تعليم اللغة العربيّة عن بعد.. أدوات واستراتيجيّات
تعليم اللغة العربيّة عن بعد.. أدوات واستراتيجيّات
دريّة كمال فرحات | أستاذة في الجامعة اللبنانية- لبنان

مقدّمة

لدى معاناة العالم مع جائحة كورونا أصبح التعليم الإلكترونيّ أو "التعليم عن بعد" ضرورةً، وتحوّل من كونه تقنيّةً تساعد في تطوير العمليّة التعليميّة إلى مطلب ملحّ لجأ إليه العالم لمتابعة التعليم. "التعليم عن بعد" حاليًّا يحدث عبر الفضاء الافتراضيّ الذي غزا العالم، وسيطر على حياتنا، فبات من المهمّ توظيفه في مجالات إيجابيّة. الفضاء الافتراضيّ سيسمح للمتعلّم بالمشاركة في منصّات التعليم باستخدام الحواسيب والأجهزة الذكيّة عبر الإنترنت. ومن سمات هذا التعليم حُكمًا أنّه يسمح باختلاف المكان، وبعد المسافة بين عناصر العمليّة التعليميّة: أي بين الأستاذ والطالب والكتاب.

تعدّدت الآراء تجاه هذا التعليم ما بين الرّفض والتحفّظ والقًبول، وارتبط هذا التشرذم في الموقف من اللجوء إلى العالم الافتراضيّ لمتابعة التعليم بعدّة معوّقات، منها ما له علاقة بالأمور الماديّة، وتأمين مستلزمات التعليم عن بعد، ومنها ما له علاقة بعدم القدرة على استخدام التكنولوجيا، ومنها ما له علاقة باقتناع بعض المعنيّين بصعوبة التواصل والتفاعل بين قطبي العمليّة التعليميّة أي المعلّم والمتعلّم.

البحث في هذه المعوّقات يطول، وسأنطلق من تجربتي الذاتيّة في عمليّة التعليم عن بعد لأمهّد للنظر في المعوّق الثالث، أي اختلاف وجهات النظر حول جدوى هذا التعليم، ومدى فاعليّته في تحقيق مخرجات العمليّة التعليميّة، فالحكم على الشيء فرع عن تصوّره، وأنا هنا معنيّة بتصوير تجربتي.

 

محور العمليّة التعليميّة

إنّ سيرورة عمليّة التعليم وصلت بنا إلى قناعة بكونّ فاعليّته مرتبطةً بالطرائق النشطة، وأن يكون المتعلّم محور العمليّة التعليميّة، والمعلّم يكون الموجّه والمرشد، يصوّب مسار التعليم إذا عاج المتعلّم عن الخط السليم، وربّما اتّجه معظم المعلّمين إلى هذا الطريق، لكن مع جائحة كورونا حدث ما يشبه الكابح الذي عطّل العمليّة التعليميّة.

الجيل الجديد صار متعلّقًا بالحواسيب ووسائل التكنولوجيا، وزاد إحساس أبنائه بأنّ الحياة تدور في فلك هذه التكنولوجيا. لهذا، زاد اهتمامهم بالموادّ العلميّة، ونفروا من موادّ اللغات والعلوم الإنسانيّة. انطلاقًا من تدريسي مادّة اللغة العربيّة، أرى أنّ الحاجة إلى تطوير طرائق تعليم هذه المادّة أصبحت ملحّة خصوصًا مع التعليم عن بعد.

 

انطلقت شخصيًّا من توجّه المتعلّمين إلى ما له علاقة بوسائل التكنولوجيا فأدخلت في تعليمي برامج الحاسوب ومنها Power Point، فحوّلت الدروس إلى هذه التقنيّة، وشعرت بتفاعل المتعلّمين مع الدرس، وكان ذلك في العام الدراسيّ السابق، ثمّ كان ما كان ودخلنا في معمعة التعليم عن بعد، والمنصّات التعليميّة مثل Zoom, Microsoft Teams وغيرهما. العمل في هذه المنصّات يتطلّب تفعيل التواصل بين المعلّم والمتعلّم. أصبحت الحاجة أكبر إلى استخدام وسائل تساعد المعلّم على تحويل حصّته حصّةً تفاعليّةً. وإنّ لهذا النوع من التعليم ميزة الإفادة من التقنيّات التي يقدّمها العالم الافتراضيّ، من برامج تعليميّة أو تسجيلات صوتيّة أو فيديوهات، إضافةً إلى أنّ المنصّات تتيح التفاعل بين الأستاذ والمتعلّم بالصّوت والصّورة أثناء عرض المحتوى التعليميّ.

 

أدوات التعليم التفاعليّ واستراتيجيّاته

تكتسب بعض الموادّ القدرة على تفعيل التواصل من طبيعتها، أمّا مادّة اللغة العربيّة فهي تواجه الكثير من السهام كونها مادّة يراها بعض الناس غير مرنة، أو قد يرى بعضهم أنّها تبعث على الملل، لهذا على المعلّم أن يحرص على تحضير حصّته، ليتخلّص من هذه الشّوائب العالقة بالمادّة.

ينقسم التعليم إلى تعليم تلقينيّ يقدّم المعلّم فيه المحتوى للطالب، وتعليم نشط يُوجَّه فيه المعلّم الطالب إلى المحتوى ويثير إشكاليّات عنده لغرض التقصّي. أمّا التعليم التفاعليّ فهو الذي تُبنى فيه المادّة على الإرسال والاستقبال، والتقويم، والتغذية الراجعة، والتفاعل بين المعلّم والمتعلّمين. والمعلّم الناجح هو الذي يدمج كلّ التقنيّات ليكون منتِجًا. ويمكن تحويل ما سبق إلى عمل إلكترونيّ بتخطيط الدرس اعتمادًا على المحتوى المعرفيّ، والتقنيّات الحاسوبيّة، والسّياق البيداغوجيّ. يمكن للمعلّم في التعليم عن بعد أن يستخدم العديد من الأدوات والاستراتيجيّات، ومنها:

 

العروض التقديمية مثل Power Point

يساعد هذا البرنامج على جذب انتباه المتعلّمين، وتحويل اللقاء غير المباشر معهم إلى عمل حيّ، فهذه التقنيّة تجعل عرض الدرس أكثر إثارةً للاهتمام، خصوصًا عبر استخدام الوسائط المتعدّدة المتوفّرة فيه، إذ يسمح باستخدام الصوت والفيديو والصّور، فيسمح لمن يعرض أن يلفت انتباه المتلقّين، ويكون أكثر تفاعلًا معهم.

استخدمت هذا البرنامج مطبقّةً استراتيجيّة التوقّع لموضوع النصّ، مثلًا: درّست نصّ "من يعيد توابيتنا إلى الوطن" للأديبة غادة السمّان، فاخترت صورًا موحيةً بالبعد، وبالموت، وأضفت فيديو يعرض لمشاهد الحرب والدمار، وأدرت عصفًا ذهنيًّا عمّا توحيه هذه الصور، وعملت مع الطلبة على ربط ذلك بعنوان النصّ.

يسمح البرنامج بتصميم الشّرائح وفق ما يريده المعلّم، إذ يمكن إضافة الشّرائح وحذفها، ويمكن التحكّم بعدد السطور في كلّ شريحة، مع تنويع الخطّ المطلوب، ويوفّر هذا البرنامج العديد من الرّسوم التي يمكن إضافتها إلى الشرائح. يساعد ذلك في عرض الأسئلة والأنشطة خلال الدرس بسهولة، مع استخدام نمط الأسئلة الموضوعيّة (اختيار من متعدّد)، ومع إضافة بعض المؤثّرات الصوتيّة التي تدلّ على صواب الإجابة أو خطئها. كما أنّ هذا البرنامج لا يتطلّب من مستخدمه أن يكون بارعًا في تنفيذ التصاميم، بسبب وجود تصاميم جاهزة، تسهّل عمل المعلّم.

 

استراتيجية العمل التشاركيّ

من المهمّ خلق جوّ من التفاعل بين المتعلّمين عبر المنصّات، ويمكن ذلك بإنشاء منتدًى تُعرض فيه قضيّة معيّنة يعالجها المتعلّمون، ويتشاركون معًا في البحث حولها عبر مشاريع جماعيّة أو فرديّة، ويمكن تقسيم المتعلّمين إلى مجموعات، لتحكيم أعمالهم.

تسمح منصّات التعليم بتحقيق هذا العمل التشاركيّ، مثلًا: في منصّة Microsoft Teams يمكن تشكيل عدّة فرق للصّف الواحد، ويكون لكلّ فريق قناة Channel، مع توزيع العمل، واختيار بحث ليقوم به الطلاب. يمكن لتنمية معرفة الطلاب بالعصر الجاهليّ مثلًا إعداد أبحاث تشاركيّة حول الحياة الاجتماعيّة، والحياة الفكريّة، والحياة الاقتصاديّة في ذلك العصر. يجتمع كلّ فريق في قناته الخاصّة مع متابعة المعلّم لعملهم عبر دخوله إلى القناة، وهنا يمكننا تحقيق مبدأ التعلّم غير المتزامن، لأنّ العمل قد يكون في غير توقيت الحصّة التعليميّة، إذ في التعليم عن بعد ثمّة التعليم المتزامن وغير المتزامن.

إنّ عمل المجموعات هذا هو عمل نشط كان يزاوله المتعلّمون في التعليم الحضوريّ، ولا مانع من الإفادة منه في التعليم عن بعد، وفيه تعميق للعمل التعاونيّ. من هنا، يجب تعزيز مهارات العصف الذهنيّ، والتداول، والنقاش، واحترام رأي الآخرين، وتقبّل النقد.

 

استراتيجيّة التقصّي

التقصّي في التعليم هو الطريق الذي يسمح للمتعلّم بالوصول إلى معلومات جديدة عن طريق التجربة انطلاقًا من خبراته، وذلك بصورة مستقلّة جزئيًّا أو كليًّا عن المعلّم. وتستند هذه الاستراتيجيّة إلى الأنشطة الاستكشافيّة التي يمكن تنظيمها من خلال الإنترنت، ليقوم المتعلّمون بتنفيذها عبر مهمّات تحتوي روابط مصادر إلكترونيّة. وتضمّن الاستراتيجيّة طرق تقييم ذاتيّ، يعرف من خلالها المتعلّم ما تحقّق من الأهداف التعليميّة المطلوبة.

يمكن تدريب المتعلّم لاكتساب المعرفة العلميّة من خلال الملاحظة، وطرح الإشكاليّات، ومن ثمّ البحث في الكتب والمراجع، وجمع المعلومات وتحليلها وتفسيرها، وصولًا إلى النتائج، ويمكن استخدام استراتيجيّة التقصّي في مادّة اللغة العربيّة ببحث المتعلّم في قضيّة معيّنة مرتبطة بمحور من محاور منهجه، على أن يعرض ما توصّل إليه أمام زملائه.

من الأساليب التي يتّبعها المعلّم لإنجاح هذه الاستراتيجيّة ما يكون من خلال تزويد المتعلّمين بأسئلة مفتوحة، تسهم في البدء بعمليّة الاستكشاف، ومن ثمّ يتلقّى المعلّم الإجابات فيعلّق عليها، ومن المهمّ أن يُعطيَ للمتعلّمين الوقت الكافي للتّفكير، ويحرص على ترك فرصة الاكتشاف والتوصّل إلى المعلومات بأنفسهم، مع ضرورة مراعاة الفروقات الفرديّة بين المتعلّمين، وإدراك حجم التفاوت بينهم، ومن ثمّ ترك المجال لهم للتخيّل.

استراتيجيّة التقصّي قد تحقّق المبدأ الذي يبرز مع التعليم عن بعد، وهو التعليم المقلوب، بمعنى أنّ في التعليم المعتاد قد نبدأ بشرح الدرس، أمّا مع التعليم عن بعد فيمكن البدء بطرح القضيّة ويقوم المتعلّمون بالتقصّي حولها، ثم يأتي التطبيق.

 

استراتيجيّة المحاضرة

تعتمد هذه الاستراتيجيّة على المعلّم، حيث يقوم المعلّم بتطوير المحتوى التعليميّ ليتناسب مع احتياجات المتعلّمين المختلفة، ولهذه الاستراتيجيّة ميزة سهولة الوصول إلى المحتوى التعليميّ عبر الموقع، كما يمكن التنويع في الحصول على المصادر التعليميّة من مواقع متعدّدة، ويمكن استخدام الوسائل التعليميّة المتعدّدة من النص والصّورة والصّوت والفيديو.

 

استراتيجيّة المناقشة

تعمل هذه الاستراتيجيّة على تنشيط دور المتعلّم، فيستطيع طرح الأفكار الخاصّة به، وتساعد هذه الاستراتيجيّة على خلق مهارة التفكير لدى المتعلّمين، وهي مناسبة للمقرّرات الإلكترونيّة. وتتيح هذه الاستراتيجيّة تبادل الخبرات والآراء بين المتعلّمين.

 

خلاصة

إنّ التعليم عن بعد ليس عملًا سهلًا، فهو يحتاج إلى قدرات جديدة لدى المعلّم والمتعلّم، وهو لن يكون ناجحًا إذا لم يتقاسم طرفا العمليّة التعليميّة عمليّة تطوير الاستراتيجيّات التعلّميّة، والتمكّن من أدواتها. ومن المهمّ تحفيز التفاعل وتشجيع تبادل الخبرات بين المتعلّمين، والبحث عن وسائل جديدة، واستراتيجيّات تناسب عمليّة التعليم عن بعد، وبعد أن نكون فعلنا ما بوسعنا لإنجاحه ولعبور هذا الظرف، يمكن أن نبدأ بالتفكير في إطلاق الحكم عليه.