بيئة الروضة في زمن كورونا
بيئة الروضة في زمن كورونا
ريم أبو الراغب | مستشارة للطفولة المبكرة- الأردن

فرضت جائحة كورونا تغييرات جوهريّة على بيئة رياض الأطفال، بشقّيها الماديّ والمعنويّ، لتكون مستجيبةً لإجراءات السلامة الصحيّة المقرّة من طرف النظم الصحيّة في الدول المختلفة. وهذه الاستجابة كانت في أحيان كثيرة تتناقض مع ما هو أساسيّ جوهريّ في بيئة الروضة. وصار الحفاظ على صحّة الطلّاب والمعلّمين، بالإضافة إلى الوصول إلى الأهداف والنتاجات في عمليّة التعلّم، هدفًا أساسيًّا في تهيئة الروضة.

تحاول هذه المقالة الإشارة إلى طبيعة التغيّرات، وكيفيّة التعامل معها بما يبقي للروضة قدرتها على أن تكون بيئةً تربويّةً وتعليميّةً فعّالة في زمن كورونا.

 

التباعد في مواجهة التفاعل

تتّجه الروضة في بيئتها الماديّة لتشجيع التشاركيّة، والتفاعل الاجتماعيّ بين الأطفال، تحديدًا الفئة العمريّة من 3-5 سنوات، حتّى تصميم الصفّ بأركانه المختلفة يشجّع اللعب التفاعليّ والأنشطة الجماعيّة. بعد الجائحة، اختلفت معايير ترتيب البيئة الماديّة في الصفّ، فأصبحت الأولويّة هي المحافظة على التباعد الجسديّ، وأخذ مسافات مضبوطة بين الأطفال، وباتت مسؤولية المدارس، من إدارة ومعلّمين، هي محاولة تقليل اللعب التفاعليّ بهدف الحدّ من نسب العدوى والإصابة بالمرض، وهذا يشمل أيضًا تغييرًا في الروتين اليوميّ للطلّاب.

 

إنّ التباعد الجسديّ ليس سمة طبيعيّة لدى الأطفال. الطفل مخلوق اجتماعيّ بالفطرة، ومن سماته في عمر الروضة اللّعب التفاعليّ، والتعاون، وحبّ مساعدة الآخرين. وهذه الخصائص النمائيّة تدعم الثقة بالنفس، واكتساب المهارات. ووفقًا لأفكار Erikson (1994)، فإنّه في حال غياب الفرصة لتحقيق ذلك سيصبح الطفل خائفًا، محدودًا في قدرته على اللعب، ويعتمد سلبًا على البالغين. هذا التغيير يمكن أن يحمل ردود فعل، ومشاعر مختلفة، أبرزها القلق سواءً للأطفال أو الأهالي أو المعلّمين، خصوصًا أنّ على الجميع الاعتياد على بيئة جديدة، فيها شروط وتعليمات لم تمارس سابقًا. يضاف هذا إلى مشكلات واجهت العمليّة التعلّميّة ككلّ من ناحية عدم توفّر التكنولوجيا المطلوبة للتعلّم للطلّاب جميعهم، وعدم توفّر المهارات المطلوبة دومًا عند المعلّمين، لا سيّما مهارات التواصل مع الأطفال، إلى جانب حقيقة أنّ التكنولوجيا لا تخدم دائمًا المتعلّمين جميعًا، ويكفي هنا الإشارة إلى الملل الذي يصيب الطفل نتيجة الجلوس لساعات أمام الشاشة، وهو أمر طالما كان غير مرغوب في ما يخصّ الأطفال من نواح تربويّة عدّة. ونحن نعلم أنّ لدى الأطفال أنماطًا مختلفةً في التعلّم منها الحسيّ والبصريّ والسمعيّ، وقد لا تخدمها التكنولوجيا بالصورة المرغوبة.

 

الأثر النفسيّ وتباينه عمريًّا

لهذه الأسباب، يمكن أن يكون الأطفال الصغار أكثر تأثّرًا بالتباعد الجسديّ من الطلبة الأكبر سنًّا، خصوصًا المراهقين الذين اعتادوا التواصل الاجتماعيّ باستعمال هواتفهم النقّالة، والتطبيقات الاجتماعيّة.  واحتماليّة أن يكون الأطفال من عمر الثلاث سنوات قد استمتعوا خلال الحجر والإغلاق كبيرة، لأنّ العائلة النووّيّة هي الأهمّ والأساس في هذه المرحلة العمريّة، والعائلة كانت مجتمعةً في الغالب طيلة مدّة الحجر والانقطاع عن المدرسة. 

أمّا الأطفال الأكبر سنًّا فإنّ للأصدقاء أهميّةً أكبر في حياتهم، ودائرة اهتماماتهم تعدّت العائلة النووّيّة، وحياتهم الاجتماعيّة وتفاعلهم مع أصدقائهم يعطيهم الشعور بالأهميّة والثقة بالنفس، ولديهم حبّ للتفاعل مع الآخرين والتشارك معهم. نتيجة لهذا، إنّ اشتياقهم للحياة الاجتماعيّة سيكون أكبر من الأطفال الأصغر سنًّا.

ومع أنّ للشخصية دورًا رئيسًا في التأقلم مع الوضع الجديد، الطفل الاجتماعيّ المنطلق سيكون سعيدًا بالرجوع إلى المدرسة وعودة الحياة الاجتماعيّة، في حين أنّ الطفل القلق أو الحسّاس سيكون متردّدًا بشأن العودة، وسيحمل قلقًا من التغيير بعد المرحلة السابقة، إلّا أنّ عامل التباعد الجسديّ يمكن أن يؤثّر على الأطفال حتى المنطلقين منهم، فقد يرى الطفل أنّ الجانب الاجتماعيّ للمدرسة يأتي في الدرجة الأولى، لذلك فإنّ الهيئة الجديدة للروضة قد تجعلهم أكثر تردّدًا في العودة.

 

أهميّة التحضير للعودة المدرسيّة

في جميع الأحوال، إنّ العودة إلى المدرسة قد تكون أكثر سهولةً، إذا تبنّينا عمليّة لتحضير الأطفال لوجه المدرسة الجديد، والإجراءات الوقائيّة، ومن ثمّ إعطاء الطفل فرصةً لبناء توقّعات واقعيّة، وذلك بتحضيره وإعلامه بالإجراءات والهيئة الجديدة للروضة بالتواصل معه مسبقًا، والتحدّث عن الكِمامة ووضع الصفّ الجديد، والتعبير عن الحماس إلى رؤيته... إلخ. كما أنّ تصميم نشاطات صفّيّة تعطي الطفل فرصة للتأمّل، والنقاش، والتعبير عن المشاعر والمخاوف التي يمرّ بها قد تمكّن الطفل من التعامل مع هذه المخاوف بطريقة تضمن التغلّب عليها والتعايش معها.

 

إنّ المرحلة الانتقاليّة والعودة إلى الروتين يمكن أن تستغرق وقتًا إضافيًّا، خصوصًا عند الطفل القلق، ويمكن لهذا القلق أن يظهر بتجليّات مختلفة، مثل عدم اتّباع التعليمات، أو البكاء بسهولة. يجب على المدرسة أخذ وضع الطفل النفسيّ بعين الاعتبار، والعمل على ضمان خلق بيئة داعمة لحاجاته الاجتماعيّة والنفسيّة لإعطاءه الشعور بالأمان والاستقرار.

وللأهل دور رئيس في جعل الرجوع إلى المدرسة أسهل على أطفالهم، فملاحظة علامات القلق (أهمّها: ألم في البطن، تلعثم، أرق)، والتحدّث عن هذه العلامات بصدق، وإعطاء الطفل فرصًا مناسبةً للتعبير عن قلقه، سيعطي الطفل شعورًا بأنّ ما يمرّ به طبيعيّ، وسيجعل التعامل مع هذه المشاعر أكثر سهولةً.

كما يجب أن يكون الأهل قدوةً يحتذى بها، ومثلًا أعلى بكيفيّة تعبيرهم عن أنفسهم، وعن المشاعر التي يمرّون بها هم أنفسهم. إنّ ذلك له أكبر الأثر في تعليم الأطفال الطرق الصحيّة المقبولة اجتماعيًّا للتعبير عن القلق، أو المخاوف، أو عن الفرح أيضًا. هذا ضروريّ جدًّا خصوصًا أنّ بيئة التعلّم من المنزل شابها الكثير من القلق، وكان للأهل دور في تمرير قلقهم حول المرض أو المستقبل إلى أطفالهم.

 

التعلّم من مرونة الطفل

رغم النقاط السابقة الذكر، يجب ملاحظة نتيجة إيجابيّة لفترة الإغلاق، وهي اكتساب الأطفال ما يسمّى بالمرونة. إنّهم مع خسارتهم لبعض عمليّات التفاعل الاجتماعيّ، اكتسبوا مهارات في التكيّف وتحمّل المسؤوليّة. هذه صفات مهمّة للتأقلم، وفهم البيئة المحيطة والتعامل معها، وهي مفتاح النجاح في الحياة العمليّة في المستقبل. فالمرونة من العوامل المساعدة لجعل العودة إلى المدرسة أكثر سهولةً.

 

إنّ التعلّم وقت الجائحة لم يقتصر على الأطفال، فجميع أطراف العمليّة التعليميّة، من أهل ومعلّمات وإدارة وإشراف، منحتهم الجائحة تأمّلات تستحقّ التوقّف والكشف. ويمكن هنا الخروج بتوصيات رئيسة في سياق الروضة، مثل:

  • الاهتمام بكفايات المتعلّم، لا المعلومات أو المنهاج، وأهمّ هذه الكفايات: إدارة المشاعر، والتنظيم الذاتيّ، وكيف يتعامل مع القلق، ويتحمّل المسؤولية، وكيفيّة إدارة جوانب من حياته.
  • سدّ الفجوة العاموديّة عن طريق بدء الدراسة مبكّرًا لرسم خريطة أين يقف الأطفال في رحلة تعلّمهم. مثلًا: من هم في المرحلة الأخيرة من الروضة، وسينتقلون إلى الصفّ الأوّل الابتدائيّ قد فاتتهم كميّة من المعلومات. لذلك، علينا نحن المعلّمين أن نأخذ هذه الفجوة في الحسبان عندما نرجع إلى المدرسة. من أجل هذا، تعدّ فكرة تبكير بداية المدرسة مفيدةً لإعطاء المعلّم مدّةً كافيةً ليعرف أين وصل الطفل، وماذا يستطيع أن يفعل معه، وأين يبدأ من المنهاج معه، وفي الوقت نفسه تعطي الطفل الفرصة ليتأقلم مع المدرسة من جديد، ويقلّ قلقه.
  • سدّ الفجوة الأفقيّة بين الطلّاب في الصفّ نفسه، وهذا عن طريق إدراك أنّ الأطفال بعد فترة الجائحة متفاوتون في ما بنوه من معارف ومهارات. وهنا دور المعلّم أن يجسّر هذه الفجوة مدركًا أنّ لديه تمايزًا في التعلّم في الغرفة الصفّيّة نفسها، وأن يعمل على تعبئة الفجوة، ويردم الفراغ بين الأطفال أنفسهم.