القراءة والطّفل العربيّ
القراءة والطّفل العربيّ
2022/11/12
ياشر محمّد علي | أستاذ تعليم مرحلة ابتدائيّة- الجزائر

لا شكّ في أنّ القراءة تكتسب أهمّيّة كبيرة في حياة الأطفال، لما تلعبه من دور فعّال في تكوينهم؛ فهي فنّ لغويّ جزيل العطاء، ومصدر لنهل الثروة اللغويّة وإثراء الرصيد. ومع تعدّد وسائل المعرفة التي صاحبت التّطوّر التّكنولوجيّ، إلّا أنّ القراءة لم تفقد شيئًا من أهمّيّتها وبريقها. وقد أولت المجتمعات منذ القدم العنايةَ الكبيرة لمهارة القراءة، ووافقها الوحي الإلهيّ في ذلك لمّا كانت كلمة "اقرأ" أوّل قطرة من قطرات الغيث القرآنيّ.

ومعرفة أهمّيّة القراءة قد تكون في حدّ ذاتها محفّزًا عليها، وجعلها أسلوب حياة وعادة إلزاميّة يوميّة كالطعام والشراب؛ فإضافة إلى كونها متعة للنّفس وغذاء للعقل والرّوح، هي أيضًا أداة رئيسة في عمليّة تعليم الطّفل عبر إثراء خبراته وتوسيع دائرة معلوماته، ما قد ينعكس إيجابًا على قابليّته للتعلّم، وبالتالي زيادة تحصيله الدّراسيّ. كما أنّها نافذته على حضارات وثقافات الأمم الأخرى، وهي تقوّي شخصيّته وتعزّز ثقته لتصنع منه مُحلّلًا متمكّنًا ومتحدّثًا خطيبًا ذا لغة قويّة، ومواطنًا صالحًا في المجتمع الذي ينهض ويعلو لمّا يقرأ أفراده.

ولعلّ أكثر سؤال يتردّد عليّ كأستاذ وباحث في مجال القراءة من طرف الأولياء، هو: "كيف أجعل من ابني قارئًا متميّزًا؟" أو "ما هي السّبل الّتي يمكنني اتّباعها لأغرس عادة القراءة في ابني؟" لكن، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ من التنويه إلى أمر مهمّ يغفل عنه الجميع، وهو أنّ اكتساب عادة القراءة ليس سلوكًا فطريًّا كما تعتقد الأغلبيّة، بل هو سلوك مكتسب تتداخل فيه مجموعة من العوامل تجعل منه هدفًا نهائيًّا، بداية من البيت الذي يعتبر مساحة الطّفل الأولى الّتي يبني فيها معارفه وميوله، مرورًا بالمدرسة، ووصولًا إلى المكتبات ووسائل الإعلام.

 

1. دور البيت

تتميّز مرحلة الطّفولة بالمرونة والقابليّة للتشكّل، إذ يتأثّر الطفل بالبيئة التي يعيش فيها. واهتمام الطّفل بالقراءة، كغيرها من السّلوكيّات المكتسبة، يبدأ من البيت الذي يُعتبر المحطّة الأولى لخلق هذه الميول وتطويرها؛ ففيه تكون الصّلة الأولى بين الطّفل والكتاب، وللوالدين دور كبير وفعّال في إرساء خلفيّة قرائيّة لدى الطّفل، تجعل القراءة متعة لا إعاقة بالنسبة إليه، وذلك باتّباع مجموعة من الآليّات والتوصيات التي أختصرها في النقاط الآتية:

  • - ضرورة وجود مكتبة في المنزل، مع الحرص على التّردّد عليها واستعمال كتبها.
  • - تخصيص مكان ووقت معيّنين للقراءة للأطفال بصوت عالٍ ومناقشة مواضيع الكتب، مع خلق جوّ مرح يجعل الطّفل هو من يتحفّز لساعة القراءة.
  • - اصطحاب الأبناء إلى المكتبة ومحلّات بيع الكتب، حتّى تترسخ في أذهانهم أنّنا يجب أن ننفق على الكتب كما ننفق على الأكل واللّباس.
  • - المبادرة لاختيار كتب مناسبة حسب ميولهم واهتماماتهم، فهذه النّقطة مهمّة لتحديد انجذاب الطّفل أو نفوره من القراءة.
  • - إدراج الكتب ضمن تصنيف الهدايا، مع تحفيز الطّفل على الألعاب القرائيّة، أو حتّى المسرحة واللعب الدّراميّ لتقليد شخصيّات قصصه.
  • - الاحتفاظ ببعض الكتب في المطبخ باعتباره أكثر مكان يمضي فيه الطّفل وقته، أو في السّيّارة حيث يمكن أن يلجأ إليها في حالة الضجر من طول المسافة.
  • - عدم الانزعاج من بعض العادات السّيّئة أثناء القراءة، كالأكل أو المشي أو الانتقال من كتاب لآخر من دون إتمامه، لأنّ نهره قد يؤدّي به إلى ربط فعل القراءة بشعوره بالسّوء.
  • - وأخيرًا، وأهمّ شيء، يجب عدم الضّغط على الطّفل ليقرأ، خصوصًا إذا ملّ أو لم تعجبه القصّة، لأنّ ذلك قد يثمر نتائج عكسيّة، بل يجب تركه على راحته والاكتفاء بتحفيزه.

 

2. دور المدرسة

تعتبر المدرسة المؤسّسة الاجتماعيّة الثانية بعد الأسرة الّتي تساهم في تطوير الطّفل وتكوين قدراته الذّهنيّة والجسميّة. وهي تؤدّي دورًا محوريًّا في ترسيخ ملكة القراءة لديه، كونه يقضي في رحابها سنوات عديدة من عمره. وعلينا، نحن الأساتذة والمربّين، أن نطرح بعض الأسئلة قبل التطرّق لبعض الآليّات الّتي قد تساعد في تحفيز التّلميذ على المطالعة. فيا ترى، ما مدى كفاية وقت المطالعة المبرمج في المناهج التّعليميّة في المنطقة العربيّة، للوصول إلى هذا الهدف؟ وما الطّريقة المثلى لتقديم هذا النّشاط؟ هل يتوفّر في كلّ المدارس مكتبات وقاعات مطالعة وكتب متنوّعة تلبّي أذواق التّلاميذ جميعهم وتجذبهم إلى القراءة؟

فالتعامل مع المطالعة كنشاط تكميليّ بدل أن يكون أساسيًّا يحظى باهتمام أكبر، جعلنا نفقد نشاطًا تعليميًّا يمارس فيه التّلميذ اللّغة الفصحى، ويبني ذوقه الأدبيّ ويهذّب أسلوبه للوصول إلى البلاغة المتكاملة بين التّركيب والمعنى. فالمطالعة كنشاط تعليميّ أكثر من ضرورة يجب أن يسهر عليها المعلّم بصفته ربّان السّفينة وموجّه العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، وذلك باتّخاذ مجموعة من التّدابير الّتي من شأنها بعث روح المطالعة في نفس التّلميذ. ونذكر منها:

  • - إنشاء مكتبة في القسم يسهم في تأسيسها التّلاميذ، لإشراكهم في الفعل القرائيّ.
  • - اصطحاب الأطفال إلى المكتبة وتشجيعهم على الانخراط فيها لتقريبهم من الكتاب.
  • - برمجة حصص خاصّة بالمطالعة يكون العمل فيها فرديّا أو في مجموعات، لتتم بعدها المناقشة لإثراء الرصيد والاستفادة ممّا جاء في الكتب.
  • - تتبّع آخر الإصدارات الأدبيّة والمعرفيّة، ومحاولة البحث عن المادّة القرائيّة المناسبة للعازفين عن القراءة، اتّباعا لمبدأ "الطّفل الّذي لا يقرأ لم يعثر بعد على الكتاب الّذي يثير فضوله".
  • - توظيف مسرحة الأحداث لجذب اهتمام التّلميذ إلى نصوص القراءة المسطّرة في البرنامج، كون الأطفال يميلون وبشدّة إلى هذه النّشاطات.
  • - إنشاء نواد أدبيّة وتنظيم مسابقات ثقافيّة مع استحداث جوائز خاصّة بالقراءة كقارئ الشّهر مثلًا، مع تشجيع التّلاميذ على المشاركة في المسابقات، كتحدّي القراءة العربيّ.

 

في النّهاية لا بدّ من أن نشير إلى أنّ الكلّ مسؤول، بداية من البيت ووصولًا إلى المدرسة وحتّى المكتبات ووسائل الإعلام؛ فكلّها أطراف فاعلة في الوصول بنا إلى ذلك الطّفل القارئ الفصيح المتميّز الّذي تبنى به الأوطان. وهنا نشدّد على أن تدريس القراءة في بلداننا يجب ألّا ينحصر في فكّ شفرة الرّموز اللغويّة ونطقها جهرًا، بل يجب أن يتعدّاه إلى مرحلة القراءة المتصفّحة التّحليليّة والنّقد وإبداء الرّأي للتّعمّق في النّصّ.

في الخِتام، لا يسعنا إلّا أن نشكر كلّ من يبذل الجهود الكبيرة للإبقاء على شمعة القراءة متّقدة في وسط الأطفال، ونحيي فيهم روح المبادرة وتضحياتهم الجليلة، فأطفالنا هم مستقبلنا، ولا بدّ لأمّة "اقرأ" أن تعود لتقرأ يومًا.