عن تجربتي في التّعليم، وأمور أخرى
عن تجربتي في التّعليم، وأمور أخرى
2021/03/14
فيروز شريف | معلّمة لُغة عربيّة- الجزائر

لا يمكنني الادّعاء بأنّني حلمت منذ طفولتي بالعمل في ميدان التّعليم، لم يحدث ذلك مطلقًا للأمانة، لقد كنت منذ طفولتي، مهووسةً بالإعلام، حدث أن قدّمت نشرات إخباريّة كثيرة أمام المرآة وأنا طفلة، كنت أرغب بأن أواجه هذا العالم وأخبره بكلّ ما يحدث فيه من خير وشرّ على حدّ سواء، من خلال الشّاشات التّلفزيونيّة. مرّت الأيّام والسّنوات، وتحقّق الحلم، لكن بعد مضيّ حفنة من الزّمن، قررت ترك ما تحقّق، وانتقلت فعليًّا إلى ميدان آخر مختلف تمامًا. الوجهة كانت ميدان التّعليم، على الرّغم من أنّني لم أكن متحمّسة كثيرًا للأمر، لكن قررت تجريبه، والانطلاقة كانت بالضّبط في الطّور الابتدائيّ. ولأكون صريحة، كلّ شيء في البداية بدا لي مريبًا، خاصّة أنّني توظّفت حينها في منطقة نائيّة. مرّ الأسبوع الأوّل، وتعرّفت على المتعلّمين الّذين كان مقرّرًا حينها أن أكون معلّمتهم، وخلال تلك الفترة الوجيزة، أحببتهم بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى، استيقظت عاطفة الأمومة بداخلي، وتعلّقت بهم، ومن هنا بدأ شغفي بوظيفتي الجديدة ينمو ويكبر، رويدًا، رويدًا.

في الأسبوع الثّاني، شعرت بأنّه لم يحدث أن أحببت مهنة أخرى عدا التّعليم، أصبحت أرتدي مئزري الأبيض بحبٍّ كبير، أحمل محفظتي، وأدخل إلى فصلي بوجه مبتسم، وبطاقة إيجابيّة عالية، والصّراحة أنّ العمل في الطّور الابتدائيّ على ما فيه من تعب، إلّا أنّه ماتع جدًّا، نظرًا للأوقات الرّائعة الّتي كنت أعيش تفاصيلها مع الأطفال الّذين كنت أدرّسهم. انتقلت بعدها إلى الطّور المتوسّط، ثمّ تمّ تعييني في الطّور الثّانويّ، عشت في الطّورين المتوسّط والثّانويّ، تفاصيل مختلفة عمّا عشته في الطّور الابتدائيّ، لكن في كلّ مرّة كان يزداد تعلّقي بوظيفتي، وبمن يدرسون عندي، وبالرّسالة الّتي أؤدّيها، شعرت في مرّات كثيرة بأنّني زرعت شيئًا كبيرًا من حبّ التعلّم، والثّقة بالنّفس في نفوس من درّستهم، واكتشفت من خلال ذلك، بأنّ التّعليم لا يتعلّق  بحشو عقول المتعلّمين بمعارف معيّنة، بالعكس تمامًا، التّعليم يتعلّق بمهاراتنا كأساتذة ومعلّمين، بجعل المتعلّمين يستمرون بنا، ودوننا، وذلك من خلال تدريبهم على التعلّم الذّاتي أكثر من أيّ شيء آخر، والذي يتعرّفون من خلاله على أنفسهم، وقدراتهم. أذكر بأنّ طالبًا من طلّابي في إحدى الثّانويّات التي عملت فيها، تحيّن فرصة دقّ الجرس في مرّة من المرّات، وحين هممت بالخروج من الفصل استأذنني، ثمّ سألني إن كنت درست علم النّفس في الجامعة، نفيت ذلك، واستفسرت عن السّبب الّذي دفعه إلى طرح السّؤال، فأخبرني بأنّه اكتشف من خلال ما كنت أردّده على مسامعهم في مناسبات معيّنة بأنّه فعلًا يستطيع دراسة المادّة الّتي أدرّسهم إيّاها، ومواد أخرى كثيرة، ومع مرور الأيّام أصبحت أسمع تقريبًا الكلام نفسه من طلّاب كثر درّستهم.

 

اليوم، وبعد سنوات من العمل في ميدان التّعليم، وبعد اشتغالي فعليًّا في الأطوار الثّلاثة، أستطيع أن أؤكّد للجميع بأنّ مهنة التّعليم فعلًا شاقّة، ولكنّها سامية، وسموّها اكتسبته برأيي أوّلا وقبل كلّ شيء من قدراتنا كأساتذة ومعلّمين في بناء الإنسان في المتعلّمين، ودفعه باستمرار إلى الأمام. فلا فائدة تنتظر من أجيال متعلّمة، ومحطّمة من الدّاخل. وقد صدق من قال: "عندما تعيد بناء الإنسان، فإنّك تعيد بناء العالم". هذا ولن أنكر بأنّ عددًا من الأساتذة والمعلّمين في بلدي وفي بلدان أخرى شقيقة وصديقة، قد تعرّضوا في أحايين معيّنة لاعتداءات من طرف متعلّمين درسوا عندهم، منهم من يعاني من اضطرابات  نفسيّة، ومشاكل عائليّة معيّنة، ومنهم من يتعاطى المخدّرات للأسف، فالعنف في المؤسّسات التّربويّة في السّنوات الأخيرة لم يعد يصدر من بعض المنتمين للقطاع فقط، بل أصبح يصدر حتّى من بعض المتعلّمين، خاصّة في الطّور الثّانويّ، وكثيرة هي القصص الّتي يرويها لنا بعض الزّميلات والزّملاء بتحسّر وحزن كبيرين، تدفعنا إلى دقّ ناقوس الخطر، وإلقاء الضّوء على هذه الظّاهرة المسكوت عنها نوعًا ما، مع الإشارة إلى أنّ التّعميم غير صحّيّ، و الشّاذ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نقيس عليه، لكن لا بأس بالحديث عنه، والسّعي لإيجاد حلول تمنع انتشاره وتفشّيه في مؤسّساتنا التّربويّة.  

أخيرًا وليس آخرًا، هناك أمور كثيرة، جعلت قلبي يتعلّق بممارسة هذه المهنة، لكن لو سئلت عن أهمّها، سأقول: "المحبّة الّتي أراها في عيون من يدرسون عندي، وتقديرهم لأيّ مجهود أبذله لأجلهم".