في قلب قطاع غزّة، حيث تتقاطع أصوات الانفجارات مع صرخات الأطفال، هناك عالم آخر يختفي يومًا بعد يوم: عالم المعرفة والقراءة، عالم الكتب والمكتبات العامرة بها. لم تكن المكتبات في غزّة مجرّد مبانٍ تحمل الرفوف والكتب، بل كانت ملاذ الأطفال الوحيد في مواجهة حصار غزّة المفروض عليها منذ عقود، وكانت الكتب رفيقهم الصامت الذي يتيح لهم الهروب من رعب القصف والدمار، ولو لبرهة قصيرة.
حين تهوي قنابل الطائرات على المدارس بمكتباتها الأنيقة، لا ينهار الحجر فحسب، بل تنهار عوالم كاملة داخل قلوب الأطفال. فقد حملت الكتب الممزّقة والصفحات المحترقة معها ذكريات وحقائق، وكانت تمنح الطفل المحاصر فرصة للحلم والتخيّل. وأنا ما زلتُ أرى في خيالي طفلًا صغيرًا يجلس على حافة الركام، بين حطام مكتبة قريبة من منزله، يمسك بكتاب ممزق، يقرأ بصوت منخفض، كأنّه يحاول التمسّك بقطعة من حياته التي تُبحر في بحر التيه، لا يزال يقرأ بصوتٍ مفعمٍ بالأمل.
مكتبات غزّة مؤسّسات تعليميّة وثقافيّة
لم تكن المكتبات في غزّة مجرّد رُدهات فارغة أو جدران مبنيّة بالخرسانة، بل كانت مراكز حقيقيّة للمعرفة، والتعليم، والتواصل الثقافيّ يرتادها جميع أطياف الفئات المجتمعيّة الغزّيّة. في كلّ رفٍّ، كان هناك كتاب يفتح عالمًا جديدًا: قصص عن الصداقة، وعن علوم الطبيعة، وأدب الأطفال، والأدب العالميّ، والثقافة الإسلاميّة، والهويّة الفلسطينيّة وتاريخ فلسطين. مثّلت المكتبة نافذة على الحياة بالنسبة إلى واقع يعيشه الطفل الفلسطينيّ المحاصر؛ إذ تمتلئ رفوف المكتبات بالكتب التي تأخذ الأطفال بعيدًا عن دويّ القذائف وظلم الحياة وعبوسها في وجوههم ووجوه عائلاتهم.
تدمير المكتبات لا يعني فقدان الكتب فحسب، بل فقدان أدوات التعلّم الذاتيّ للمتعلّمين الصغار. هؤلاء المتعلّمون الذين كانوا يعتمدون على المكتبات لتوسيع معرفتهم باللغة العربيّة أو الإنجليزيّة، أو لاستكشاف العلوم والفنون، يجدون أنفسهم فجأة محرومين من مصادره الأساسيّة، وقد ترك فراغ المكتبات لديهم فجوة تعليميّة وثقافيّة كبيرة، لا يمكن لساعات قليلة في المدرسة أن تسدّها.
تذكُر "ريم"، وهي تلميذة في الصفّ الثامن في مدرسة حليمة السعديّة الأساسيّة للبنات وتبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، كيف كانت تجلس على الطاولة مقابلي تمامًا في المكتبة المدرسيّة، تقرأ قصصًا عن العالم خارج غزّة؛ تتخيّل المدن الغريبة والأنهار والحدائق، وتقترب منّي بخجل بينما أقلّب في الكتب لأعيدها إلى الرفوف، لتسألني عن معنى كلمة في كتاب، أو سؤال علميّ نناقشه ونفكّر فيه معًا بصوتٍ عالٍ قليلًا. بعد القصف الأخير للمدرسة، بلغني أنّ المكتبة تحوّلت إلى ركام. تقول "ريم" بصوت خافت: "كانت الكتب أصدقائي، يا ليتني أعود إلى هناك ساعة". هذه الكلمات تعكس فقدان الطفل ليس للمكان فقط، بل لرفيق صامت كان يمنحه الأمان والمعرفة.
لم تكن المكتبة فقط مكانًا للقراءة الفرديّة، بل كانت ملتقى للأطفال للتفاعل الاجتماعيّ والثقافيّ بشكلّ هادف وبنّاء. إضافة إلى ورشات الرسم والكتابة، وقراءة القصص بصوت عالٍ، ومسابقات المعرفة، وفعّاليّات مسرح الدمى، وأنشطة مشاريع تعليم عالميّة باستخدام التكنولوجيا، وكلّ ذلك كان يسهم في بناء مجتمع متعلّم ومترابط. بتدمير المكتبات، فقد المجتمع الفلسطينيّ في غزّة جزءًا مهمًّا من نسيجه الثقافيّ، وحُرم الأطفال من فرص المشاركة والتعلّم الجماعيّ.
الكتاب الرفيق الوحيد للأطفال
في زمن الحصار، لم يعد الكتاب مجرّد مصدر للمعرفة، بل أضحى صديقًا صامتًا، ورفيقًا يقف مع الطفل في الظلام؛ حيث يجدُ الأطفال الذين يعيشون بين أصوات الانفجارات في ملاجئ مؤقّتة، نافذة الأمل في الكتاب وبخاصّة الكتب القصصيّة والترفيهيّة. ولا سيّما أنّهم يجدون في الكتاب فرصة للهروب من الواقع المرير، وتجربة طفولة شبه طبيعيّة على رغم الدمار المهول المحيط بهم من كلّ مكان.
أحمد، طفلٌ يبلغ من العمر ثماني سنوات. قابلتُه في مخيم نزوحي في مخيّمات النصيرات وسط قطاع غزّة، كان يقرأ كتابًا عن المغامرات البحريّة بينما تهوي قذائف الموت على أطراف المخيّم الذي نقطن فيه. يقول أحمد: "عندما أقرأ عن القراصنة والسفن، أنسى الحرب، وأشعر أنّني بعيدٌ عن كلّ هذا الخوف، أشعر أنّني على متن سفينة في البحر". هذه اللحظات تثبت أنّ الكتاب ليس مجرّد صفحات، بل بالفعل مساحة نفسيّة آمنة تمنح الطفل شعورًا بالاستقرار، ولو بشكلّ مؤقّت. الصفحات الممزّقة، الورق المحترق، والكتب التي فقدت غلافها، والكتب التي تحوّلت وقودًا لإشعال نار الطهو، كلّها تحمل قيمة عاطفيّة كبيرة للأطفال. فالكتاب، حتّى في أسوأ حالاته، يظلّ رمزًا للأمل، وملاذًا من الوحدة. يمسك به الأطفال كحبل نجاة، وكرفيق يخفّف عنهم وطأة الخوف والعزلة. الصور الذهنيّة للأطفال وهم يحملون كتبهم تحت الركام، أو يقرؤون بصوت منخفض في ملاجئهم، تعكس معركة صامتة ضدّ فقدان الطفولة وحقّهم في التعلّم والخيال. يحدّثني الطفل "أمير" ابن الأحد عشر عامًا، تلميذي وجاري في مخيّم النزوح في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزّة :"أتألّم كثيرًا يا مِس عندما أقوم بتقطيع كتابٍ من أجل إشعال نار الطهو، لكنّني لم ولن أقطع كتابًا قطّ إلّا بعد قراءته كاملًا".
الأثر في المجتمع والثقافة
أثّر تدمير المكتبات ليس فقط في الفرد، بل في المجتمع الغزّيّ بأكمله. فكلّ مكتبة كانت مركزًا ثقافيًّا، تجمع الأجيال، وتنقل المعرفة من كبار السنّ إلى الأطفال. وفقدانها يعني قطع هذا الرابط الثقافيّ والاجتماعيّ، وإضعاف قدرة المجتمع على الحفاظ على تاريخه وثقافته. كانت الأمهات مثل صديقتي "دعاء أحمد" تقرأ مع أطفالها " جهاد وماريّا" في المكتبة قبل الحرب: يحكون القصص، يتعلّمون حروفًا وكلماتٍ جديدة، وقصصًا ودروسًا في الحياة، ويشاركون بعضهم بعضًا أفكارهم الصغيرة. كانت " دعاء" تصطحب أبناءها ثلاثة أيام من كلّ أسبوع، إلى المكتبة في منطقة سكنها "مكتبة البحرين"، ومرّة إلى مكتبة "عبد المحسن القطّان". ومع الأسف الشديد وبعد تدمير المكتبات بشكل كلّي أو جزئيّ، لم يعد هناك مكان للقراءة الجماعيّة، ولم تعد هناك مساحة لتبادل المعرفة والخبرة. بهذا، يفقد المجتمع تدريجيًّا جزءًا من ثقافته الجماعيّة، وتكبر الأجيال الجديدة مع نقص في التجربة الثقافيّة والمعرفيّة. علاوةً على ذلك، يؤدّي فقدان المكتبات إلى إحداث عزلة في حياة الأطفال، حيث تقلّ فرص التفاعل الاجتماعيّ والتواصل مع أقرانهم في الأنشطة التعليميّة والثقافيّة. كانت المكتبات بمثابة مساحة للاكتشاف، وللتعلّم خارج إطار المدرسة، ولتطوير الفضول الفكريّ. أمّا الآن، فأصبح الأطفال محاصرين بين جدران ركام منازلهم أو ملاجئهم المؤقّتة، بلا مصادر إلهام أو تعليم خارج المناهج الرسميّة المحدودة التي باتت هي الأخرى في مهبّ الريح وطيّ النسيان.
المقاومة الفكريّة عبر القراءة
رغم كلّ هذا الدمار، لم يتوقّف الأطفال والمعلّمون عن البحث عن المعرفة. ظهرت مبادرات صغيرة تحثّ المتعلّمين على القراءة؛ حيث ظهرت مجموعات قراءة منزليّة تقودها الأمّهات والمعلّمات والمربّيات. رأينا أيضًا ظاهرة تبادل الكتب بين العائلات، وانتشر تعليم الأطفال في خيام أو في مراكز الإيواء، وبذلك أصبح الكتاب لدى الغزّيّين رمزًا للصمود، ووسيلة للمقاومة الفكريّة والحفاظ على الهويّة.
ففي مدينة رفح قبل دمارها، دُعيتُ إلى إحدى النقاط التعليميّة التي كانت تجتمع فيها ثلاث معلّمات مُبادِرات، استطعن تحويل غرفة صغيرة في منزل آمن إلى مكتبة مؤقّتة للأطفال قمن بتوفيرها بشقّ الأنفس وبثمنٍ عزيزٍ. يجتمعون فيها كلّ يومٍ بعد الثالثة مساءً لقراءة القصص مع الأطفال، وتمثيلها ولعب الأدوار والكثير من المرح، ومناقشة موضوعات بسيطة حول الطبيعة والتاريخ. يقول أحد الأطفال: "هنا، بين هذه الكتب القليلة، أشعر أنّني ما زلت أعيش حياة طبيعيّة". وتقول المعلّمة ميساء الطويل: "أشعر هنا أنّني خارج الحرب". هذه المبادرات الصغيرة تُثبت أنّ الكتاب ليس مجرّد وسيلة للمعرفة، بل أداة للحفاظ على الإنسانيّة وسط ويلات الحرب. فالطفل الذي يقرأ اليوم كتابًا مُمزّقًا ويشارك قصصه مع صديق، يحافظ على جزء من هويّته، ويقاوم الانطفاء الثقافيّ الذي تفرضه الحرب. وبذلك تصبح القراءة فعل حياة وتجذّر، وفعل استعادة للطفولة والكرامة في آن.
يمكن القول إنّ تدمير المكتبات لا يسلب منّا الكتب فقط، بل يسلب من الأطفال فرصة الحلم، والتعلّم الذاتيّ، والنموّ النفسيّ والاجتماعيّ. عندما تختفي المكتبة، يختفي رفيق صامت كان يمنح الطفل الأمان والخيال، ويصبح الحقّ في التعلّم والتنمية الثقافيّة ضربًا من المستحيل.
حماية المكتبات والمبادرات الصغيرة في زمن الحرب ليست مجرّد قضيّة ثقافيّة، بل حقّ إنسانيّ لكلّ طفل. ويستحقّ الطفل المحاصر في غزّة أن يحظى بفرصة للحلم وللمعرفة، وللتواصل مع العالم خارج قيود الحرب. دعونا نقرأ صورة الطفل الذي يرفع كتابًا ممزّقًا بين الركام بطريقة تأمليّة عميقة، سنجدها أكثر من مجرّد رمز: إنّها رسالة أمل وصمود، وصرخة للعالم بأنّ المعرفة والحلم لا يمكن أن تموت، مهما كانت قوّة القصف والدمار، هي صوتٌ قويٌ مطالبٌ بالحقّ في القراءة والتعلّم الذاتيّ.