تأثير الشركات الخاصّة على التعليم: دعم وتطوير أم سيطرة وتسليع؟
تأثير الشركات الخاصّة على التعليم: دعم وتطوير أم سيطرة وتسليع؟
يوسف حرّاش | مساعد المدير العامّ للشؤون الإداريّة في الأكاديميّة العربيّة الدوليّة -الجزائر/قطر

تُعدّ مهمّة دعم التعليم وتطويره مسؤوليّة المجتمع بأطيافه، ابتداءً من الفرد، إلى الأسرة، ثمّ المؤسّسات الحكوميّة، مرورًا بالقطاع الخاصّ، المتمثّل في الشركات التي تقدّم منتجات وخدمات خاصّة للمؤسّسات التعليميّة الخاصّة والعموميّة. جدير بالذكر أنّ دور القطاع الخاصّ في تطوير التعليم في مستوياته كافّةً يتزايد بصورة كبيرة، خاصّة مع تطوّر أساليب التعليم ومناهجه، التي أصبحت تتّسم بالتنافس فيما بينها لتحقيق التميّز، واستقطاب أكبر عدد من المعلّمين والمتعلّمين بالإضافة إلى المسؤولين، والمهتمّين بالتعليم عمومًا.

في العالم العربي يمكن أن نلاحظ تباينًا واضحًا في مدى ارتباط دور الشركات الخاصّة بالتعليم، وهذا التباين يرجع إلى عوامل عديدة تشمل على سبيل المثال لا الحصر: الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة للدول العربيّة، إضافةً إلى مدى تركيز الحكومات والمجتمع على التعليم، دون أن ننسى بعض الجوانب الثقافيّة والتاريخيّة لهذه الدول.

هذا المقال يتطرّق إلى الخدمات التي يقدّمها القطاع الخاصّ لقطاع التعليم في العالم العربيّ، وذلك مقارنةً بما هو حاصل في الدول المتقدّمة، مع شرح مبسّط لمدى أهميّة هذه الخدمات والمنتجات في دعم التعليم وتطويره. في المقابل، يلقي المقال بعض الضوء على السلبيّات المحتملة لسيطرة القطاع الخاصّ على التعليم في حال عدم إنشاء الضوابط والقوانين التنظيميّة الخاصّة، مع الإشارة بإيجاز لواقع علاقات العمل بين الطرفين في العالم العربيّ، والتحدّيات التي تواجهها هذه الشراكة. أخيرًا، يركّز المقال على أهمّيّة توفير بيئة العمل والظروف المناسبة لزيادة فرص التعاون بين القطاع الخاصّ وقطاع التعليم، والأثر الإيجابيّ لهذا التعاون على نوعيّة التعليم.

الخدمات والمنتجات  

  1. الكتب المدرسيّة

إنّ إصدار الكتب المدرسيّة لم يعد حكرًا على المؤسّسات الحكوميّة، ووزارات التعليم فيها، بل أصبح للكثير من الشركات الخاصّة، ودور النشر نصيب في المحتوى التعليميّ المستخدم في الأقسام الدراسيّة في المدارس والجامعات، والجديد في الموضوع أنّ الكثير من المؤسّسات التعليميّة الحكوميّة أصبحت تستخدم كتبًا مدرسيّة صادرةً عن شركات ودور نشر خاصّة، و ذلك راجع إلى  أنّ ميزة التنافسيّة التي تسيطر على سوق العمل الخاصّ ينتج عنها تطوّر وتقدم سريعان في المنتجات والخدمات المقدّمة من طرف الشركات العاملة فيه، بالإضافة إلى مراعاة أعلى مستويات الجودة وأساليب العمل.

على المستوى العالميّ، نجد العديد من الشركات ودور النشر الرائدة في إصدار الكتب المدرسيّة في مختلف الموادّ التعليميّة، وهي كتب ذات مستوًى عالٍ لدرجة أنّ إصداراتها تصل إلى الكثير من المدارس الحكوميّة والخاصّة في مختلف أنحاء العالم، أمّا على مستوى العالم العربيّ، فإنّه من الملاحظ عدم وجود الكثير من دور النشر والشركات الخاصّة التي تتخصّص بإصدار كتب مدرسيّة باللغة العربيّة، بالرغم من الحاجّة الماسّة إليها في ظلّ تدنّي مستويات التعليم في الدول العربيّة مقارنةً بنظيراتها الأوروبيّة والأمريكيّة مثلًا بشهادة كثير من المتخصّصين. ذلك يرجع بصورة أساسيّة إلى احتكار الحكومات عمليّة إنتاج الكتب المدرسيّة وتطويرها وبيعها (منظمة الأمم اﻟﻤتحدة للتربيّة والعلم والثقافة، 2017). والذي يكون سببًا في تردّي نوعيّة المنتَج.

  1. الوسائل والألعاب التعليميّة

تُعدّ الوسائل والألعاب التعليميّة جزءًا مهمًّا من المصادر التعليميّة، إذ تلعب دورًا مساعدًا في الشرح وتقريب المفاهيم لدرجة أنها لا تُعدّ من العناصر المكمّلة في التعليم الحديث، بل تلعب دورًا محوريًّا في تحديد مدى نجاح العمليّة التعليميّة أو فشلها.

 مع زيادة التركيز على الوسائل والألعاب التعليميّة، ونظرًا لتزايد الطلب عليها، ازدهرت سوق عمل الوسائل التعليميّة لتطلق العنان للمصنّعين للتنافس من أجل إنتاج أحدثها، وضمان وصولها إلى مستخدميها عبر شبكات التزويد العالميّة، فاتحةً المجال أمام الكثير من الشركات للمشاركة في تصنيع ما تحتاجه المؤسّسات التعليميّة من هذه المنتجات المهمّة وتوزيعها، وأهمّ الشركات العالميّة المنتجة للوسائل والألعاب التعليميّة المعروفة تنشط في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة والهند والصين، لكنّ التحديّ يبقى في سهولة إيصال المنتجات إلى باقي أنحاء العالم خاصّةً العالم العربيّ بالطرق والتكاليف المناسبة وعبر القنوات الصحيحة. لذلك، يبقى السبيل الوحيد لتوفير هذه المواد في الدول العربيّة هو الاستيراد من الدول المصنّعة لها في ظلّ غياب القدرة على التصنيع المحلّي، وهو ما يخلق منافسةً ويمنع العدالة في وصولها إلى جميع المدارس لا سيّما الفقيرة منها.

  1. البرامج والمنصّات التعليميّة الرقميّة

مع تطوّر التكنولوجيا ووسائل الاتصال في العالم، وجّه كثير من الشركات العاملة في المجال الرقميّ استثماراتها صوب التعليم، ما خلق توجّهًا جديدًا للتعليم يعتمد على تسخير أحدث وسائل التكنولوجيا في العمليّة التعليميّة، معتمدةً في ذلك على توفّر المادّة العلميّة، ووجود البنيّة التحتيّة التي تدعم إيصالها إلى المتعلّم. نتيجة لذلك، برز نوع جديد من المحتوى التعليميّ الرقميّ يختلف عن الطرائق التقليديّة في التدريس التي تعتمد على النصّ والصورة بصورة أساسيّة، ليتعدّاها إلى استخدام وسائط متعدّدة كالصوت والفيديو والبرامج التعليميّة التفاعليّة، فأصبح محتوى الكتب المدرسيّة متوفّرًا على شبكة الإنترنت ليربط المعلّم بالمتعلّم افتراضيًّا دون الحاجة إلى التواصل داخل الفصول المدرسيّة طيلة الوقت،  كما أنّ الكثير من المنصّات الرقميّة أصبحت توفّر كمًّا هائلًا من الكتب الإلكترونيّة للمتعلّمين، متيحةً بذلك إمكانيّة الوصول إلى مكتبات افتراضيّة كبيرة توفّر الكثير من الوقت والتكاليف لدرجة أنّ مفهوم المكتبة أخذ يتغيّر في أذهاننا تدريجيًّا.

في العالم العربي، تتباين مستويات إنتاج المحتوي التعليميّ الرقميّ واستخدامه من بلد إلى آخر، إذ نجد تفاوتًا واضحًا يرجع أساسًا إلى توفّر البيئة المناسبة لاستثمار الشركات الخاصّة في هذا المجال، ونقصد هنا البنيّة التحتيّة والفرص الاستثماريّة إضافةً إلى برامج الحكومات فيما يخصّ التعليم.

  1. الخدمات

تحتاج المؤسّسات التعليميّة باختلاف القطاع الذي تنتمي إليه إلى توفير العديد من الخدمات الضروريّة لعملها: النقل، والتنظيف والصيانة، بالإضافة إلى التغذيّة المدرسيّة. كلّ ذلك يصبّ في مصلحة العمليّة التعليميّة ويهدف إلى تحقيق الغايات المرجوّة منها.

وفي حين تعمل الكثير من المؤسّسات التعليميّة على توفير كلّ الخدمات المذكورة أو جزء منها داخليًّا عن طريق أقسام أو موظّفين تابعين لها، فإنّ نسبةً كبيرةً منها أصبحت تشتري تلك الخدمات عن طريق التعاقد مع شركات خاصّة بهدف رفع نوعيّة الخدمة المقدّمة من جهة، وخفض النفقات والتحكم بها بصورة أكثر فاعليّة من جهة أخرى.

في العالم العربي تتفاوت نسب التعاون بين قطاع التعليم والتعليم العالي من جهة، والقطاع الخاصّ من جهة أخرى، فنجد في بعض الدول أنّ القطاع الخاصّ يلعب دورًا كبيرًا في توفير العديد من الخدمات للمؤسّسات التعليميّة، ما يؤثّر بصورة مباشرة في نوعيّة التعليم ومدى انتشاره.

 

التأثيرات السلبيّة لسيطرة الشركات الخاصّة على قطاع التعليم

بالرغم من الدور الإيجابيّ الذي قد تلعبه الشركات الخاصّة في دعم التعليم وتطويره، لا يخلو هذا التعاون من السلبيّات، كما يشير كثير من الآراء الناقدة التي تحذّر من زيادة تكاليف التعليم، وتزايد الفروقات في مستوى التحصيل المدرسيّ بين المؤسّسات التعليميّة، في حال سيطرت الشركات الخاصّة على مصادر توريد المدارس والجامعات.

في هذا الصدد يشرح الدكتور يزيد عيسى 2009، أن "التخاصّيّة الاقتصاديّة" ورفع الحكومات يدها عن قطاع الخدمات بما فيه التربية والتعليم، عوامل من شأنها أن تؤدّي إلى سيطرة الشركات الخاصّة على المؤسّسات التعليميّة، وتحويلها إلى مصادر للربح أو سبلًا لتحقيق أهدافها الضيّقة، وهو أحد أوجه "تسليع التعليم" الذي عرّفه الكاتب على أنّه تحويل التعليم من رسالة سامية إلى سلعة تباع وتشترى، وتخضع إلى قانون العرض والطلب، ونخشى هنا زيادة الفجوة بين مستوى التعليم الرسميّ والتعليم الخاصّ وزيادة الفروقات الاجتماعيّة، فتعيد المدرسة عندها إنتاج الفروقات واللّاعدالة بدلًا من إسهامها في تحقيق المساواة.

مثال آخر على هذا التأثير السلبيّ أن تُعدّ عدم تبعيّة المحتوى التعليميّ في الكتب المدرسيّة الصادرة عن القطاع الخاصّ لرقابة ومعايير الحكومة سببًا في خروجها عن المألوف في بعض الأحيان مقارنةً بالكتب المدرسيّة الوزاريّة، وهو ما قد يشكّل عامل تهديد لقيم المجتمعات المحليّة وثوابتها، خاصّةً في العالم العربيّ، حيث ترتفع الدعوى إلى حماية الهُويّة والثوابت، في وقت امتدّت فيه يد العولمة، وطالت ما وراء الحدود لتجعل من التعليم قناةً من قنوات الدعاية التي تخدم أهدافًا تجاريّةً وسياسيّةً وأيديولوجيّة.

من ناحية أخرى، فإنّ إبقاء المناهج التعليميّة القديمة التي لا تُطوّر يُنتج عدم قدرة المؤسّسات التعليميّة المرتبطة بها على مواكبة التطوّر الهائل في شتّى مجالات العلوم والآداب وأساليب التعليم، وذلك يؤدّي إلى ظهور فجوة في التحصيل العلميّ بين الطلّاب المتخرّجين في هذه المؤسّسات التعليميّة، ونظرائهم الذين تلقّوا تعليمًا حديثًا  يستخدم الكتب المدرسيّة الصادرة عن شركات النشر الخاصّة التي تعمل دائمًا على تحديث كتبها، بتحديث طبعاتها وتحسينها شكلًا ومضمونًا، ويُعدّ هذا التأخر أحد أسباب عدم تساوي فرص التعلّم والعمل بين المتعلّمين والخرّيجين في عالم أصبحت التنافسيّة ميزة أساسيّة.

فيما يخصّ الوسائل والألعاب التعليميّة، فإنّه من المهمّ الحديث عن مدى مطابقة الوسائل والألعاب التعليميّة لمختلف معايير السلامة والملاءمة المتعارف عليها، ذلك غير مدى قدرتها على تحقيق الغايات المرجوّة منها، وهذا الحديث بدوره يقودنا إلى التفكير في أهميّة وضع آليّات الرقابة والضوابط الخاصّة، التي تسمح باستخدام الوسائل التعليميّة على أحسن وجه، والحيلولة دون تأثيرها سلبًا على المستخدم، سواءً أكان معلّمًا أم متعلّمًا.

 

أبرز التحدّيات

بالرغم من وضوح أهمّيّة تعزيز الشراكة بين القطاع الخاصّ وقطاع التعليم في العالم بشكل عامّ، وفي الدول العربيّة على وجه الخصوص، تبقى هذه الشراكة في العالم العربي إلى يومنا هذا رهينة كثير من التحدّيات التي تلقي بظلالها على تحقيق المصلحة المشتركة للقطاعَيْن، وتؤدّي إلى التأخّر في النهوض بمستويات الخدمات الضروريّة بما فيها التعليم.

ولمّا كانت الشركات الخاصّة في الدول العربيّة تمارس نشاطها ضمن أطر تحدّدها الحكومات في مجال الأعمال والاستثمار، فإنّ عدم توفير البيئة الاستثماريّة الملائمة لنشاط الشركات يبقى العائق الأكبر أمام تحقيق تقدّم في الشراكة بين قطاع التعليم والقطاع الخاصّ، ونعني بالبيئة المناسبة للاستثمار ذلك الوسط الذي يسهل إنشاء وتسيير الشركات بمحاربة البيروقراطيّة، وتقديم التمويل اللازم لتوسيع مجال العمل، بالإضافة إلى توفر البنية التحتيّة الداعمة للاقتصاد عمومًا.

من ناحية أخرى، إنّ استمرار احتكار الحكومات للتعليم والعمليّات المساندة له يضع حاجزًا أمام القطاع الخاصّ في المساهمة في الدعم والتطوير، ويمنع إضفاء ميزة التنافسيّة عليه، وهي ميزة من شأنها أن تؤدّي إلى التسابق من أجل تقديم نوعيّة تعليم أفضل بين المؤسّسات المعنيّة بما يخدم الأهداف المرجوة منه.

أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ النظرة التقليديّة للتعليم السائدة في العالم العربيّ تحدّ من مدى تطوّره وازدهاره، وهي تلك النظرة التي ترى أنّ التعليم مجرّد مهمّة بسيطة تضطلع بها الحكومة دون غيرها، والواقع أنّ الجميع معنيّ بالمساهمة في بناء التعليم في الدول، لأن تظافر الجهود سيؤدّي إلى نتائج أفضل في هذا المجال.

 

خاتمة

إنّ واقع سوق الأعمال، والتطوّر الحاصل فيه يشيران إلى أنّ دور القطاع الخاصّ وانخراطه في التعليم قابل للزيادة والتطوّر، وذلك مرتبط بمدى توفير البيئة والظروف المناسبة لتشجيع هذا التكامل المهمّ بين القطاعات الحيويّة في الدول العربيّة. وممّا لا شك فيه، أنّه كلّما زاد انخراط القطاع الخاصّ في التعليم بتوفير منتجات وخدمات أكثر كلّما زاد مستوى التعليم وتطوّر أكثر، شرط أن يتمّ خلق نقطة توازن من طرف الحكومات تسمح بتشجيع استثمار الشركات الخاصّة في مجال التعليم بما يحقّق المصلحة المشتركة للطرفين دون الإخلال بمعايير التعليم ورسالته الأسمى، أو زيادة تكاليفه تفاديًا لخلق الفجوة بين التعليم الرسميّ والتعليم الخاصّ.

من أجل بلوغ هذا الهدف، يتوجّب على الحكومات وضع الآليّات ودراسة السبل التي تتيح هذا النوع من الاستثمار المجدي، وتوفير ضوابط وقوانين رقابيّة تنظّم عمل الشركات وتسهّل مهمّتها، على ألّا تكون تلك الضوابط مستوردة من الخارج، بل ويجب أن تكون نابعةً من قيم المجتمع وأهدافه، كما يتوجّب على الشركات التي تتعامل مع المؤسّسات التعليميّة بمختلف أنواعها أن تراعيَ مسؤوليّتها الاجتماعيّة، وألّا تجعل الربحيّة غايةً تبرّر المساهمة في الإضرار بالمنظومات التعليميّة العربيّة، لأنّ الهدف الأسمى للتعليم هو تنشئة أجيال تساهم في بناء النهضة المنشودة.

 

المراجع

- منظّمة الأمم اﻟﻤتّحدة للتربية والعلم والثقافة. (2017). التقرير العالمي لرصد التعليم المساءلة في مجال التعليم: الوفاء بتعهّداتنا.

- السورطي، يزيد. (2009). السلطويّة في التربية العربيّة. سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. pp. 125-140