لعلّ الشخصيّة واحدة من أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في علم النفس البشريّ، وذلك لتأثيرها في تفكيرنا وشعورنا وسلوكنا، وتشكّل علاقاتنا ومساراتنا المهنيّة، وحتّى كيفيّة إدراكنا للعالم. ولكن متى بالضبط تتشكّل شخصيّة الإنسان؟ أثار هذا السؤال فضول علماء النفس والمعلّمين والآباء لعقود من الزمن. إنّ فهم متى وكيف تتشكّل شخصيّة الطفل لا يمنحنا نظرة ثاقبة حول التطوّر البشريّ فحسب، بل يقدّم أيضًا أدوات عمليّة لتعزيز النموّ العاطفيّ والاجتماعيّ الصحّيّ لدى الأطفال.
ما الشخصيّة؟
قبل الخوض في الرحلة الزمنيّة لتكوين الشخصيّة، من المهمّ معرفة ماهيّة الشخصيّة. تشير الشخصيّة في علم النفس إلى المجموعة الفريدة من الأفكار والعواطف والسلوكيّات التي تميّز الفرد باستمرار، والتي غالبًا ما يتمّ وصفها بسمات مثل الانفتاح على الخبرة والتجارب؛ وتوصف كالتالي (مبدِع، فضوليّ مقابل متجانس، حذِر)، ويقظة الضمير والوعي؛ وهو أن يكون للشخص دور فعّال في المواقف الحياتيّة المختلفة، وتوصف كالتالي (فعّال، منظّم مقابل غير منضبط، وغير مبالٍ)، والانبساطيّة التي تعود للصفات الاجتماعيّة للشخص الذي يسعى خلف الأشياء المثيرة، وتوصف كالتالي (غير متحفّظ، مفعم بالطاقة مقابل منعزل، متحفّظ)، والطيبة والطبع اللطيف، والتي تتجلّى في الخصائص السلوكيّة الفرديّة، وتوصف كالتالي (ودود، شغوف مقابل متحَدٍ، منفصل)، وأخيرًا العصابيّة، والتي توصف كالتالي (حسّاس، قلق مقابل مطمئنّ، واثق) - والمعروفة باسم سمات الشخصيّة الخمس. يمكن لهذه السمات التنبّؤ بجوانب مختلفة من السلوك والتفاعل، وتتضمّن الاستقرار العاطفيّ، والتواصل الاجتماعيّ، وأخلاقيّات العمل.
العوامل المؤثّرة في شخصيّة الطفل
تشير الأبحاث إلى أنّ الشخصيّة تتأثّر بكلّ من الاستعدادات الوراثيّة والعوامل البيئيّة، كما تشير إلى أنّ حوالي 40-60% من سمات شخصيّتنا قد تكون وراثيّة، أي إنّها تتأثّر بتركيبتنا الجينيّة. أمّا الباقي فيتشكّل بالتجارب البيئيّة، مثل التنشئة والثقافة والتفاعلات الاجتماعيّة.
لنستعرض أهمّ العوامل التي تؤثّر في شخصيّة الطفل:
تأثير الوالدين
من أهمّ العوامل التي تؤثّر في شخصيّة الطفل ما يصدر عن والديه؛ فهما الأكثر تفاعلًا معه والتصاقًا به. ويظهر تأثيرهما بطريقة تعاملهما معه، والأجواء الأسريّة التي يوفّرانها، وتصرّفاتهما وطريقة تعاملهما مع الآخرين، إذ يتعلّم الطفل منهما مباشرة، ويكتسب كثيرًا من سلوكيّاته من علاقته معهما.
بيئة المنزل
يعدّ وجود الاستقرار في المنزل الذي ينشأ فيه الطفل أساسًا لتنشئة طفل ذي صحّة عقليّة سليمة، ومن أشكاله الاستقرار النفسيّ والاستقرار المادّيّ.
البيئة المدرسيّة
تؤثّر البيئة المدرسيّة أيضًا في شخصيّة الطفل، باعتبار أنّه يقضي في المدرسة معظم وقته مختلطًا مع أقرانه ومعلّميه. ولهذا، من المهمّ أن يحرص الوالدان على التحاق طفلهما بمدرسة تدمج في مقرّراتها بين المناهج الصفّيّة واللاصفّيّة، لضمان نموّ شخصيّته بشكل سليم.
الثقافة
تؤدّي ثقافة الأسرة دورًا محوريًّا في تكوين شخصيّة الطفل وتشكيل نظرته إلى العالم، إذ تُنقل إليه القيم والممارسات الاجتماعيّة السائدة في بيئته بالتربية اليوميّة والتقاليد التي يعيشها داخل المنزل. فعندما ينشأ الطفل في بيئة تضمّ ثقافات متعدّدة، فإنّه يتعرّض إلى مزيج من المؤثّرات. فالثقافة المحيطة تقدّم له القيم والمعايير المجتمعيّة العامّة، بينما تغرس ثقافة العائلة المبادئ والعادات التي تعكس هويّة الأسرة. مع مرور الوقت، يتداخل هذا التأثير المتبادل، ليشكّل مجموعة من الأفكار والمعتقدات والسلوكيّات التي تميّز شخصيّة الطفل.
أساليب التربية
شخصيّة الطفل نتاج الأساليب التربويّة التي يطبّقها عليه والداه؛ فإذا كانت هذه الأساليب تتضمّن ممارسات سلبيّة، مثل الإفراط في الحماية مثلًا، فقد يكتسب الطفل سلوكيّات سلبيّة، مثل الأنانيّة أو عدم تحمّل المسؤوليّة، والأمر نفسه ينطبق على أساليب التربية الإيجابيّة، والتي تكسب الطفل سلوكيّات إيجابيّة، مثل الصدق والانضباط.
متى تتكوّن شخصيّة الطفل؟
إنّ تكوين الشخصيّة ليس حدثًا منفردًا يحدث بشكل مفاجئ، بل عمليّة تدريجيّة تتكشّف وتتغيّر بمرور الوقت. يتّفق علماء النفس عمومًا على أنّ أساس الشخصيّة يبدأ في الظهور في مرحلة الطفولة، لكنّه يستمرّ في التطوّر حتّى مرحلة البلوغ. دعونا نقسم هذا إلى مراحل رئيسة:
الطفولة (من الولادة إلى عمر السنتين)
تعدّ أوّل سنتين من حياة الطفل من أكثر المراحل أهمّيّة لتطوّر شخصيّته. فأثناء هذا الوقت، يبدأ الطفل في التعبير عن مزاجه، وهو مقدّمة للشخصيّة التي سيكوّنها مع الوقت. يشير المزاج إلى أنماط السلوك الفطريّة للطفل وردود فعله العاطفيّة، مثل كونه سهل الانقياد، أو صعب الإرضاء، أو شديد الحساسيّة، أو سريع الانفعال. في حين أنّ المزاج ليس هو نفسه الشخصيّة، إلّا إنّه يؤسّس للبِنات الأساسيّة لسمات الشخصيّة اللاحقة.
تُعدّ نظريّة "مراحل النموّ النفسيّ الاجتماعيّ" لإريك إريكسون من النظريّات المؤثّرة في علم النفس التنمويّ. وفي مرحلتها الأولى، "الثقة مقابل عدم الثقة"، التي تحدث في الطفولة المبكّرة، يرى إريكسون أنّ تلبية الوالدين لاحتياجات الطفل الأساسيّة بشكل منتظم تُنمّي لديه شعورًا بالثقة، ما يشكّل الأساس لشخصيّة صحّيّة. وتُعدّ الأمّ بطلة هذه المرحلة، كونها المصدر المباشر للطعام والراحة. أمّا في حال فشل الوالدين في توفير بيئة آمنة وتلبية تلك الاحتياجات، فقد ينشأ لدى الطفل شعور بعدم الثقة، ما قد يتطوّر لاحقًا إلى إحساس بالخيبة والشكّ والعزلة وانعدام الأمان.
مرحلة الطفولة المبكّرة (من 2 إلى 6 سنوات)
بحلول الوقت الذي يصل فيه الطفل إلى مرحلة الطفولة المبكّرة، تصبح سمات شخصيّته أكثر وضوحًا. تتميّز هذه الفترة بظهور الاستقلال والوعي الذاتيّ والتفاعل الاجتماعيّ. يبدأ الأطفال في هذه المرحلة في تأكيد استقلاليّتهم - أحيانًا بنوبات الغضب والتحدّي - ولكنّ هذا جزء طبيعيّ من نموّهم. إذ يعتقد علماء النفس أنّ التفاعلات المبكّرة مع الوالدين والعائلة في هذه المرحلة، تؤدّي دورًا مهمًّا في تشكيل الشخصيّة.
عنوان هذه المرحلة وفقًا لنظريّة مراحل النموّ النفسيّ الاجتماعيّ: "الاستقلاليّة مقابل الشكّ". إذا شجّع الوالدان الطفل على سلوك الاكتفاء الذاتيّ، سيجعله هذا يطوّر شعورًا بالاستقلاليّة، وهو الإحساس بالقدرة على التعامل مع مشاكل عديدة بنفسه. ولكن إذا طلب الوالدان من الطفل أن يتقدّم بسرعة كبيرة في هذا الجانب في وقت قصير، أو رفضا تركه يؤدّي مهامه التي يقدر عليها، أو تهكّما على محاولاته الأولى بالاكتفاء الذاتيّ، قد يطوّر الأطفال شعورًا بالخزي والشكّ في قدرتهم على معالجة المشاكل.
مرحلة الطفولة الوسطى (من 6 إلى 12 سنة)
في مرحلة الطفولة الوسطى، تصبح شخصيّات الأطفال أكثر استقرارًا وصقلًا، فيبدؤون في مقارنة أنفسهم بالآخرين، وينمو شعورهم بالهويّة والإنجاز. لذلك يتجلّى عنوان هذه المرحلة بسؤال: "هل يمكن أن أنجز في عالم الناس والأشياء من حولي؟" وتصبح بيئات المدرسة والعلاقات مع الأقران مؤثّرة بشكل كبير في هذا الوقت. على سبيل المثال، قد يطوّر الطفل الذي يتلقّى الثناء والتشجيع على جهوده في المدرسة شعورًا بالكفاءة والثقة. من ناحية أخرى، قد يؤدّي النقد أو الرفض إلى الشعور بعدم الكفاءة. لذلك، فإنّ الأزمة أو السمة النفسيّة التي يواجهها الطفل في هذه المرحلة هي الجدّ مقابل الدونيّة.
تمثّل هذه المرحلة أيضًا تطوّر التفكير الأخلاقيّ والتعاطف، وهما جزء لا يتجزّأ من الشخصيّة. يمكن أن تؤثّر قدرة الطفل على فهم وجهات نظر الآخرين وتنظيم عواطفهم في علاقاته الاجتماعيّة وشخصيّته بشكل عامّ.
مرحلة المراهقة (من 13 إلى 19 سنة)
المراهقة فترة تحوّليّة تترسّخ أثناءها سمات الشخصيّة، وهي المرحلة التي تتمحور حول سؤال: "من أنا، ومن يمكن أن أكون؟" تتميّز هذه المرحلة بالتغيّرات الجسديّة والعاطفيّة والإدراكيّة السريعة، فضلًا عن البحث عن الهويّة. ووفقًا لإريكسون، فالأزمة النفسيّة التي يواجهها الطفل في هذه المرحلة المهمّة من حياته تتمثّل في "الهويّة مقابل التشوّش في فهم الدور في الحياة"، والتي على ضوئها تتطوّر شخصيّة الطفل. يجرّب المراهقون أدوارًا ومعتقدات وقيمًا مختلفة لتكوين شعور متماسك بالذات.
***
تكوين الشخصيّة عمليّة ديناميكيّة ومعقّدة، تبدأ في الطفولة وتستمرّ طوال الحياة. وفي حين أنّ الاستعدادات الوراثيّة تضع الأساس للشخصيّة، إلّا أنّ العوامل البيئيّة وتجارب الحياة تؤدّيان دورًا حاسمًا في تشكيل الشخصيّة التي سنصبحها.