عودة إلى تعليم زمان
عودة إلى تعليم زمان
2021/09/25
أحمد عيد | معلّم لغة عربيّة - قطر/ الأردن

في لحظة ملل، كسل، ضغط أو تعب من الأعمال الكثيرة التي يتولّاها المعلّمون قبل التدريس وأثناءه وبعده، يُطلق بعضهم تلك الزفرة المألوفة: "أين تعليم اليوم من تعليم زمان!". هذه الحسرة على حال التعليم في الماضي التي تتلخّص في معلّمٍ يلقي وطالب يكتب وراءه، والتي خسر بتغيّرها، كما يعتقدون، المعلّمون والطلبة، وفقدت عملية التعليم جُلَّ جدواها وفاعليّتها، ثم حلّ محلّها هذا التعليم الحديث بخططه واستراتيجيّاته وأساليب إدارته وعرضه.

ترى إلامَ تحيل هذه العبارات "التعليم القديم" "التعليم في الماضي" "تعليم زمان" وما شابهها؟ ما الصورة التي ترتسم في أذهان متمنّي هذا التعليم وطالبيه؟ وما خصائصه التي كانت كفيلة بتحقيق ناتج تعليميّ جدير بالمرء أن يفخر به؟ لأتبيّنَ هذا أحببتُ أن أنظر في أحوال العلم والعلماء والمتعلّمين في القرون السّالفة لأرى أيّ خصائص يمكن أن نلحظها في طرائق التعليم قديمًا، وأي صفات يمكننا أن نطلقها عليه.

لعلّ أجلى سمة من سمات التعليم في التراث العربيّ أنه كان، في المجمل، تعليمًا مستقلًّا؛ في مناهجه، وفي موضوعاته، وفي نظامه.

إنّ المتأمل لأحوال المعلم والمتعلم العربيَّيْنِ قديما يتضح له أن "تعليم أيّام زمان" قد كان:

1. تعليمًا مستقلًّا: لعلّ أجلى سمة من سمات التعليم في التراث العربيّ أنه كان، في المجمل، تعليمًا مستقلًّا؛ في مناهجه، وفي موضوعاته، وفي نظامه. تتعدّد في نتاجه طرائق الدّرس ومنهجيّات تناول الموضوع الواحد والموضوعات المختلفة. أمّا بالنّسبة للمتعلّم فتتجلّى هذه الاستقلاليّة في إعطائه الفرصة لاختيار ما يلبّي قدراته وميوله من معارف، والتزام الاتّجاه أو المنهج الذي يجده أكثر إقناعًا أو ملاءمةً لعقليّته، الأمر الذي أورث عمليّة التعلّم مسؤوليّة وجدّية منه تجاه ما اختاره، وأورث من ثَمَّ بيئةً أكثر إبداعيّة نتيجة اختيار المتعلّم لمجاله واختصاصه.

2. تعليمًا قائمًا على المساواة: من يقرأ أحوال حلقات العلم والمدارسة في التّراث العربيّ، ويتأمّل انتشارها الواسع وكثرة المداومين على حضورها، يجد أنّها كانت مفتوحةً على مصراعيها لكلّ متتلمذ، فلم تكن حكرًا على فئة أو طبقة أو جنس أو عرق دون غيره، وليس لها من متطلّبات انخراط ولا شروط انضمام، بل ينتظم المتعلّم في سلك هذا العلم أو ذاك متى توفّر في نفسه الميل له والرّغبة في إتقانه، الأمر الذي يعكس فهمًا مبكّرًا في حقّ الفرد في التعلّم دون قيد أو شرط، والذي أنتج طائفة واسعة من العلماء لو طالعنا سيرهم لرأينا التفاوت العجيب بينهم في أصولهم وطبقاتهم وثقافاتهم وجنسهم وكلّ منهم قد نال حقّه مما أراده من علم.

3. تعليمًا نقديًّا: لم يطرح المعلّمون أفكارهم على أنّها الحقيقة المطلقة، بل كانوا يستحضرون دائمًا أن ما يقدّمونه هو الحقيقة التي توصلوا إليها بما توفّر لهم من معارف وما أعملوا فيه عقولهم من تفكير، وأن ما يطرحونه مداره الدليل والبرهان، فإن اتضحت لهم صحّة سواه سلّموا بذلك واتّبعوه. كلّ هذا أورث المتعلّم مفاهيم وملكات تعليميّة أساسيّة، من مثل النظر في المعارف وتدقيقها، ومحاورة الأدلة ونقدها، بالإضافة شيوع المناظرات التي تعكس في حقيقتها مهارة المُناظر، معلّمًا كان أو متعلّمًا، في تمحيص الأفكار ومراجعتها والنظر إليها من زواياها كافّة، مع تمييز ما يصلح لها من أدلة منطقيّة.

في التراث العلميّ العربيّ تأكيد دائم لقيمة الجانب العمليّ من العلم، وحثّ للمتعلّم على تحويل المعارف التي يتلقّاها إلى عامل نفع للمحيط الذي يعيش فيه.

4. تعليمًا منفتحًا: كان التعليم العربيّ مثالًا متميّزًا على الانفتاح وسعة الأفق في طلب المعرفة، فذاك المتعلّم الذي يلازم حلقة الدّرس حسبُ، متعلّم محدود المعرفة والفهم، وإنّما يتمّ علم المرء بدراسته على غير معلّم/ شيخ/ أستاذ، وباطّلاعه على العلوم والمعارف الأخرى، وبالارتحال إلى مختلف البلدان والأمصار طلبًا لما عندهم من معارف، وهربًا من قصور النظر ومحدودية الاطلاع، وممّا ورد عن العلماء في الحثّ على الارتحال طلبًا للعلم قولهم: "مَنْ لم يرتحل فلا ثقة بعلمه"، كما قال ابن الصّلاح: "وإذا فرغ (الطّالب) من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره". كما نجد ملامح هذا الانفتاح في الحركة النشطة للتّرجمة والتعريب، ونقل معارف الأمم الأخرى وآدابها وفلسفتها، والإفادة من هذه المجالات كلها والإضافة إليها وإثرائها. كلّ هذا جعل من التعليم العربيّ، مع جذوره الأصيلة، ذا أفق إنسانيّ عامّ، يشارك في الحركة الثقافيّة العالميّة مفيدًا ومستفيدًا.

5. تعليمًا عمليًّا تطبيقيًّا: في التراث العلميّ العربيّ تأكيد دائم لقيمة الجانب العمليّ من العلم، وحثّ للمتعلّم على تحويل المعارف التي يتلقّاها إلى عامل نفع للمحيط الذي يعيش فيه، يقول الفضيل بن عياض: "لا يزال العالم جاهلًا بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالمًا"، ويقول ابن رجب: "العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملًا"، وهكذا يطّرد في تراث العلماء تنبيه المتعلم من أن يجعل همّه مقتصرًا على جمع هذه العلوم دون أن يحولها إلى أثر إيجابيّ يرفع به نفسه ومجتمعه، وتأكيد لفكرة أنّ قيمة العلم إنّما تكمن في العمل به ونشره بين الناس.

 

وبعد، وهذه حال التعليم بالأمس: استقلاليّة ومساواة ونقد وانفتاح وعمليّة. أفليس من الواجب علينا جميعا أن نرجو عودة نظام التعليم كما كان، وأن نسعى إلى ذلك بطاقاتنا كلها، وأن نعطي التعليم القديم في الثقافة العربيّة صورته الحقيقيّة وسمعته الجدير بها، بدلًا من رمي تراثنا التعليميّ العربيّ بصورة سلبيّة نتوهمها لسبب أو لآخر؟ بلى.. نريد العودة إلى "تعليم أيّام زمان"، بحقيقته هذه، لا بما استقرّ في أذهاننا عن حاله باهتًا جامدًا خاليًا من التّفاعل والإبداع.