محاورة ماهر الحشوة
محاورة ماهر الحشوة
  • - أستاذ في دائرة المناهج والتعليم في جامعة بيرزيت.
  • - عمل مديرًا لمكتبة جامعة بيرزيت، وعميدًا لكلّيّة التربية، وعميدًا لكلّيّة الآداب، ومديرًا لمركز ابن رشد للتطوير التربويّ.
  • - حصل على شهادة البكالوريوس في الفيزياء والماجستير في التربية من الجامعة الأمريكيّة في بيروت، ثم على درجة الدكتوراه في مجال التربية من جامعة ستانفورد.
  • - عمل في مجال التطوير التربويّ في مدارس رام الله، وهو أحد مؤسّسي مركز تطور المعلّم، المورد، وكان المنسّق الوطنيّ لتطوير استراتيجيّة تأهيل المعلّمين في فلسطين.
  • - باحث زائر في مؤسّسة كارنجي لتطوير التعليم وفي جامعة ستانفورد، وفي جامعة برلين الحرّة.

 

  • - تعمل الآن بعد مسيرة طويلة في التعليم في مجال تطويره، لو تخيّلنا خبراتك وتجاربك المهنيّة ومنجزك الأكاديميّ والبحثيّ بمثابة منعطفات أو تقاطع طرق، كيف يمكنك رسم المسار الذي وصل بك إلى أن يكون انشغالك الرئيس تطوير التعليم؟ 

 

البداية من الفيزياء، درستُ بكالوريوس فيزياء في كلّيّة بيرزيت في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، ثمّ درستُ ماجستير فيزياء في الجامعة نفسها، ولكن بسبب إضراب الجامعة سنة 1975 توقّفتُ عن إكمال الماجستير. كان من الصعب عليّ ربط الفيزياء النظريّة بالأحداث السياسيّة من حولنا، ووجدتُ نفسي أدرس رياضيّات معقّدة جدًّا، وثلاث مواد في الميكانيكا الكلاسيكيّة، حتّى أعرف كيف يتحرّك البلبل، وأنّ له ثلاثة أنواع من الحركات. هذا مثال يوضّح عدم إيجادي أيّ ارتباط في تلك الفترة بين دراستي للفيزياء وما يحصل حولي.  

في تلك الفترة أصبحت اهتماماتي السياسيّة هي الغالبة، لذلك تركتُ، وعدتُ إلى فلسطين وعلّمت لثلاث سنوات في مدارس خاصّة، في مدرسة الفرندز في رام الله، وفي مدرسة المطران في القدس. وكان صديقي وزميلي خليل محشي يدرس ماجستير تربية في الجامعة الأميركيّة في بيروت، فراودتني الفكرة وقرّرتُ دراسة ماجستير تربية. وجدتُ أنّ التربية أقرب إلى اهتماماتي من الفيزياء. 

بعد الماجستير، درستُ الدكتوراه في جامعة ستانفورد، وكان همّي دائمًا أن أعود إلى جامعة بيرزيت، فارتباطي بها، منذ كانت كلّيّة، وعمري سبعة عشر عامًا.  كان لي دور يمكنني تقديمه في تلك الفترة، ولا سيّما أنّ كثيرًا من الزملاء التحقوا بالعمل الفدائيّ، فوجدتُ دوري أو رسالتي في التربية. 

بعد الماجستير والدكتوراه، ارتكز كلّ انشغالي على محاولات لتحسين وضع التربية، في أماكن محدّدة أحيانًا، في مدارس خاصّة ومشاريع صغيرة بعينها، وفي سياقات عامّة أحيانًا أخرى، لمحاولة التأثير في السياسات التربويّة العامّة في البلد. كان انشغالي يتراوح بين هذين المستويين، ولم يكن واضحًا لديّ أيّهما الأكثر إفادة وتأثيرًا في التربية، فلطالما خالجني شعور بأنّ التغيير التربويّ صعب جدًّا، كأنّني أريد تحريك عجلة ضخمة، وأشعر أحيانًا بعدم القدرة على الدفع وحدي، وبأنّني بحاجة إلى مساعدة الآخرين. 

مثلًا، كانت اهتماماتي البحثيّة المحرّك الرئيس خلف تأسيس برنامج ماجستير التربية في جامعة بيرزيت. كان تركيز البرنامج بحثيًّا أكثر من كونه متّصلًا بتطوير ممارسات المعلّمين في الحقل التربويّ، ولكن بالرغم من ذلك أصبح كثيرون من خرّيجي البرنامج مدراء مدارس ومشرفين وموجّهين في التربية، سواءً في الضفّة الغربيّة أو القدس، وكان إسهام البرنامج في ذلك بارزًا. كذلك، بعد فترة، وحين كنتُ في مجلس الجامعة، وعميدًا لكلّيّة الآداب، ضغطتُ بقوّة لتأسيس كلّيّة التربية، وصار لدينا بكالوريوس في التربية. 

أسهمتُ أيضًا في مساعدة زميلي خليل محشي، مع نقابات المعلّمين في إنشاء مركز للمعلّمين، وهو مركز التطوّر المهنيّ "المورد"، وفيه يتحكّم المعلّمون أنفسهم بتطوّرهم المهنيّ، أي التطوير من الأسفل، بدل أن يكون مفروضًا من الأعلى. تركتُ الجامعة مدّة عام واشتغلتُ في المركز على مشروع تعليم الديمقراطيّة وتعليم العلوم من خلال الحالات، أي بطرح حالات أو مشكلات من واقع المجتمع، والطلب من المتعلّمين محاولة حلّ المشكلات، فيتعلّمون، من خلال الحلّ، المحتوى الذي يحتاجون إلى تعلّمه. تكون المعرفة هنا وسيلة لحلّ المشكلة وليست غاية في حدّ ذاتها، وهذا ما يحدث عندما نتعلّم في حياتنا اليوميّة خارج المدارس. تعلّمتُ من هذا المشروع الكثير خلال سنة كاملة اشتغلتُ فيها مع المعلّمين والمعلّمات على تطوير هذه الحالات وتنفيذها. طوّرنا ستّ حالات في تعليم الديمقراطيّة، وبعدها وثّق المعلّمون والمعلّمات التجربة بكتابة الحالات، وأصدرنا كتابًا فيه الحالات التعليميّة الموثّقة، وخصّصنا الفصل الأخير لـ"ماذا تعلّمنا من التجربة كلّها". 

حين حللتُ في مؤسّسة كارنجي لتطوير التعليم وجامعة ستانفورد، باحثًا زائرًا، خرجتُ بثلاث أوراق بحثيّة بناءً على هذا المشروع. كان مشروعًا مثالًا على التقاء النظريّة بالتطبيق. عملتُ بعدها مع مدرسة خاصّة في رام الله على تحسين التعليم من خلال العمل المباشر مع معلّميها. كان عنوان المشروع "التعليم من أجل الفهم". وفي الحقيقة، كانت الاستفادة محدودة، ولكن عرفتُ، على الأقلّ، ماذا تفعل المدارس وكيف تعمل لتطوير معلّميها. توصلّتُ إلى أنّ المشكلة التي تواجه المعلّمين ليست في كيف يعلّمون من أجل الفهم فقط، بل تضاف إليها مشكلتان أخريان: الدافعيّة المحدودة عند الطلّاب، وكيفيّة التعامل مع التنوّع الموجود في كلّ صف، ليس الفروق الفرديّة بين الطلّاب فحسب، بل الاختلافات الثقافيّة أيضًا. وفيما يتّصل بهذه المشكلة أدخلتُ مساقًا جامعيًّا بعنوان "التعليم والتعلّم في الصفوف غير المتجانسة"، ولكن يجب أن أقرّ أنّه حتّى النظريّات في التربية لا تسعفنا كثيرًا في التعامل مع هاتين المشكلتين، ويظلّ التقصير فيهما واضحًا. 

أسّستُ وحدة ابن رشد لتحسين التعليم في الجامعة، وعملنا فيها لخمس سنوات، وكان تركيزنا كيف نشتغل مع أساتذة كلّيّات القانون والهندسة والآداب وغيرها من أجل تحسين تعليمهم، وكانت الخلفيّة النظريّة scholarship of teaching and learning أي أنّ المعلّم الجامعيّ يستطيع أن يحسّن تعليميه من خلال البحث في تعليمه، ويمكن له أن ينشر أوراق علميّة تحتسب في سجلّه الأكاديميّ، ليس من خلال النشر في موضوع تخصّصه فقط، بل من خلال النشر في موضوعات ذات صلة بكيفيّة تعليم الموضوع. وكان هذا توجّه أستاذي لي شولمن، وهذه فكرته. 

في سياق محاولة التأثير في السياسات العامّة، كنت المنسّق العام لاستراتيجيّة تأهيل المعلّمين في فلسطين التي صدرت عام 2008، وشارك فيها عدد كبير تجاوز الخمسين شخصًا، كنّا نأخذ آراءهم ونكتب ثمّ نعيد ما كتبنا لهم لأخذ ملاحظاتهم مرّة أخرى. أعتقد أنّها من أفضل الاستراتيجيّات التي صدرت في العالم العربيّ، والمميّز فيها المشاركة الكبيرة على المستويات كافّة، ولأوّل مرّة صارت هناك سياسات واضحة حول المطلوب لتأهيل المعلّمين ما قبل الخدمة. أعطيتُ مهمّة التأهيل قبل الخدمة للجامعات، وكانت واضحةً المعاييرُ والبرامج التي ينبغي العمل عليها والالتزام بها، ولكن، تعلّق جزء من الاستراتيجيّة في التعليم أثناء الخدمة، ولسوء الحظّ لم يُعمَل به كما ينبغي، بسبب المشكلات المركزيّة المفرطة في وزارات التربية العربيّة التي تنظر إلى نفسها على اعتبار أنّها مقدّمة خدمة، لا صانعة سياسات، وظلّ اعتقادهم أنّ تأهيل المعلّمين أثناء الخدمة هو عملهم، ولا يتمّ من خلال مراكز المعلّمين أو الجامعات.  

 

  • - لو ركّزنا على التطوير المهنيّ، وتحديدًا لمعلّمي العلوم، الذي عملتَ به ولك إسهامات فيه، ما الأطر التي استندتَ إليها في برامج التطوير المهنيّ؟  

 

أحد أهمّ الأطر التي أستخدمها إطار نظريّ لمهنة التعليم كمهنة، لا كوظيفة. ثمّة كلام كثير عن تمهين التعليم، وهناك جدل في الأدب التربويّ حول: هل التعليم حقًّا مهنة أم لا؟ برأيي، هناك تشابه بين التعليم مع المهن الأساسيّة، مثل المحاماة والطب، ولكنّها تتشابه أيضًا مع وظائف أخرى مثل الخدمة الاجتماعيّة والتمريض، ففيها طابع أو سمة الخدمة من أجل تحسين الإنسان. تهدف المهن الأخرى إلى تحسين الإنسان، ولكنّ التعليم يختلف عن غيره في أنّه أكثر مهنة تركّز على هذا الجانب وتحاول تحويل الإنسان إلى شخص مثقّف. ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ اهتمامي الرئيس في التربية، أي ما يترجم إلى Education، لا التعليم Teaching، وبالتالي، التربيّة تتجاوز كلًّا من التعليم والتدريب. التربية هي محاولة تطوير شخصيّة الإنسان بجوانبها الثقافيّة والقيميّة. وفي حال اعتبرنا التعليم مهنة قريبة مثلًا من الطب، فما خصائص هذه المهن؟

أوّلًا: وجود قاعدة معرفيّة نظريّة. يبرز اختلاف هنا، فالقاعدة المعرفيّة النظريّة للتربية والتعليم ليست واضحة ومحدّدة مثل الموجودة في الطب.

ثانيًا: ثمّة ثغرة بين النظريّة والتطبيق، وهذا ما يميّز هذه المهن، وبالتالي، هناك حاجة إلى استخدام العقل والحكم العقليّ للتعامل مع هذه الفجوة بين النظريّة والتطبيق، وهذا غير موجود في الحرف أو العمل التقنيّ. تعدّ المساحة بين النظريّة والتطبيق والحاجة إلى إعمال العقل واتخاذ قرار من الخصائص المميّزة للمهن. مثلاً، يجد أستاذ نفسه في تساؤل ومفاضلة بين إنهاء المادّة حسب الخطّة، والتوقّف لعقد نقاش مستفيض حول سؤال من طالبة لم تطرح أيّ سؤال منذ بداية السنة الدراسيّة. يطرح الأستاذ على نفسه السؤال بين النظريّة والممارسة العمليّة وماذا سيقرّر؟ ثمّة استخدام للعقل وإصدار أحكام طوال الوقت، فلا وجود لوصفة جاهزة. 

بذلك تكمن المشكلة برأيي، فإنّ كثيرًا من المعلّمين، ومعهم النظام العام، يختزلون مهنة التعليم في مجموعة من المهارات، فيحوّلون المعلّم إلى تقنيّ، وأنا أقول إنّ المعلّم مهنيّ، عليه استخدام عقله كلّ الوقت ولا بدّ من احترام حرّيّته في اتخاذ القرار، لا أن نحوّله إلى تقنيّ من خلال مناهج، مثل مناهج اللغة الإنكليزيّة لدينا التي تحدّد له ماذا سيفعل وبأيّ ترتيب، وفق تفصيل كبير ومُحكَم، من بداية الحصّة حتّى نهايتها. لذلك، أنا أرفض كلمة تدريب، فالتدريب يقوم على مهارات ولا اشتراط أن يعرف المتدرّب الخلفيّة النظريّة الكامنة في أساس هذه المهارات. بالنسبة لي، من المهمّ فهم الخلفيّة النظريّة خلف أيّ طريقة تعليم، وقدرة المعلّم على الاحتكام إلى عقله في قرار متى يستخدمها ومتى لا يستخدمها. بالإضافة إلى ذلك، يوجد في مهنة التعليم رسالة، وبالتأكيد لا يعمل كلّ المعلّمين في سبيل رسالة، ولكنّ المهنة ككل فيها رسالة وجانب قيميّ وأخلاقيّ يهدف إلى تطوير الإنسان. 

ثالثًا: في أيّ مهنة يتحكّم مجتمع الممارسين بها، وهذا موجود في المهن ذات القبول والمكانة الاجتماعيّة الأبرز كالطبّ والمحاماة، ولكن هذا غير موجود في التعليم. الأطباء يصمّمون امتحان المزاولة ويشرفون عليه، والمحامون ينظّمون امتحانًا ويشترطون تدريبًا عند محام، ولكنّ ذلك مفقود في مهنة التعليم لأنّ المعلّمين غير مسيطرين على مهنتهم. فمهنة التعليم قريبة من المهن ذات المكانة إذًا، ولكنّها لم تبلغ مستواها بعد. 

هذا في مجمله هو الإطار المهنيّ للتطوير، ولديّ أيضًا إطار فكريّ متّصل بربط النظريّة بالممارسة، وهي ليست عمليّة سهلة وتحتاج إلى وقت. معظم ما نقدّم من دورات محدودة بعشرين ساعة نقدّمها معتقدين أنّ المعلّمين قادرون على تطبيقها، ولكن لا يترتّب على هذا النوع من التدريب أثر كبير في الممارسة، ولذلك أسمّيها، تهكّمًا، غزوات تدريبيّة. برأيي، من يريد العمل مع المعلّمين عليه العمل لفترات طويلة، فمن المهمّ تنفيذ ما تدرّبوا عليه في صفوفهم ومراجعة إن كانوا قادرين على تطبيقه، ربّما تكون المشكلة في النظريّة لا في عدم قدرتهم على تطبيقها، فلا بدّ من العودة إلى الفحص مرّة أخرى، وقد قمتُ بشيء شبيه بهذا خلال عملي في مشروع تعليم الديمقراطيّة، إذ كنت أجتمع مع المعلّمين أسبوعيًّا مدّة سنة، ولكنّ المشكلة أنّ هذا النوع من التدريب مكلف جدًّا.

الإطار الثالث هو اهتمامي منذ رسالة الدكتوراة بما يسمّى (PCK) Pedagogical Content Knowledge، المعرفة التدريسيّة المرتبطة بالمحتوى. وهذه المعرفة تتطوّر من خلال الخبرة في تعليم موضوع معيّن لعدّة سنوات، فتصبح المعلّمة تعرف ما المفاهيم البديلة حول الموضوع التي يحملها الطلّاب، وما المفاهيم الصعبة، وكيف يمكن تمثيل المعرفة بأشكال مختلفة لتصبح مفهومة للطلّاب؟ وكيف يمكن مواجهة المفاهيم البديلة والأخطاء الشائعة؟ وغيرها من الأمور المرتبطة بتعليم ذلك الموضوع. وعليه، أحاول ألّا تكون دوراتي في التعلّم من خلال اللعب أو غيرها من الأساليب الرائجة، بقدر أن تكون حول تعليم موضوع محدّد لمجموعة متجانسة من المعلّمين. أعمل مع معلّمي صفّ محدّد وعلى موضوع محدّد، وعلى كيفيّة تعليمه من خلال خبراتهم. معلّمونا لديهم الكثير من المعرفة ولكنّها معرفة ضمنيّة، ويكون جزء مهمّ من عملي معهم على كيفيّة رفعها إلى درجة الوعي وتسميتها. إنّ معرفة المعلّمين الضمنيّة هي معرفة خاصّة. والسؤال هنا: كيف يمكننا جعلها معرفة عامّة قابلة للتوثيق والنقد والتقييم والنقاش بين المعلّمين. يهدف جزء من هذه الدورات إلى بناء معرفتهم الضمنيّة وجعلها معرفة صريحة، ومن المهمّ القول أنّ الـ PCK ليست كّل شيء في تأهيل المعلّمين ولكنّها شيء مهمّ.  

أخيرًا، كيف يصبح المعلّم باحثًا في شغله؟ وهذا قريب ممّا يُعرَف بـ Action Research أي الأبحاث الإجرائيّة، حيث يبحث المعلّم في تعليمه لأنّه يواجه مشكلة، إذ تظهر بعض الأبحاث أن المعلّم غير قادر على التطوّر مهنيًّا إلّا إذا شعر بحاجته إلى تطوّر مهنيّ، وهذا مرتبط برؤيته عن نفسه كمعلّم ورؤيته لممارساته وإدراكه للفجوة بين الممارسة الحقيقيّة والممارسة المثلى التي يرغب بها، ولهذا من الصعب تطوير المعلّمين الراضين تمامًا عن ممارساتهم. 

 

  • - ما الدور الذي يجب أن يلعبه المعلّم نفسه في إطار تطويره المهنيّ؟ بصياغة أخرى، كيف نخرج من إطار ممارسة سلطة معرفيّة على المعلّم في برامج التطوير المهنيّ؟  

 

أحد البدائل التي كانت متوفّرة في تجربتي هي إنشاء مراكز للمعلّمين، ومركز المورد، الذي ذكرتُه سابقًا، كان محاولة للقيام بذلك، وللأسف، أغلق قبل فترة بسبب نقص التمويل. 

ومن المهمّ توفير خيارات للمعلّمين، مثل إعلان مجموعة من الدورات وتوضيح موضوعاتها منذ بداية العام على أن يختار المعلّم ما يريد بناءً على حاجاته وشعوره بما يحتاج إلى تطوير عنده. 

يخطر لي أيضًا هنا نموذج سائد في الولايات المتّحدة، يتمثّل في مراكز التطوّر المهنيّ المرتبطة بشراكة حقيقيّة مع الجامعات، وتستخدم من أجل تأهيل المعلّمين. يحصل المعلّمون فيها على احتياجاتهم التطويريّة من الجامعة، وبعد مسار محدّد يصير المعلّم نفسه مؤهّلا للإشراف على مسار غيره من المعلّمين أو الطلّاب. 

 

  • - التفكير النقديّ والتربية على الديمقراطيّة والتربية على التحرّر، توجّه عامّ يُنادَى به باستمرار، كيف يمكن العمل على التطوّر المهنيّ للمعلّم ضمن هذا الاتجاه وما أهميّته كتوجه عام؟ 

 

أعتقد أنّ الجذور التاريخيّة والفكريّة مختلفة في كلّ واحدة من هذه العناصر أو المفاهيم، فالتفكير النقديّ يرجع، إلى حدّ ما، إلى فلسفة التعليم في بريطانيا بعد الحرب العالميّة الثانية، والتربية على الديمقراطيّة جاءت من خلفيّات أخرى، أمّا التربية على التحرّر فهي آتية من فكر يساريّ، ولكن المشترك بينها أنّها جميعًا تهدف إلى تغيير المجتمع وتحسينه بدلًا من الإبقاء على الوضع القائم. 

ولكنّ السؤال هنا: ما دور التربية؟ هل الحفاظ على الوضع القائم، أم تغيّره؟ هل التنشئة على القيم السائدة أم التربية لتغيير المجتمع؟ 

هناك دور محافظ واضح للتربية، وربّما هو الغالب في معظم الدول العربيّة، ولا سيّما عند التقاء الجهات المحافظة في المجتمع مع السلطة التي لا تريد التغيير، وفي المناطق التي شهدت ثورات، ثمّة دور أكبر للمدرسة في التغيير. لذا، تبدو المدرسة مرتبطة مع النظام السائد. 

لذلك، لا يمكن القول ببساطة إنّ أيّ تربية جيّدة ستعني الوصول إلى تفكير نقديّ، وبالتالي إلى تغيير في المجتمع، فالتغيير مرتبط دومًا بحركات سياسيّة. ربّما يمكن القول إنّ تربية جيّدة، ستنتج إنسانًا مفكِّرًا وناقدًا يستطيع تغيير المجتمع، ولكنّ التغيير مرتبط بالحركات السياسيّة، وهذا ما وجدته في مراجعاتي لأدبيّات التربية التحرّريّة، باولو فراري مثلاً، فهذه التربية تنجح حين يكون المعلّمون أنفسهم جزءًا من حركة سياسيّة. 

يخطر لي هنا، تدليلًا على دور التربية في الحفاظ على السائد، كيف تكون السيطرة على وزارة التربية والتعليم أولى متطلّبات الجهات المحافظة في كثير من الدول العربيّة؟

 

  • - سؤال عام ولكنّه ملحّ، لماذا لا يزال صوت التربويّين والباحثين النقديّين ضعيفًا في الجامعات العربيّة وبعيدًا عن التطبيق؟ هل يمكنك اقتراح إجابة مركّبة تتقاطع مع النظام العام عربيًّا وبنية المؤسّسات وطبيعتها وصولًا إلى التربويّين والباحثين أنفسهم وممارساتهم؟ 

 

نعم، هذا الصوت خافت لعدّة عوامل، منها: نظرة التربويّين أنفسهم إلى التعليم كعمليّة تقنيّة، ولا تفكير جادّ في دور التربية عامّة. ربّما تؤثّر في ذلك أيضًا الرؤية المحدودة للدوريّات باللغة العربيّة في العالم العربيّ ونوعيّة المقالات التي يقبلونها، واشتراط أن تكون كمّيّة وإمبريقيّة فقط. حاولتُ سابقًا أن أنشر مقالات ودراسات كيفيّة ولم تكن تجربة مشجّعة، إذ من الصعب العثور على مجلّة تربويّة عربيّة تنشر مقالة وجهة نظر مدعّمة أكاديميًّا، أو مقالة تدافع عن موقف معيّن.

هناك واقع أو مرحلة في المجتمعات العربيّة قوامها المحافظة والحفاظ على ما يدعى بالعادات والتقاليد، وكلّها تؤثّر في الأصوات النقديّة، ومن يريد المواجهة فعليه أن يكون مستعدًّا لدفع الثمن. وهذا يعود إلى الجوّ العامّ في معظم الدول العربيّة من انعدام حريّة الفكر وسيادة ثقافة محافظة لا تقبل التعدّدية والاختلاف. الجو العامّ غير ديمقراطيّ للأسف. 

 

  • - لديك إسهام حول مفهوم "المعرفة التدريسيّة المرتبطة بالمحتوى"، هل يمكن أن تبيّن لنا أهميّته؟ وكيف يساعد في تطوير عمل المعلّمين ومعارفهم؟ 

 

خلال عملي على رسالة الدكتوراه كنتُ أتحدّث مع أستاذي لي شولمن عن أثر معرفة المعلّمين بمحتوى ما يعلّمون وتخصّصهم في تعليمهم. كنّا مهتمّين بمعرفة حجم أو نوع تأثير معرفتهم بتخصّصهم في تعليمهم. ولكنّي وجدتُ أنّ من يعلّم موضوعًا محدّدًا، فلنقل التمثيل الضوئيّ للصف الثامن، يعرف المفاهيم الصعبة والمفاهيم البديلة والأمثلة الجيّدة، ويعرف كيف يربط تعليم الموضوع بأهداف طويلة المدى. 

طوّر شولمن الفكرة ونشر ورقتين حول الموضوع، وسمّاها PCK في أواخر الثمانينات واشتهرت عالميًّا، وفي رسالتي الدكتوراه فصل عن هذه الفكرة بالضبط. وفي سنة 2005 أعدتُ النظر فيها ونشرتُ مقالة معتبرًا أنّ هذه المعرفة عبارة عن حالات، فالمعلّم بعد تعليم فترة طويلة بناءً على الخبرة، وليس بناءً على ما درس في الجامعات، يكوّن معرفة، وهذه المعرفة تصبح حالة، وحين أدخل على الصفّ الثامن لتدريس التمثيل الضوئيّ الذي درّسته لسنوات، أكون أعرف كيف أعلّم هذا الموضوع. وطبعًا أتحدّث عن المعلّم الذي يفيد من الخبرة، والذي يراكم الخبرة، ولا يكرّرها فحسب. 

وقد اعتبرتُ أنّ هنالك سبعة جوانب لهذه المعرفة، وربطت هذا بالتخطيط، فمعظم ما نعلّمه في الجامعات مرتبط بالتخطيط حسب نموذج "تايلر"، أي وضع أهداف وطرق للوصول إليها وفحص مدى تحقّقها، في مسار خطّيّ. أمّا ما أقترحه فهو نموذج غير خطّيّ للتخطيط يتمّ فيه الاهتمام بجوانب سبعة للمعرفة التدريسيّة المرتبطة بالمحتوى وللتفاعل بين هذه الجوانب. لتوضيح ذلك، فلنعد إلى المثال السابق، أنا أفكّر بتعليم التمثيل الضوئيّ، ما هي أهدافي؟ يمكن وضع هدف طويل المدى متعلّق بالوعي البيئيّ ودور التلوّث في القضاء على نباتات بحريّة (البلانكتون)، قد يتطلّب ذلك أن أشرح تفاصيل غير موجودة في المحتوى، فأضطرّ إلى التعديل عليه. بالتدقيق في المسار أجد أنّني بدأتُ من المحتوى ثمّ عدّلتُ عليه في ضوء الهدف، ثمّ أفكّر كمعلّم، هل يعي الطلّاب كلّ هذا؟ هنا أفكّر في خصائص الطلّاب، وأغيّر في التخطيط بناءً على هذا الجانب. وهكذا آخذ سبعة جوانب في الاعتبار.  

لا يتلاءم ذلك مع دفاتر التخطيط الموضوعة من طرف الوزارات، ولا يتلاءم مع كيف نطلب من المعلّم أن يخطّط، وهنا أرى الدور الكبير لهذا المفهوم في تحسين نوعيّة التعليم واحترام معرفة المعلّمين، ولكن مع التأكيد مرّة أخرى على أنّ هذه المعرفة ليست كلّ شيء، فهي لا تتناول الجانب العاطفيّ والجانب الأخلاقيّ في معرفة المعلّمين وممارساتهم.

 

  • - كيف ترى مركزيّة النظام التعليميّ الرسميّ في معظم البلدان العربيّة؟ وكيف يؤثّر برأيك سلبًا وإيجابًا في التعليم المدرسيّ؟ 

 

هناك إيجابيّات وسلبيّات. من الإيجابيّات المساعدة في تطوير هويّة واحدة مشتركة بين الناس، وقد يكون ذلك، في بلد مثل لبنان، مهمّ جدًّا، بدل أن تعلّم كلّ طائفة منهجًا مختلفًا. وثمّة تنويعات عربيّة تتّصل بذلك، عشائريّة ومناطقيّة في دول أخرى. لذلك، قد يلعب التعليم ومركزته دورًا كبيرًا في تطوير الهويّة الوطنيّة الجامعة. 

أمّا السلبيّ فقد لا يكمن في المركزيّة، بل في المركزيّة المفرطة، أي أن نحدّد كلّ شيء للمعلّم بتفصيل مفرط، ونلزمه باتباعه دون أيّ دور لرؤيته وقراره، هنا نسلب من المعلّم مهنته، ونحرمه من استخدام فكره، ونحوّله إلى تقنيّ دون إبداع، فلا يتمكّن من التعامل مع الفروق الفرديّة أو خصائص الطلّاب أو احتياجات المنطقة والمجتمع.  

المركزيّة المفرطة تعدم حريّة الاختيار لدى المعلّم والطالب، ونظريّات الدافعيّة تؤكّد بوضوح الحاجة إلى الاستقلال حتّى تتطوّر الدافعيّة. لا أعرف ما الوصفة الأنسب، والمقدار الأدقّ أو التوازن بين المركزيّة ونقيضها، ولكن لا بدّ من حلّ وسط، يحترم المعلّم ويترك له متّسعًا من الحرّيّة.  

 

  • - ملف العدد القادم لمجلة منهجيّات عن التقويم ودوره في عمليّة التعلّم، نودّ أن نسمع منك رأيك بشروط قبول الطلّاب في الجامعات العربيّة واعتمادها أساسًا على نتائج الثانويّة العامّة؟ وكيف للجامعات أن تطوّر هذه الشروط لتأخذ بعين الاعتبار المهارات التي يحتاجها الطالب للدراسة الجامعيّة؟ 

  

التوجيهيّ أو الثانويّة العامّة مؤشّر جيّد نسبيًّا، وبناءً على دراسة أجريتها في جامعة بيرزيت، فإنّ معامل الارتباط بين علامة التوجيهيّ والمعدّل التراكميّ في الجامعة حوالي 0.6، أي أنّ حوالي 36 بالمئة من التباين في علامات الطلّاب في الجامعة يمكن تفسيره في التباين في علامات التوجيهيّ. ولكن 64 بالمئة لا زال مجهول الأسباب. التوجيهيّ يتنبّأ تقريبًا بثلث التنوّع، أمّا البقيّة فلا يفسّرها. وبالتالي، من غير العادل أبدًا استخدام التوجيهيّ فقط. 

ولكن، ما البديل؟ في بعض الأحيان يقال إنّ من يريد دراسة تخصّص معيّن في الجامعة عليه الاهتمام بمواد التخصّص في التوجيهيّ أو ما يكافئه، لا بالمواد كلّها. وهناك دول طوّرت النظام من أجل أن يدرس الطالب في المدرسة مواد محدّدة تؤهّل للتخصّص الجامعيّ فقط، وثمّة دول لديها اختبارات أخرى مثل الاختبار الكتابيّ المقاليّ، وهذا يقيس استعداده بشكل عام ولا سيّما في اللغة، وبالتالي تتوفّر عدّة مؤشّرات أو أدوات قياس، واستخدام عدّة مؤشّرات أفضل من استخدام مؤشّر واحد. 

قد يكون الحلّ في استخدام أكثر من مؤشّر، ويمكن تطوير مؤشّرات كثيرة، ويمكن أيضًا فتح المجال أمام الطلّاب كي يجرّبوا التخصّصات في السنة الأولى من دراستهم الجامعيّة، لتسهيل الانتقال من تخصّص إلى آخر في الجامعات. 

 

  • - يكثر الحديث عمّا غيرتْهُ جائحة كورونا أو كوفيد 19 في العالم وعمّا يمكن أن تغيّره في المستقبل، بخصوص مستقبل التعليم في العالم العربيّ بعد الجائحة: هل ترى أنّنا بصدد الاستفادة من التجربة لتطوير التعليم؟ 

 

أنا، نسبيًّا، غير متفائل، وهذا أقرب إلى الحدس، لأنّني أعتقد أنّ العودة إلى التعليم الوجاهيّ قد تعيدنا إلى العادات القديمة. استفدنا من التجربة، والكثير من المعلّمات والمعلّمين استفادوا: برمجيّات جديدة وأساليب مختلفة وعالم افتراضيّ يُمكِّن من عمل تجارب عديدة، ومصادر هائلة ومفتوحة على الانترنت. ولكن السؤال إن كانوا سيواصلون استخدامها. وكذلك استفاد الطلّاب، إذ صاروا أكثر اعتمادًا على أنفسهم، وأقرب إلى تطوير قدراتهم على التعلّم الذاتيّ. 

 

  • - إذا أتيحت لك الفرصة والإمكانيّات غير المحدودة لتغيير أو تطوير مجال واحد في النظام التعليميّ في فلسطين، ما المجال الذي ستختاره؟  

 

أنا مؤمن بأنّ التعليم نظام متكامل، وتغيير مجال واحد لا يكفي، لا بدّ من العناية بعوامل عدّة بشكل شموليّ، يخطر لي الاهتمام بنوعيّة المعلّمين والمنهاج والتقييم في آن واحد. ولكن إن كان عليّ الاختيار أختار الاهتمام بنوعيّة المعلّمين مع أنّه أصعب الخيارات وأكثرها تكلفة. معلّم جيّد يمكنه تحسين منهاج سيّء، ومنهاج ممتاز لا يمكن أن يسفر عن شيء مع معلّم سيّء. تأهيل معلّمين جيّدين صعب جدًّا، فهو يحتاج إلى تحسين نظرة الناس إلى مهنة التعليم، وهذا يتطلّب الكثير من العمل، منه تحسين المستوى المعيشيّ وزيادة معدّلات القبول لهذه المهنة. 

ربّما من الأسهل العمل على التقييم، تغيير التوجيهيّ وامتحانات القبول للجامعات، لأنّه الحصان الذي يجرّ العربة، فإذا ركّزتْ هذه الامتحانات على مهارات ذهنيّة عليا يعلّمها المعلّمون من أجل أن ينجح طلّابهم في الامتحانات. وهنا أسأل: لماذا يجب أن تكون وزارة التعليم هي المسؤولة عن نتائج التوجيهيّ؟ لدينا تضارب مصالح هنا، لأنّ الوزارة هي من يقيّم الطلّاب الذين هم نتاج مدارسها. لذلك، من المهمّ أن يكون التوجيهيّ أو التقييم منوطًا بجهة مستقلّة، وحتّى المناهج يخطر لي إمكانيّة أن تعمل عليها شركات خاصّة أو أفراد يلتزمون بمعايير محدّدة لنتاجات التعلّم المقصودة، فيتوفّر تنوّع في الكتب المدرسيّة والمصادر التعليميّة بدلًا من كتاب حكوميّ واحد.