عندما أصبح الشارع فصلًا والمعلّم متطوّعًا: تجارب تعليميّة في غياب النظام الرسميّ
عندما أصبح الشارع فصلًا والمعلّم متطوّعًا: تجارب تعليميّة في غياب النظام الرسميّ
2025/12/04
هاني عبد الحميد حمدونة | معلّم في وزارة التربية والتعليم العالي ومحاضرًا في جامعة الأقصى - فلسطين

لم يكن انقطاع التعليم في غزّة حدثًا عابرًا، بل زلزالًا تربويًّا ضرب البنية التعليميّة بكلّ تفاصيلها. توقّفت المدارس، صمتت الأجراس، وأُُغلقت النوافذ التي كانت تُطلّ على أحلام الصغار. ومع غياب النظام الرسميّ، وجد آلاف الأطفال أنفسهم بلا مقاعد ولا كتب، ولا أصوات معلّمين تُرافق صباحاتهم. ومع ذلك، لم يمت التعلّم، بل غيّر مكانه. خرج من الصفوف إلى الشوارع، ومن المكاتب إلى الأزقّة، ومن الجدران إلى القلوب.

معلّمون رغم أنف الصعوبات

في تلك الأيام الصعبة، حين بدأ التعليم بفقد ملامحه، انبعثت من بين الركام مبادرات صغيرة ومتفرّقة، لكنّها كانت تحمل في جوهرها معنى الحياة. معلّمون متطوعون، حملوا حقائبهم الممزّقة ودفاترهم البسيطة، وجلسوا على أرصفة الشوارع يعلّمون الأطفال الحروف والأرقام. بعضهم كان يكتب على لوح خشبيّ، وآخر على جدار باهت، وثالث يستخدم الرمال لتعليم العمليّات الحسابيّة. لم يكن لديهم منهج رسميّ أو خطط دراسيّة، لكنّهم امتلكوا ما هو أعمق: إيمان حقيقيّ بأنّ التعليم لا يتوقّف مهما كانت الظروف.

تحوّلت الحارات إلى صفوف مفتوحة، والخيام إلى مدارس مؤقّتة، والحدائق العامّة إلى فصول حيّة. الأطفال يجلسون على الأرض، والعيون تلمع بالفضول ذاته الذي يسكن مقاعد المدرسة. المشهد بقدر ما هو بسيط، كان مهيبًا. لم يكن مجرّد تعليم، بل فعل مقاومة بالحبر والطباشير. كانت المبادرات التعليميّة تلك بمثابة ردّ حضاريّ وإنسانيّ على واقع القهر، وتأكيدًا على أنّ وعي الشعوب لا يُقصف ولا يُهدم.

ومع مرور الأيّام، بدأت التجارب تتنظم وتتشكّل ملامحها. ظهرت مجموعات تطوعيّة من معلّمين وخريجين جامعيّين يتوزّعون على المناطق، يضعون خططًا مرنة لتعليم الأساسيّات للأطفال. لم يكن الهدف تعويض كلّ ما فات من المنهاج، بل للحفاظ على جودة التعلّم المشتعلة في نفوسهم. فالتعليم في أوقات الأزمات لا يقاس بعدد الصفحات التي تُدرّس، بل بقدرة الطفل على الاستمرار في الإحساس بأنّه قادر على الفهم والنموّ والتطور.

معنى المعلّم

المثير في هذه المبادرات أنّها أعادت تعريف معنى المعلّم. لم يعد مرتبطًا بصفّ رسميّ أو راتب شهريّ، بل أصبح رمزًا للمسؤوليّة المجتمعيّة. بعض المعلّمين كان يعلّم في الصباح، ثم يعود لمساعدة أسرته في المساء، لكنّه يصرّ على تخصيص وقت يوميّ لتعليم أطفال الحيّ. وآباء وأمّهات فتحوا بيوتهم الصغيرة لاستقبال مجموعات من الطلبة، يحوّلون غرف المعيشة إلى فصول مؤقّتة. في تلك اللحظات تحوّل المجتمع بأسره إلى مدرسة واحدة كبيرة، يشارك فيها الكلّ: المعلّم والمتعلّم، والأب والأمّ، والجار والرفيق.

لم تخلو هذه التجارب من ابتكار تربويّ مدهش. فقد ابتكر المعلّمون أساليب تعليميّة بديلة تناسب البيئة المفتوحة، مثل استخدام أغصان الأشجار لقياس الأطوال، أو الحجارة للعدّ، أو الألعاب الشعبيّة لتعليم مفاهيم رياضيّة ولغويّة. تحوّلت القصص الشعبيّة إلى دروس قراءة، والأنشطة اليوميّة إلى ممارسات تعليميّة. كانت الفكرة الجوهريّة أنّ التعلّم ليس مكانًا، بل طريقة في الحياة.

لكن ربما الأثر الأجمل لم يكن معرفيًّا فقط، بل نفسيًّا وإنسانيًّا. فهذه المبادرات لم تُعلّم الأطفال القراءة والحساب فحسب، بل أعادت إليهم الإحساس بالأمان والانتماء. وسط الخوف والدمار، أصبح اللقاء اليوميّ مع المعلّم المتطوّع لحظة استقرار نفسيّ. الضحكات التي كانت تتخلل الدروس كانت بمثابة علاج جماعيّ ضدّ القلق. والأهمّ من ذلك، أنّ هذه المبادرات منحت الأطفال شعورًا بأنّهم لم يُنسَوا، وأنّ ثمّة من الناس ما زال يؤمن بأحلامهم.

من خلال هذه التجارب، تعلّم المعلّمون أنفسهم دروسًا جديدة. أدركوا أنّ التعليم في جوهره ليس بالمنهج ولا بالتكنولوجيا، بل بالنيّة الصادقة والرغبة في بناء الإنسان. كما أدركوا أنّ الأزمات ليست نهاية المسار التربويّ، بل بداية لتجديده وإعادة اكتشافه في صور أبسط وأصدق.

***

واليوم، بعد أن أصبحت تلك التجارب واقعًا يُروى، يمكن القول إنّ المبادرات التعليميّة في ظلّ غياب النظام الرسميّ لم تكن مجرّد بدائل طارئة، بل شكّلت نموذجًا تربويًّا جديدًا يقوم على المشاركة المجتمعيّة والتطوّع والمرونة. لقد أعادت هذه التجارب رسم صورة التعليم بوصفها قيمة إنسانيّة لا تنكسر، وشهادة على أنّ غزّة، على رغم الجراح، ما زالت تُدرّس العالم معنى الصمود بالفكر والعلم.

وفي اللحظة التي توقّفت فيها الحياة، أثبت المعلّم الغزّيّ أنّ التعليم يمكن أن يولد حتّى من بين الأنقاض، والطفل الذي يتعلّم في الشارع اليوم، قد يكون غدًا معلمًّا في جامعة تبنى من جديد. وهكذا، حين غاب النظام الرسميّ، لم تغب الروح التربويّة، بل ازدادت صفاءً وصدقًا. لقد أصبح الشارع فصلًا، وأصبح المتطوّع معلّمًا، وأصبح التعلّم فعلًا من أفعال المقاومة، لا بالحجارة، بل بالكلمة.