التعلّم وسط الدمار: تعزيز التعليم الآمن والداعم في غزّة
التعلّم وسط الدمار: تعزيز التعليم الآمن والداعم في غزّة
جالا رزق | محاضرة وباحثة في علم النفس الإكلينيكي في جامعة غلاسكو- فلسطين/ المملكة المتّحدة

تُعدّ رفاهية الأطفال والمراهقين النفسيّة أولويّة صحّيّة عالميّة، لأنّها عامل حيويّ في الحفاظ على الصحّة والنجاح، على المدى القصير والطويل. ويمكن أن تتفاقم الصعوبات النفسيّة مع التعرّض إلى العنف والصدمات والصراعات، ولا سيّما في تلك البيئات المليئة بالحروب والريبة، وهذا، بالتأكيد، حال الأطفال والشباب الفلسطينيّين في قطاع غزّة (Abudayya et al., 2023).

 

يركِّز هذا المقال على التقاطع بين البيئة المدرسيّة ورفاهية الطالب في سياق الحرب والتهديد، وما تعنيه المشاركة في التعلّم الآمن والداعم أثناء الحرب، ولا سيّما للأطفال في سنّ المدرسة، والشباب الذين يعيشون حاليًّا في قطاع غزّة. فيعتمد على أطر الصحّة السلوكيّة في حالات الكوارث، والنماذج التعليميّة لشراكة المدرسة والمجتمع، وتكيّفها مع ظروف التعرّض إلى الصدمة تكيّفًا مستمرًّا أثناء الحرب. كما يتطرّق إلى خمسة مجالات مترابطة، تلخّص تجربة التعلّم في سياق حالات الطوارئ المحدّدة وفق دراسة أجريت مع طلّاب من غزّة والضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة (Forsberg et al, 2023). وأيًّا يكن، لا يصف المقال تجربة التعلّم والرفاهية في غزّة وصفًا موثوقًا، بل هو محاولة الإفادة من قواعد الأدلّة البحثيّة والأطر العالميّة للتعلّم الداعم والآمن، في خدمة حقوق الأطفال في التعليم والسلامة والكرامة. 

 

الرفاهية والتعلّم 

في إطار المدرسة، ترتبط رفاهية الطلّاب ارتباطًا وثيقًا بالبيئة المدرسيّة، بما فيها السلامة، والعلاقات مع الأقران، أو الترابط الاجتماعيّ (Graham et al, 2022). فالبيئة التي تعزِّز رفاهية الطلّاب العاطفيّة والسلوكيّة تتيح لهم المشاركة بأمان في التعلّم الأكاديميّ والتقدّم في تعليمهم. لكن، خلال الحرب، يمكن أن تتعرّض بعض عناصر الرفاهية، أو كلّها، إلى الاضطراب، والذي يسبّبه فقدان الأصدقاء والمعلّمين (أو غيرهم من العاملين في المدرسة)، أو بالتهديد المستمرّ أثناء التعامل في ظلّ العنف المستمر. 

 

تشير إرشادات اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات IASC (2007) إلى أنّ الحدّ الأدنى للاستجابة في حالات الطوارئ يكمن في "تعزيز الحصول على تعليم داعم وآمن". ومن الصعوبة تحديد بيئة يمكنها تعزيز التعلّم، حين يكون الطلّاب والمعلّمون وبنية المدرسة التحتيّة، بل المدرسة بأكملها، تحت التهديد.  

 

كيف يمكننا مناقشة التعلّم الداعم والآمن عندما تُفكَّك الهياكل المعياريّة في بيئات تتلاشى فيها الحدود، أو تتداخل، بين المدرسة والمنزل؟ ذلك ما طرحه تقرير منظّمة إنقاذ الأطفال "Save the Children" الصادر في 10 نوفمبر 2023، حيث أشار إلى أنّ مئات الآلاف من الفلسطينيّين في غزّة يحتمون بالمدارس في ذلك الوقت. وبالتالي، كيف يمكن تحديد المكان الآمن في هذه البيئة: أهو المنزل أم المدرسة؟ أهو غرفة النوم أم قاعة الدراسة؟ يجبرنا هذا الوضع على إعادة تصوّر فهمنا المدارس وبيئات التعلّم، وتوزيع مسؤوليّات التعلّم وأدواره.

 

أهمّيّة النهج المعتمِد على الشراكة 

 

لماذا نرى أنّ هذا النهج أساس التعليم في الظروف القاهرة؟  

من الضروريّ أن يفهم المعلّمون التنوّع الأسريّ، وموارد المجتمع، وتجارب الطلّاب داخل المدرسة وخارجها، وكيفيّة استخدام جميع الموارد المتاحة لتعظيم تعلّم الطلّاب ونجاحهم (Epstein, 2018). وتُعرَّف الشراكة بأنّها "إمكانات إيجابيّة يمكن أن تحدث عندما يجتمع شخصان أو أكثر (بما في ذلك المعلّمون، والطلّاب، وأولياء الأمور، وأعضاء مجتمع المدرسة، والمجتمع عامّة) للتعاون من أجل تعلّم الطلّاب" (Zacarian & Silverstone, 2015, p.7).

 

في ظروف الحرب والعنف الاستثنائيّة، تعدّ السلامة وتوفير المأوى، والحصول على الحاجات الأساسيّة، مثل الطعام والكهرباء، من أولويّات البقاء. وفي حين أنّ الرفاهية والتعلّم قد يبدوان مسألتين ثانويّتين في هذه الظروف، إلّا أنّهما مجالان مهمّان يمكن أن يعزِّزا القدرة على الصمود والبقاء. ووفق IASC (2007, p.148) "يعدّ التعليم في حالات الطوارئ أحد أساليب التدخّل النفس - اجتماعيّ، إذ يوفِّر بيئة آمنة ومستقرّة بالنسبة إلى الطلّاب. كما يدعم شعور الفرد بأنّه شخص سويّ، ويحافظ على كرامته وأمله، بتقديم أنشطة داعمة مناسبة ومنظّمة".

 

في مثل هذه الظروف، غدت الشراكات بين المعلّمين وأولياء الأمور والمجتمع الأوسع ضروريّة لدعم رفاهية الأطفال والمراهقين، وغدا التعلّم مسؤوليّة مشتركة وجماعيّة. ومع ندرة موارد التعلّم والتعليم، تكتسب الشراكات التي تجمع بين الدعم الأسريّ والمدرسيّ قيمة إضافيّة، للحفاظ على شكل من أشكال الحياة الطبيعيّة أو الروتين للأطفال والمراهقين. وعندما يفقد المجتمع سيطرته على سياق الحرب، يمكن لهذه الأطراف العمل معًا لتوفير الشعور بالأمن والاستقرار في حياة الأطفال والمراهقين، ببذل قصارى جهدهم للحفاظ على الروتين أو النظام اليوميّ. يخلق هذا العمل المشترك تأثيرًا متبادلًا، بشعور أفراد المجتمع بالسيطرة والفعّاليّة، في ظلّ التوتّر والخوف المتزايد اللذين لا تمكن السيطرة عليهما. 

 

ورغم أنّ التعليم الرسميّ قد لا يكون ممكنًا في مثل هذا السياق، إلّا أنّه يمكن دعم أشكال أخرى من أنشطة التعلّم الإبداعيّة والتعاونيّة والتعليم غير الرسميّ، بما في ذلك الفنون والحِرف اليدويّة والموسيقى والرياضة والدراما ودوائر القراءة والكتابة. تتطلّب هذه الأنشطة إبداعًا ومشاركة، ولكنّها تتميّز بقلّة كلفتها من حيث الموارد، ولا تتطلّب ميسّرين ذوي خلفيّة رسميّة في التعليم. من هنا، لا يعدّ النهج التشاركيّ لتيسير التعلّم، في مثل هذه الظروف، مهمًّا ومراعيًا احتياجات المجتمع فحسب، بل قد يكون ضروريًّا أيضًا. وفي هذا الصدد، يكون من المفيد منح المراهقين والشباب مهمّة مساعدة الأطفال في تيسير الأنشطة، إذ قد يساعد ذلك في رفاهية الشباب أيضًا. وللوصول إلى قائمة كاملة من توصيّات التعلّم والتعليم التي يمكن تكييفها مع سياقات الطوارئ المختلفة، يمكن الاطّلاع على المبادئ التوجيهيّة للجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات "IASC" لسنة 2007، وكتيّب معايير الحدّ الأدنى للتعليم في حالات الطوارئ "INEE" لسنة 2010. ومن الضروريّ أن نشير إلى أنّ القدرة على التكيّف والمرونة في تطبيق هذه الإرشادات، وفق احتياجات السياق، أمر أساسيّ.  

 

إدارة اضطرابات الأطفال والمراهقين النفسيّة

إذا وفّرنا بيئات تعليميّة غير رسميّة وحافظنا على شكل من أشكال الاستقرار لدى الأطفال والشباب، تتكوّن عندهم ردود أفعال مختلفة تجاه الصدمات المستمرّة أثناء الحرب. ومن بين ردود الفعل النفسيّة التي تمكن ملاحظتها: 

 

ردود فعل عاطفيّة وإدراكيّة

من المتوقّع حدوث قلق وتقلّبات في مزاج الطلّاب، حيث يمكن أن تختلف بعض ردود الفعل، فنرصد الحزن، وصعوبات العثور على المتعة أو السعادة في الأنشطة، ونوبات الذعر والخوف والقلق والغضب والإحباط. 

ردود فعل سلوكيّة

الانعزال والعدوانيّة والصدام والعِراك، وصعوبة الحفاظ على الاهتمام، وفقدان التركيز، ونوبات الغضب والقلق والتوتّر والتهرّب. 

ردود فعل جسديّة

التعب الشديد والضعف والآلام (في المعدة أو الرأس...) والدوار، وتغيّرات في عادات تناول الطعام، أو فقدان الشهيّة.

 

هذه ردود فعل طبيعيّة ناتجة عن التهديد والعنف المستمرّين، ومن المؤكّد أنّها مزعجة نفسيًّا للكثيرين، وقد تؤدّي إلى تدهور نوعيّة الحياة والرفاه. وستمرّ أوقات يشعر فيها الطلّاب بالضيق الشديد أو الإرهاق العاطفيّ، ويحتاجون إلى الدعم والإغاثة الفوريّين. وعليه، قد تكون النصائح العمليّة لتنظيم العواطف أو إدارة الضائقة النفسيّة المتزايدة في هذا الوقت، والتي تستند إلى الإرشاد النفسيّ، قيّمة، كتقنيّات التهدئة، أو كالنصائح المدرجة في حزمة الموارد التي أعدّها مجلس الصدمات في المملكة المتّحدة "Uk Trauma Council" سنة 2023، والتي تشمل ممارسة بعض الأنشطة، مثل التنفّس العميق، وتمارين الاسترخاء العضليّ، والتخيّل العقليّ الإيجابيّ، والتمدّد.  

 

من هنا، يتوجّب على المعلّم أن يكون مرنًا، ويجد التقنيّات التي تناسب الأطفال الذين يعمل معهم، والتي قد تختلف من مجموعة إلى أخرى، ومن طفل إلى آخر. 

* * *

رغم استحالة تحديد "السلامة" تحت القصف المستمر، في مثل هذه الظروف في قطاع غزّة، تظلّ الروابط المجتمعيّة مهمّة أكثر من أيّ وقت مضى، كونها تحمل الأمل والاستمراريّة. وفي النهاية، يبقى التعليم أولويّة وحقًا للأطفال، ولا سيّما أثناء حالات الطوارئ. 

 

 

المراجع

- اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات " IASC". (2007). الضوابط الإرشاديّة للصحّة العقليّة والدعم النفس-اجتماعيّ في حالات الطوارئ.

https://interagencystandingcommittee.org/sites/default/files/migrated/2019-03/iasc_guidelines_mhpss_arabic.pdf

-  Abudayya, A., Bruaset, G. T. F., Nyhus, H. B., Aburukba, R., & Tofthagen, R. (2023, December). Consequences of war-related traumatic stress among Palestinian young people in the Gaza strip: A scoping review. Mental Health & Preventionhttps://doi.org/10.1016/j.mhp.2023.200305 

- Epstein, J. (2018). School, family, and community partnerships in teachers’ professional work. Journal of Education for Teaching. 44(3). 397-406.

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/02607476.2018.1465669

- Forsberg, J., Dolan, C., & Schultz, J. (2023). Development and psychometric testing of the student learning in emergencies checklist (SLEC): Measuring promotors of academic functioning and wellbeing in Palestinian youth affected by war and conflict.Intervention. 21(1). 30-46. https://doi.org/10.4103/intv.intv_17_22 

- Graham, A., Canosa, A., Boyle, T., Moore, T., Taylor, N., Anderson, D., & Robinson, S. (2022). Promoting students’ safety and wellbeing: Ethical practice in schools. TheAustralian Educational Researcher.50(5). 1477-1496. https://doi.org/10.1007/s13384-022-00567-8 

- Zacarian, D., & Silverstone, M. (2015). In it together: How student, family, and community partnerships advance engagement and achievement in diverse classrooms. Corwin, A SAGE Knowledge. https://doi.org/10.4135/9781483388205