حين كانت الطائرات تمطر موتًا، كنت أمدّ يدي نحو الحياة: طفل يقرأ، أمّ تبكي، دفتر نقتسم فيه المعنى. كتبت لأنّي أردت أن أُبقي ما يحدث حيًّا، لا في الذاكرة فقط، بل في ضمير العالم.
في اليوم الرابع عشر من الحرب على غزّة، حيث كنت أعيش في تفاصيل الموت أكثر ممّا أتنفس الحياة. كان كلّ شيء من حولي هشًّا، مشوّشًا، يتهاوى تحت القصف: البيوت، الذاكرة، اللغة، وحتّى قدرتي على التفكير. لم أكن أتخيّل أنّ رسالة إلكترونيّة بسيطة تصلني من خارج هذا الجحيم، ستحمل شيئًا من النور والأمل، أو، على الأقلّ، شيئًا من التذكير بأنّ العالم لم ينقطع عن سماعنا تمامًا كما كان يُخيّلُ لي.
كنت كثيرًا ما أجلس وحدي، مثقلة بالصمت، وأخشى من أن أُنسى. يغدو الإحساس بالتجاهل كأنّه شكل آخر من أشكال الفقد. لكن حين وصلني بريد مجلّة "منهجيّات"، انقلب شعوري هذا رأسًا على عقب. لم تكن الرسالة دعوة إلى الكتابة فحسب، بل كانت أوّلًا سؤالًا إنسانيًّا نابعًا من قلب مشغول: "كيف حالك؟"
في رسالتهم كتبوا لي: "تذكّري، نحن دائمًا معك".
هذه الكلمات الصغيرة كانت أثقل من كلّ صواريخ الحرب، ولكن بثقل مختلف تمامًا: ثقل المحبّة، والمسؤوليّة، والتضامن الحقيقيّ. فجأة، شعرت أنّني لست وحيدة، وأنّ هناك من يتذكّرني، لا لكوني كاتبة أو معلّمة فقط، بل لكوني إنسانة تصارع من أجل البقاء.
لم تكن الرسالة دعوة إلى الكتابة فحسب، بل كانت قبل ذلك سؤالًا حقيقيًّا عن حالي، عن نجاتي، عن درجة الأمان التي بها أحيا وسط لغة النار والدخان. جاءت كأنّها نداء إنسانيّ خافت، لكنّه كان عميقًا، يُعيد ترتيب الفوضى داخلي، ويذكّرني أنّي ما زلت أملك صوتًا، وأنّ هذا الصوت يستحقّ أن يُكتب ويُقرأ.
لم تكن الكتابة في ظلّ الحرب سهلة. كانت الكلمات تختبئُ بين لحظات النجاة، والأخبار المتوالية عمّن فقدناهم، وانقطاعات الكهرباء والاتّصالات، وفقدان أعزّ الناس، والنهوض من الركام مرّتين. لكنّ شيئًا في داخلي كان يدفعني إلى الردّ على تلك الدعوة، لا من باب المجاملة، بل من باب الإلحاح الداخليّ على أن أكتب لأشعر أنّني على قيد الحياة أوّلًا، وأُوثّق لأُبقي أثرًا، أن أقول: "نحن هنا، ونكتب، ونفكّر، على الرغم من كلّ شيءٍ حلّ بنا.
لم تكن "منهجيّات" بالنسبة إليّ مجرّد منبر ثقافيّ فحسب، بل تحوّلت في نظري إلى مساحة تضامن ومنبر قوّة ذاتيّة، شعرت أنّ الكتابة فيها لم تكن نوعًا من الرفاهيّة، بل شكلًا من أشكال البقاء والمقاومة؛ مقاومة الإنكار، مقاومة الصمت، مقاومة تلاشي تفاصيلنا في أرشيف لا يُكتب إلّا من وجهة نظر الأقوى.
أن تكتب وأنت تحت القصف ليس بطولة، بل هو احتياج: حين تصبح الكتابة وسيلة بقاء، وطريقة لتنظيم الفوضى، ومحاولة فهم ما لا يمكن فهمه. ومن الغريب أنّ دعوة واحدة في توقيت شديد القسوة، تفتح لك بابًا للنجاة من جحيم الواقع ولو بشكل مؤقّت.
لذلك، ستبقى هذه التجربة جزءًا لا يُنسى من علاقتي بالكتابة وبالعالم من حولي. ستبقى رسالة "منهجيّات" تذكّرني بأنّ الكلمة ما زالت تملك مكانًا، وأنّ هناك من ينتظر أن نكتب، لا لأنّه يريد مقالًا، بل لأنّه ما زال يؤمن بإنسانيّتنا.
ما كتبته هنا ليس مجرد شهادة، بل هو لبّ السرديّة الفلسطينيّة في أنقى الصور وأصدقها: المعلّمة التي لم تهرب من الألم، بل حوّلته إلى فعل، إلى تعليم، إلى أمل، وإلى كتابة تحفظ الذاكرة وتُبقي الصوت عاليًا.
كنت حريصة على توثيق تجربتي في التعليم الشعبيّ وسط الخيام، وفي مراكز الإيواء التابعة للأونروا، في وقت تُمارَس فيه إبادة جماعيّة ضدّ شعبي الكريم. تجربة ليست فقط عملًا تربويًّا أو إنسانيًّا، بل هي شكل من أشكال المقاومة الثقافيّة والسياسيّة والمعرفيّة: أن أهتمّ بكلّ طفل، وكلّ أمّ، وأحمل رسائلهم إلى العالم، يعني أنّ عملي تجاوز تأدية الدور إلى تجسيد دور تاريخيّ في النضال الفلسطينيّ.
حرصتُ على توثيق الكثير من التفاصيل التي نشرتها مجلّة منهجيّات في قسم مخصّص بعنوان "مدوّنة غزّة": سؤال الطفل المرتبك عن مدرسته؛ ارتباك الأم في حضرة المجهول؛ رسم بسيط في دفتر أملٍ مهترئ...
كنت أعلم يقينًا أنّ ما أعيشه يجب ألّا يبقى حبيس الخيام. لذلك كتبت. كتبت كثيرًا.
كتبت لأنّني شعرت أنّ من واجبي إيصال أصواتهم ورسائلهم إلى العالم. كتبت من خلال منبري الحرّ، "منهجيّات"، الذي فتح لي ولهم نافذة على الخارج، في وقت كانت فيه كلّ الأبواب مغلقة.
كلّ ما وثّقته في تلك الأيّام لم يكن مجرّد سرد لتجربة، بل كان إيمانًا راسخًا بأنّنا، الفلسطينيّين، نملك الحقّ في أن نحكي حكايتنا بأصواتنا، من داخل الوجع، لا من خلال عدسة الآخر.
أشعر، وأنا أراجع ما كتبته، أنّني وضعت سطرًا صغيرًا، لكنّه مهمّ، في تاريخ النضال الفلسطينيّ، في زمن الإبادة الجماعيّة. سطرٌ يقول إنّ البقاء ليس مجرّد تنفّس، بل فعل يوميّ من التعليم، والكتابة، والوعي، والمقاومة.
أتوجّه بامتناني العميق لمجلّة "منهجيّات"، هذا المنبر الحرّ الذي لم يكن يومًا مجرّد مساحة للنشر، بل كان حضنًا فكريًّا وإنسانيًّا احتوانا في أشدّ لحظات الغياب والعتمة.
لهم جميعًا، ولكلّ من آمن بأنّ للكلمة دورًا في زمن الإبادة، أقول: شكرًا من القلب، لأنّكم كنتم نورًا في عتمةٍ طاغية، وسندًا حقيقيًّا لصوتٍ كان يخشى أن يضيع.
وأخيرًا، أمنيتي من بين الركام والدخان، أن تكون مقالاتي القادمة كلمات عن الحبّ، لا الحداد؛ عن الحياة، لا الفقد؛ عن التعليم، لا الحرمان.
أحلم أن أكتب عن الفصول الدراسيّة لا الملاجئ، عن الطباشير لا الشظايا، عن أفكارٍ تتفجّر إبداعًا لا أجسادًا.
أتمنّى أن تحمل كلماتي القادمة دروسًا في الابتكار، لا النجاة؛ وأن أضيء للعالم شمعة أمل، تُعلِّمه كيف يصنع النور حتّى في أحلك العتمات.
أريد أن أكتب عن مدارس تتّسع للضحك لا للصمت، عن مناهج تُطلق العقول لا تكبّلها، عن أساليب جديدة تُدهش العالَم بتفكير طفلٍ نجا، فقرّر أن يُبدع بدل أن ينتقم.
هذه أمنيتي… أن أكتب ذات يوم عن السلام، لا عن النجاة منه.