يُعتبر وجود الأمّ في حياة الطفل أمرًا لا غنى عنه لتطوّره العاطفيّ والنفسيّ الصحّيّ والسليم. فعندما تغيب الأمّ لفترة طويلة أو بشكل دائم، سواء كان ذلك بسبب ظروف العمل أو المرض أو الطلاق أو الوفاة أو غيرها، يمكن أن يترك هذا الغياب تأثيرات عميقة على الطفل. وتختلف طرق تأثّر الطفل بغياب الأمّ بناءً على عوامل، مثل عمر الطفل، وطبيعة الغياب وسببه، ووجود مقدّمي رعاية آخرين يوفّرون له الدعم. وعلى رغم أنّ الأطفال يمتلكون القدرة على التكيّف، إلّا أنّ غياب الأمّ قد يلقي بظلاله على جوانب مختلفة من حياتهم، بدءًا من أنماط التعلّق العاطفيّ، وصولًا إلى تقديرهم لذواتهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة.
ويجدر الذكر أنّ غياب الأمّ أو الأب له تأثيرات عميقة في الأطفال، إذ يتسبّب اختفاء دور أيّ منهما في ترك فراغ خاصّ، يؤثّر في النموّ العاطفيّ والاجتماعيّ للطفل بطرق مختلفة. ومع أنّ غياب الأب يحمل تحدّيات وتأثيرات فريدة، سنركّز في هذا المقال على أثر غياب الأمّ تحديدًا، وسنعود إلى مناقشة تأثير غياب الأب بالتفصيل في مقال منفصل.
نستعرض هنا بعض الآثار الشائعة لغياب الأمّ على الأطفال، بالإضافة إلى بعض الحلول الممكنة لتخفيف هذه التحدّيات، وتعزيز المرونة لديهم.
آثار غياب الأمّ عن الطفل
التعلّق والأمان العاطفيّ
يُعدّ ارتباط الطفل بأمّه أولى العلاقات الأساسيّة التي يشكّلها الطفل في حياته؛ هذا الارتباط أو "التعلّق" يُعتبر جوهريًّا، ومصدرًا لشعوره بالأمان العاطفيّ. وفقًا لنظريّة التعلق، فإنّ التعلّق الآمن يتطوّر عندما يكون مُقدّم الرعاية متاحًا ومتجاوبًا باستمرار مع احتياجات الطفل، ما يوفّر للطفل الشعور بالأمان والثقة. ولكن عندما تغيب الأمّ، لا سيّما في السنوات الأولى من نموّ الطفل، فقد يضطرب هذا المسار التعلّقيّ، ويتطوّر بطريقة غير صحّيّة.
حينها قد يعاني الطفل القلق، وانعدام الأمان، والخوف من الهجر بسبب عدم وجود الأمّ بشكل دائم، وربّما يصبح أكثر "تشبّثًا" بمقدّمي الرعاية الآخرين، أو يُظهر اعتمادًا زائدًا على الآخرين لتلبية احتياجاته العاطفيّة. ومن ناحية أخرى، قد يطوّر بعض الأطفال أسلوبًا "تجنّبيًّا" في التعلّق، فيبتعدون عن بناء العلاقات العميقة وذات المعنى لتجنّب ألم الفقدان المحتمل. ومع ذلك، فالحلّ لمعالجة هذا التأثير يكمن في تواجد مقدّمي رعاية آخرين يتميّزون بالموثوقيّة والتواجد المستمرّ، ما يعمل على تعزيز الشعور بالأمان، ويوفّر للأطفال الدعم العاطفيّ، ويسمح لهم بتطوير تعلّق آمن، مع ملاحظة أنّ هذا قد يتطلّب مزيدًا من الجهد. ومن أمثلة مقدّمي الرعاية المناسبين في هذه الحالة: الآباء والأجداد والجدّات والأعمام والعمّات وأصدقاء العائلة.
التأثير في تقدير الذات والهويّة
تؤدّي الأمّ دورًا رئيسيًّا في تعزيز شعور الطفل بقيمته الذاتيّة وهويّته؛ إذ يساعد تشجيعها وتوجيهها الطفل في بناء ثقته بنفسه، وفهم مشاعره، ومواءمة سلوكه. ولكن عندما تغيب الأمّ، يعاني الأطفال مشاعر النقص أو الرفض، خصوصًا إذا شعروا أنّ غيابها شكل من أشكال الهجر. قد يكون هذا الشعور أكثر عمقًا إذا لم يفهم الطفل أسباب غياب الأمّ، أو إذا كان الغياب مفاجئًا وغير مبرّر.
أمّا في مرحلة المراهقة، فيمكن أن يؤدّي غياب الأمّ إلى حدوث اضطرابات في الهويّة، فالواقع أنّ المراهقين في الأصل يواجهون أسئلة تتعلّق بهويّتهم، ومن دون توجيه الأمّ، سيشعرون بالفراغ والضياع عندما يتعلّق الأمر بتحديد قيمهم ومعتقداتهم وإحساسهم بذواتهم. وقد يسعى بعض المراهقين للحصول على التقدير من مصادر خارجيّة، بينما قد يصبح البعض الآخر أكثر اعتمادًا على أنفسهم في محاولة للتكيّف.
بشكل عامّ يجب توفير التواصل المفتوح، فالأطفال يحتاجون إلى تفسيرات صادقة ومناسبة لأعمارهم حول أسباب غياب الأمّ، والتي يمكن أن تساعد في منع مشاعر الرفض أو الهجران، ومعالجة مشاعرهم بطريقة إيجابيّة وصحّيّة.
كما يمكن تحسين الشعور بالذات لدى الأطفال بالمشاركة في الأنشطة التي تركّز على نقاط القوّة، أي تشجيع الأطفال على ممارسة هواياتهم واهتماماتهم التي تعينهم على تعزيز شعورهم بالإنجاز ورفع قيمتهم الذاتيّة، ما يوازن أيّ مشكلات تتعلّق بتقدير الذات قد تنشأ عن غياب الأمّ.
المشكلات الأكاديميّة والسلوكيّة
تقول القاعدة إنّ الأطفال الذين يعانون غياب الأمّ أكثر عرضة لمواجهة تحدّيات في البيئة الأكاديميّة. وقد أظهرت الدراسات أنّ الأطفال الذين يفتقدون إلى حضور الأمّ الدائم يُظهرون صعوبات في التركيز، وانخفاضًا في الأداء الأكاديميّ، وقلّة الدافعيّة إلى التعلّم. وقد يعانون أيضًا مشكلات سلوكيّة، مثل العدوانيّة أو التمرّد أو الانطواء، لا سيّما إذا كان الطفل يكافح لمعالجة مشاعر معقّدة، مثل الغضب أو الحزن أو الاضطراب.
قد تنجم هذه التغيّرات السلوكيّة عن صراع داخليّ يعيشه الطفل أثناء محاولته فهم غياب أمّه. وإذا شعر الطفل أنّ الغياب شكل من أشكال الهجر أو الإهمال، فقد يتجلّى ذلك من خلال تصرّفات عدوانيّة، إمّا نداءً للمساعدة، أو وسيلة للتعبير عن غضب مكبوت. وهنا يأتي دور الدعم العاطفيّ وتأكيد المشاعر، بتشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، حتّى لو كانت هذه المشاعر تتضمّن الحزن أو الغضب أو الحيرة. كما أنّ الاستماع من دون إطلاق أحكام يمكن أن يساعد الأطفال في الشعور بأنّ هناك من يفهمهم، وأنّهم ليسوا بمفردهم.
العلاقات الاجتماعيّة والتفاعل مع الأقران
يمكن أن يؤثّر غياب الأمّ أيضًا في علاقات الطفل الاجتماعيّة، إذ يتعلّم الأطفال في مرحلة الطفولة المبكّرة كيفيّة تكوين العلاقات بالملاحظة والتفاعل مع مقدّمي الرعاية الأساسيّين، وفي مقدّمتهم الأمّ. وعندما تغيب هذه القدوة، يجد الطفل صعوبة في تكوين صداقات صحّيّة، ويعاني مشاكل في الثقة بالآخرين. لذلك، إمّا إنّه سيعتمد بشكل زائد على صداقاته للحصول على الدعم العاطفيّ، أو يبتعد عن التفاعلات الاجتماعيّة تمامًا.
في بعض الحالات، قد يشعر الطفل "بالاختلاف" عن أقرانه، لا سيّما إذا كان الأطفال الآخرون يمتلكون حضورًا قويًّا للأمّ في حياتهم. هذا الشعور بالعزلة يمكن أن يحدّ من تطوير المهارات الاجتماعيّة، ويزيد من مشاعر الوحدة، وبالتالي يمكن أن تصبح العلاقات مع الأقران مصدرًا للتوازن العاطفيّ، فالأصدقاء الداعمون يمكن أن يساعدوا الطفل في الشعور بالانتماء والتقدير، حتّى إذا كان يفتقد وجود الأمّ في حياته.
ولكن هذا لا يحلّ مشكلة غياب القدوة، والتي يمكن تعويضها بتوفير قدوة إيجابيّة نسائيّة، من بين النساء اللواتي يمكن أن يقدّمن التوجيه والدعم، والمساعدة في سدّ الفراغ الذي يتركه غياب الأمّ. فيمكن للقريبات والمعلّمات والمدرّبات وصديقات العائلة أن يؤدّين دورًا في توفير الإرشاد العاطفيّ، ومساعدة الطفل في تشكيل هويّته.
التأثيرات العاطفيّة طويلة الأمد
تختلف التأثيرات طويلة الأمد لغياب الأمّ بشكل كبير من طفل إلى آخر، وفقًا لظروفهم الشخصيّة. بالنسبة إلى البعض، قد يترجم ردّ الفعل على هذا الغياب في صورة بناء قدرة للتعامل مع العواطف والتمتّع بالاستقلاليّة مدى الحياة، لا سيّما إذا كان لديهم أشخاص داعمون في حياتهم. ومع ذلك، أظهرت الدراسات أنّ بعض الأطفال الذين يعانون غياب الأمّ، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق والصعوبة في بناء العلاقات في مراحل لاحقة من حياتهم.
إذًا، قد يعاني الأبناء في مرحلة البلوغ مشاكل في الثقة بالشريك العاطفيّ، أو يخافون من الهجر، أو حتّى قد يشعرون بانعدام الأمان بشأن قيمتهم الذاتيّة. يمكن أن يساعد الدعم العلاجيّ، بما يشمل العلاج النفسيّ والتأمّل الذاتيّ، في معالجة هذه القضايا، إذ يوفّر المعالجون والأطبّاء استراتيجيّات للتكيّف والتعامل مع صدمات الطفولة العاطفيّة، وتعزيز الذكاء العاطفيّ، ومساعدة الأطفال في فهم تجاربهم بشكل بنّاء، ما يسمح لهم في بناء علاقات صحّيّة، ويمنحهم شعورًا أقوى بالذات. لذا، يمكن أن يعتبر بعض البالغين غياب الأمّ في طفولتهم مصدرًا للقوّة، بعد أن تعلّموا كيف يتعاملون مع الحياة بقدر أكبر من الاستقلاليّة.
***
يمكن أن يكون غياب الأمّ، سواء كان مؤقّتًا أو دائمًا، تجربة صعبة للطفل تؤثّر في تطوّره العاطفيّ، ومهاراته الاجتماعيّة، وأدائه الأكاديميّ، وحتّى شعوره بالهويّة. ومع ذلك، يتمتّع الأطفال بقدرة مذهلة على تكييف مشاعرهم، ومع توفّر الدعم الصحيح يمكنهم النموّ ليصبحوا بالغين قادرين على التحكّم بعواطفهم بشكل جيّد.
المراجع