بصفتنا معلّمات مهنيّات عملنا على امتداد السنوات، وصعدنا قممًا وسقطنا في وديان، فإنّنا ندرك الآن بعض الأسباب الرئيسة التي تجعل الأطفال لا يحتفظون بالمعرفة ولا ينقلونها ولا يفهمونها وفق ما نتوقّع، على الرغم من الجهود الدؤوبة والمضنية التي يبذلها المعلّمون في التدريس، مرارًا وتكرارًا، عامًا بعد عامٍ. ولعلّ السبب الأكثر أهمّيّة الذي يجعل الأطفال، بشكلٍ عامّ، لا يرتقون إلى المعايير الأكاديميّة المطلوبة، هو أنّنا نزوّد المعلّمين بموادّ ضحلة فكريًّا، سرعان ما تخفق في تحفيز التفكير الأسمى لدى الطلّاب. دعونا نشرح هذا الأساس المنطقيّ بمزيد من التفصيل، ونقدّم بيِّنات إضافيّة عليه.
يخبرنا رون ريتشهارت (2015) أنّ "الهدف الرئيس للتدريس، إلى جانب تطوير فهم المحتوى، هو النهوض بالتفكير". وقد فُكّكت هذه الفكرة المركزيّة في كتابه الجديد (وأحد الكتب المفضّلة لدينا): Creating Cultures of Thinking: The 8 Forces We Must Master to Truly Transform Our Schools: The 8 Forces We Must Master to Truly Transform Our Schools.
وفيه يفصّل ريتشهارت بين مصطلحَيّ الفهم والمعرفة، تمامًا كما فعلت هـ. لِنْ إريكسون منذ سنوات عديدة (وكما تفعل المؤلّفتان المشاركتان في هذا الكتاب الآن!). فهذا التمييز مهمّ لأنّ له آثارًا حاسمة في تصميم المناهج الدراسيّة، والتوجيه البيداغوجيّ. ونجد أنّ المدارس والبحوث التعليميّة قد ركّزت، بشكل يكاد يكون حصريًّا، على مساعدة الطلّاب في اكتساب المعرفة والمهارات والحقائق. وقد جاءت المناهج والوثائق والكتب المدرسيّة متسلسلةً بعناية، مبنيّة على أوراق العمل والمفردات وقوائم طويلة من الموضوعات والمهارات التي يُتوقّع من الطلّاب اكتسابها. إلّا أنّ هذا التركيز ثنائيّ الأبعاد لم يعد فاعلًا في ضوء تعقيدات القرن الحادي والعشرين.
إنّ تطوير قاعدة معرفيّة أمر مهمّ، ولكنّه في الغالب عمل إدراكيّ منخفض المستوى. فلتحفيز التفكير الأكثر تطوّرًا وتعقيدًا، نحتاج إلى خلق تزامن بين مراكز المعالجة الأبسط والأكثر تعقيدًا في الدماغ. ويتطلّب هذا التزامن التفاعليّ من العقل معالجة المعلومات على مستويَين إدراكيَّين: مستوى المهارة الواقعيّة أو البسيطة (وهو المستوى الأدنى)، والمستوى المفاهيميّ (وهو الأعلى). يستخدم العقل المفاهيميّ الحقائق والمهارات أدواتٍ لتمييز الأنماط والروابط والتفاهمات الأعمق القابلة للتحويل، لأنّ "الاستيعاب يتطلّب معرفةً، لكنّه يتجاوزها" (Ritchhart, 2015).
ما التفكير التآزريّ؟
هو الطاقة التفاعليّة التي تحدث بين مراكز المعالجة الأدنى والأعلى مرتبة في الدماغ (Erickson, 2008). فعلى المنهاج والتدريس خلق حالة تزامن بين المستويات الدنيا (وقائع/ مهارات) والعليا (مفاهيم) من تفكير الطالب، وذلك لتطوير التفكير وزيادة الدافعيّة نحو التعلّم. إنّ إنتاج المعنى يتطلّب التفاعل بين نظامَيّ التفكير الأدنى والأعلى، وهذا يعني أنّ تصميم المنهاج والتدريس بحاجة إلى إعدادات لتحقيق مثل هذا التفاعل المطلوب.
المناهج والنماذج التوجيهيّة التي تنشئ تفاعلًا تزامنيًّا بين مستويات التفكير الواقعيّة والمفاهيميّة، لهي أمر بالغ الأهمّيّة للتنمية الفكريّة. وإنّ تطوّر الرقصة الفكريّة، عبر الأقسام المتشابكة في الدماغ، تحدّد جودة الأداء الفكريّ والعقليّ. وبصفتنا معلّمين، فنحن مسؤولون عن تصميم هذه الرقصة.
يرفع المنهاج القائم على المفاهيم مستوى تصميم المناهج الدراسيّة وتعليمها وتقويمها. فعندما تصبح المفاهيم الأساسيّة، والأفكار المفاهيميّة للحقل المعرفيّ "الدوافع" للتعلّم، فإنّنا نقود الطلّاب إلى فهم أعمق عابر للمواقف المختلفة. وما تزال المهارات التأسيسيّة ومعرفة المحتوى النقديّ (الوقائع) مكوّنات مهمّة في المنهاج القائم على المفاهيم. وأيًّا يكن، فإنّ تضمين المفاهيم يعزّز تفكير الطلّاب واستمراريّة التعلّم، بالربط بين تعلّم المهارات والحقائق (Lanning, 2013).
يُعدّ المبنى المفاهيميّ للمنهاج أمرًا أساسيًّا؛ لأنّ الاستيعاب المفاهيميّ يتطلّب معرفة المحتوى، ولكنّ العكس ليس صحيحًا بالضرورة. فبتصميم المناهج الدراسيّة بهذه الطريقة، يغدو المعلّمون واضحين بشأن المفاهيم والاستيعاب، وهو ما وجب على الطلّاب إتقانه كلّ عام.
ولكن، نادرًا ما تُصمّم موادّ المناهج الدراسيّة لإنشاء هذا التآزر الفكريّ بشكل منهجيّ. فعلى الرغم من ذكر المفاهيم، وتعريفها في الأغلب الأعمّ، فإنّها تبدو كأنّها "أوه، بالمناسبة..."؛ الأفكار اللاحقة التي قد يرغب المرء في استدراكها. يوفّر تصميم المناهج الدراسيّة القائمة على المفاهيم للمعلّمين أهدافًا واضحة لما يجب على الطلّاب فهمه، إذ يمكن للمعلّمين أن يصبحوا أكثر قصديّة في بناء دروس تُعزّز التفاعل بين المفاهيم والمعرفة أو المهارات، أو ما نسمّيه التفكير التآزريّ.
إريكسون، هـ. لِنْ، لاننغ، لويس أ.، فرنش، رايتشل. (2024). التدريس والمنهاج القائمان على المفاهيم (ترجمة هيفاء أبو النادي، وعبد اللّه بيّاري). إصدارات ترشيد التربويّة. 49-52.