن مشروع "التعليم التطبيقيّ"؟
من منظورنا في المدرسة، وانطلاقًا من فلسفتنا ورسالتنا التربويّة، لم نرَ يومًا أنّ وجودنا محصور فقط في تقديم البرنامج الأكاديميّ، فهو مشترك بين المدارس جميعها. بل نؤمن أنّ للمدرسة دورًا أبعد وأعمق، يتمثّل في تشجيع الطلبة على اكتشاف ذواتهم، ومتابعة شغفهم، وخوض تجارب متنوّعة تتجاوز حدود المنهاج.
انطلاقًا من هذه الرؤية، قرّرنا تطوير التعلّم بالتجربة، فأعدنا هيكلة البرنامج الأكاديميّ ليقتصر على أربعة أيّام في الأسبوع، تاركين اليوم الخامس مساحة مفتوحة يختبر فيها الطلبة اهتماماتهم، وينمّون مواهبهم، ويستكشفون مهارات جديدة لا يتيحها المنهاج التقليديّ. ففي هذا اليوم، قد يشارك بعضهم في ورش متخصّصة مع خبراء ومؤسّسات؛ مثل التعرّف إلى تقنيّات الطائرات المسيّرة "الدرون"، أو خوض تجربة مسرحيّة أو فنّيّة، وغيرها من الأنشطة التي توسّع آفاقهم.
يمثّل هذا المشروع محاولة جادّة لكسر قوالب التعلّم التقليديّ، وهو متاح لجميع المراحل العمريّة، إذ يُمنح الطلبة فرصة لتصميم برنامجهم الخاصّ وفق اهتماماتهم وفضولهم، ما يعزّز التعلّم بالتجربة، ويفتح أمامهم مسارات جديدة للاستكشاف. وعلى امتداد سنواتهم الدراسيّة، يساعدهم هذا النهج في التعرّف إلى قدراتهم وصقل مواهبهم، بما يوجّه خياراتهم ويعمّق وعيهم عند اتّخاذ قراراتهم المستقبليّة.
لا شكّ أنّ المشروع يواجه تحدّيات، مثل تحفّظ بعض الأهالي، أو امتناع بعض الطلبة عن التسجيل في الأنشطة. ومع ذلك، نثق أنّ شغف الطلبة ورغبتهم في التعلّم والتجريب كفيلان بخلق التزام داخليّ لديهم، ونتائج تفوق توقّعاتنا.
معلّمونا بدورهم قدّموا أفكارًا مبتكرة لنجاح المشروع، وسيؤدّون دورًا محوريًّا في تفعيله، بالتوازي مع شراكات متنوّعة نعقدها مع مؤسّسات وبنوك وشركات تكنولوجيا ومسارح ومشاريع صغيرة وغيرها، لتوفير تجارب ثريّة وحقيقيّة للطلبة.
في عددنا الحالي نتناول موضوع الإدارة الصفّيّة، بين مفهوم ضبط الصفّ وسلطة المعلّم، والإدارة الحكيمة وتوزّع ثقل السلطة. ما أبرز العقبات برأيك، ومن أين منبعها؟ وكيف يؤثّر فارق العمر بين المعلّم والمتعلّم في الصفّ؟
رؤيتنا في المدرسة تنطلق من العلاقة مع المتعلّم، وفهمه إنسانًا قبل أيّ شيء آخر. هذه العلاقة تمثّل مفتاح التواصل الحقيقيّ معه. لكنّ الصعوبة الكبرى تكمن في لفت انتباه هذا الجيل، والتواصل معه بفاعليّة، وهذا ما يجعلنا نبحث باستمرار عن طرق لتفكيك هذه المعضلة.
أؤمن أنّ كلمة السرّ تكمن في المحبّة: محبّة المعلّم التي تصل بصدق وعفويّة إلى الطلبة، فيشعرون أنّه حاضر فعلًا من أجل الإفادة. فالتعليم بلا محبّة يصعب أن يجد طريقه إلى قلوبهم أو عقولهم.
ولذلك، فإنّ دعم المعلّم يصبح ضرورة ملحّة في مواجهة هذه التحدّيات، بتوفير منظومة دعم متكاملة تساعده في إدارة الصفّ، والتعامل مع الطلبة الذين يستنزفون طاقته، ضمن إطار قوانين الانضباط المدرسيّ. كما نعمل على بناء شراكة مع الأهل عن طريق ورش متنوّعة، نشاركهم فيها سمات أبنائهم وملاحظاتنا حولهم، إلى جانب نصائح تتعلّق بالتغذية وتنظيم أوقات الفراغ. ويتقاطع مع دور المعلّم دور دائرة العافية الشموليّة، واللقاءات الطلّابيّة، واستضافة نماذج إنسانيّة ملهمة، تساعد الطلبة في التواصل مع معنى أعمق للتربية.
للعدوان على غزّة أشكال مختلفة، يجمع بينها موضوع الإبادة. كيف ترين الإبادة التعليميّة في غزّة؟ وما الأدوار المنوطة بكلّ تربويّ لدعم بقاء التعليم الآن في الحرب، وبعد وقفها؟
الإبادة التعليميّة في غزّة من أقسى أشكال العدوان، لأنّها تستهدف الجيل القادم، وتحاول قطع شريان الأمل من جذوره. حاولنا في مجموعة مدارس البكالوريا في الأردنّ التفكير معًا في سبل الدعم، وكان المعلّمون حاضرين بقوّة لتصميم دروس تُقدَّم عن بُعد لطلبة غزّة. هذا الحضور يعكس وعيًا متناميًا لدى المعلّمين، لكنّه يحتاج إلى توجيه منظّم، حتّى يتحوّل إلى دعم فاعل ومستدام.
أؤمن أنّ الأساس في دعم التعليم في غزّة يبدأ من عدم الاستهانة بأيّ جهد، حتّى لو كان موجّهًا لطالب واحد فقط. كلّ طالب حياة كاملة، وزرع بذرة أمل في قلبه يعني إنقاذ مستقبل. لذلك قمنا بحملات لجمع التبرّعات لدعم الطلبة الذين اضطرّوا إلى مغادرة غزّة، ولدعم المستشفيات والتعليم هناك. كما استقبلت الأهليّة والمطران مجموعة من الطلبة الغزّيّين. نحن ندرك أنّ ذلك لن يوقف الإبادة، لكنّه على الأقلّ خطوة صغيرة لإبقاء الأمل حيًّا، ولمنحهم فرصة للنهوض من جديد.
وما أؤمن به بعمق، أنّه لو وُضِع توجيه واضح لمسارات الدعم، ستنهض مدارس الأردنّ كلّها – وفي مقدّمتها الأهليّة والمطران – لتقف مع غزّة بقوّة، فالتربويّون في جوهر رسالتهم يعرفون أنّ حماية التعليم تعني حماية الحياة نفسها.
كيف تتعاملون مع الواقع الذي يتعرّض إليه الطلبة بمشاهدة أخبار الإبادة بشكل عامّ، والإبادة التعليميّة بشكل خاصّ، في داخل المدرسة؟ في النهاية أطفال فلسطين جزء من العالم، لا قسم مفصول عنه.
للأسف، نحن نعيش حالة مؤلمة من الانفصام: في البيت نتابع أخبارًا مليئة بالموت والظلم، وفي اليوم التالي نحاول أن نتصرّف وكأنّ العالم بخير. هذا الحمل ثقيل على الكبار، لكنّه أشدّ قسوة على الصغار. على الأقلّ، تربّى الجيل الأكبر على قيم ثابتة يستند إليها، أمّا جيل اليوم فيرى بأمّ عينيه كيف تنهار القيم أمامه، وكيف يُكافَأ القاتل وتُعاقَب الضحيّة.
من هنا، يصبح الحوار المفتوح مع الطلبة ضرورة لا خيارًا. نحن نحرص على أن تكون الصفوف والأنشطة بيئة تسمح لهم بالتعبير والتساؤل، وأن نزرع وعيًا ناقدًا تجاه ما يحدث. نصمّم مساقات تساعدهم في تفكيك الاستعمار وفهم ديناميكيّات العالم، ونربطهم بقضايا أمّتهم ليشعروا أنّهم جزء من معركة إنسانيّة أكبر.
كما نمنحهم مساحة للتفاعل مع قضايا العالم، عن طريق مؤتمرات مثل نموذج محاكاة الأمم المتّحدة، ليتدرّبوا على أن يكونوا فاعلين لا متفرّجين. هذا إضافة إلى التركيز على توجيه الأنشطة والكتابات الإبداعيّة والمسابقات نحو التعبير عن الإبادة، والدفاع عن الحقّ الفلسطينيّ، ورفض الظلم. ففي ظلّ هذا الخراب المتكرّر، لا يمكننا الاتّكال على عالم أوّل مركزيّ، لم يقدّم لنا الخير يومًا، بل علينا أن نكون من يحمل مسؤوليّة قضايانا ويدافع عنها.
بعد كلّ هذه التجربة الغنيّة، هل ترين أنّ بمقدورنا إنشاء تعليم عربيّ أصيل، مشترك بمفاصله الرئيسة، غنيّ بثقافته من غير أن يضيّع هويّته؟
بكلّ تأكيد. وأودّ أن أشارك تجربة حيّة لدينا، ألا وهي إنشاء مساق "منهجيّات تفكيك الاستعمار"، والذي كان خطوة بالغة الأهمّيّة في توضيح الرؤية وتفكيك المركزيّة، وضرورةً لا غنى عنها. فلا مستقبل لنا ولا أمل من دون العودة إلى الجذور، وتصميم تعليم عربيّ نابع من وعينا وثقافتنا، بعيدًا عن التشويهات والأكاذيب التي دسّها الغرب في مناهجنا.
ما يمنحني التفاؤل أنّ وعي هذا الجيل مختلف؛ فهم يرون الحقيقة أوضح من الأجيال السابقة، وهذا ما نبني عليه في مدرستنا، عن طريق مساقات مثل التاريخ الشفهيّ، ومساقات تربطهم بالتجارب المحلّيّة الأصيلة، ليشعروا بالفخر والانتماء العميق إلى هويّتهم.
ومن المبادرات التي انطلقت في الأردنّ، والتي نعتزّ بها أيضًا، مبادرة "PalPrep"، وهو مساق مكثّف يمتدّ أسبوعًا أو أسبوعين، يحضر فيه الطلبة المقبلين على الالتحاق بالجامعات، خصوصًا في الغرب، ليكونوا مستعدّين للنقاش حول القضيّة الفلسطينيّة والقضايا العربيّة، وللإجابة عن الأسئلة الصعبة والتحدّيات الفكريّة التي قد تواجههم، ونزوّدهم بالحجج والمعرفة التي تمكّنهم من الدفاع عن قضاياهم بوعي وثبات. وقد لمسنا أثرًا كبيرًا لهذا البرنامج في توسيع وعي الطلبة وتعميق ارتباطهم بالحقيقة.
صحيح أنّ بعض البرامج التي نعمل ضمنها أجنبيّة، لكنّ ذلك لا يغلق الأبواب أمامنا. بل على العكس، هناك دائمًا "ثقوب" يمكن أن ننفذ منها إلى قلب النظام، ونُحدث التغيير من الداخل. على سبيل المثال، نستطيع أن ندرّس تاريخ فلسطين والعالم العربيّ ضمن مساق الأفراد والمجتمعات في برنامج البكالوريا الدوليّة، وبهذا نعيد صوتنا وروايتنا إلى قلب العمليّة التعليميّة.
الخلاصة بالنسبة إليّ واضحة: لا يمكن أن يستمرّ التعليم من دون أمل. فالأمل هو ما يمنحنا الشجاعة لنقاوم، ولنصنع تعليمًا عربيًّا أصيلًا يحفظ هويّتنا ويعانق مستقبلنا.
وفي الختام، أودّ الإشادة بدور مجلّة "منهجيّات" المهمّ والمُلهم للتربويّات والتربويّين في العالم العربيّ، وما تفعله لأجلهم.