التعلّم في دول اللّجوء أسئلة الاعتراف والانتماء: دراسة حالة الطلّاب السوريّين في بريطانيا
التعلّم في دول اللّجوء أسئلة الاعتراف والانتماء: دراسة حالة الطلّاب السوريّين في بريطانيا
جمانة الوائلي | محاضرة في كليّة لندن الجامعيّة- المملكة المتحدة

"مكاني ليس في المدرسة، ثمّة صوت ما في داخلي يخبرني أنّ هذا ليس مكاني... كيف أشعر بالانتماء وأنا لا أحظى بأدنى أساسيّات الاحترام أو التقدير؟"

كانت هذه كلمات سلطان ردًّا على سؤالي عن انتمائه إلى مدرسته التي أمضى فيها ما يربو عن خمس سنوات منذ كان طالبًا في الصفّ السابع.

سلطان، يافع سوريّ يدرس في المرحلة الثانويّة في إحدى المدارس في جنوب غربيّ العاصمة البريطانيّة، وهو جزء من مجموعة بحثيّة تضمّ سبعة تلاميذ في مثل مرحلته العمريّة. يحاول البحث، نقل صورة عن تجارب الطلّاب السوريّين الذين حطّت بهم رحال اللجوء في بريطانيا ليبدؤوا رحلة التعلّم المدرسيّ الذي تؤطّره وتحكمه عوامل عدّة، يتلخّص أهمّها في ضرورات التأقلم في بيئة جديدة تنطوي على عدد من التحدّيات بدءًا من تعلّم اللغة، ووصولًا إلى الشعور بأنّهم جزء منتمٍ إلى هذه البيئة.

غير أنّ الوصول إلى شعور حقيقيّ بالانتماء في قصص اليافعين السبعة دونه عقبات عديدة، يجمعها مبدأ واحد هو افتقادهم إلى الاعتراف (May, 2015)، الذي يتلخّص بشعور الفرد في مجتمع مستجدّ بالحبّ والاهتمام أوّلًا وباحترام الفرد وحقوقه ثانيًا وبالتقدير ثالثًا، بوصفها لبناتٍ أساسيّةً للوصول إلى التوازن النفسيّ والحياة المستقرّة من جهة (Honneth, 1995)، وتأثير ذلك في سياق البحث على عمليّة التعلّم المدرسيّ ومخرجاتها من جهة أخرى.

وعلى أنّني لن أخوض في النواحي النظريّة لهذه المبادئ، فإنّني سأناقشها من خلال تجارب التلاميذ، لإلقاء الضوء على أهمّيّة الاستماع إلى الأطفال المتعلّمين، وتقييم تجاربهم من خلال طرحهم لها وفهمهم إيّاها، والولوج إلى عوالمهم أوّلًا قبل كلّ شيء، في سبيل الوصول إلى إدراك عميق لأهمّ المشكلات والتعقيدات التي يصطبغ بها تعليم الأطفال اللاجئين في بلاد اللجوء. وعليه فإنّ أهمّ مخرجات البحث حسب شهادات التلاميذ كانت أنّ ثلاثيّة الاعتراف- الانتماء- التعلّم، إنّما تدور حول نقطة مركزيّة واحدة: العلاقة مع المعلّمة، وهذا ما سأناقشه باستفاضة في متن هذا المقال.

 

العلاقة بين المعلّمة والطالب

 

1- الاهتمام

في المحادثة الآتية التي جرت ضمن المجموعة البحثيّة، يناقش التلاميذ مسألة العلاقة بين الطالب والمدرّس، مؤكّدين على أنّ الاهتمام والرعاية تحت مسمّى الحبّ من منظورهم هو العنصر الأساسيّ في هذه العلاقة، وأنّ غيابهما يؤدّي بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى عزوفهم عن التعليم.

عمَر (15 عامًا): كلّ الموضوع يكمن في علاقتك مع المعلّمات، المعلّمة تهتمّ أكثر بمن تحبّ من التلاميذ... لكنّني لست في نطاق هذا الاهتمام لأنّني لا أجيد اللغة الإنجليزيّة بشكل يعجبها... قد لا يكون هذا كرهًا، لكنّه بالتأكيد عدم اهتمام... العقاب هو سلاحها الأوّل ولا يهمّها أنّ إرسالي إلى خارج الصفّ عقابًا [سيفضي إلى تقصيري] في التعلّم والدروس لأنّها لا تحبّني... والنتيجة أنّني لا أتعلّم شيئًا، ولا أفهم كيفيّة حلّ الواجبات. وهكذا بقيت أدور في دائرة الإرسال إلى العقاب والتراجع الدراسيّ إلى أن أصبحت أهرب من الدروس وأحيانًا كثيرةً من المدرسة.

سلطان (14 عامًا): وهكذا نكره المعلّمة، وكلّما ازداد هذا الكره أصبح من المستحيل أن تحلّ هذه المشكلة؛ لأنّه لا مجال للنقاش مع المعلّمين... وحتّى حين نحاول التحدّث إليهم فإنّنا نقابَل بالجواب نفسه "لا تجادلني وإلّا عاقبتك"... ثمّ لا يصبح للمحاولات أيّ معنىً لأنّ الانطباع الذي تشكّل عند المعلّمين يبقى إلى الأبد مهما حاولنا تغييره.

ملاك (14 عامًا): كلّنا معرضون للخطأ، لكنّ [عبء] تبرير الخطأ أو التعبير عن احتياجاتنا داخل الصفّ مثلًا [يقع على عاتقنا] ... وحين لا نحسن التعبير عن مواقفنا بسبب عائق اللغة أحيانًا يزداد الأمر سوءًا، وكلّما حاولنا الإسهاب في شرح المواقف اعتبر المعلّمون ذلك وقاحةً منّا وبدؤوا بالصراخ، لذا فقد توقّفنا عن الشرح.

ماجد (14 عامًا): المشكلة في صراخ المعلّمة أنّه يخيفني... وأنّه يبقى يدور في رأسي طوال اليوم، أبقى أفكّر في المشكلة، ولا أستطيع التركيز في دروسي، ونتيجةً لهذا لا بدّ أن أذهب إلى العقاب، لأنّني قصرت في دروسي وهكذا.

عامر (15 عامًا): وقد أصبحت أكره المدرسة بسبب هذه المشاكل... حين تحبّ المعلّمة تلاميذها، فإنّها تعمد إلى حلّ المشكلات معهم للوصول إلى بعض التفاهمات، وهذا لا يحصل هنا... كلّ ما نحصل عليه هو السمعة السيّئة في المدرسة.

 

تبيّن شهادات التلاميذ كيف أنّ غياب الاهتمام والرعاية يعدّ العائق الأكبر في وجه بناء علاقة صحّيّة بين المدرّس والتلميذ، ويؤدّي إلى تقويض رغبة الطالب في متابعة دروسه، وترسيخ صورة سلبيّة للتعلّم في ذهنه. لقد أوضح التلاميذ أنّ تكرار هذه التجارب يوميًّا على مدى سنوات أدّى إلى تضاؤل رغبتهم في المحاولة، وميلهم إلى الشعور بالتوتّر الشديد والخوف في حضرة المعلّمين، وهو ما أثّر سلبًا في قدرتهم على الاستيعاب ومتابعة الدروس، وأفقدهم الأمل في محاولة بناء علاقة صحّيّة مع المعلّمين الذين يرفضون، حسب تعبيرهم، تغيير مواقفهم تحت أيّ ظرف. ولعلّ تشديد الطلّاب على استخدام مفردات كالحبّ والكراهية يعزّز الانطباع بأهمّيّة هذه العلاقة، ودورها في تعزيز تعلّمهم الذي لخّصه معظمهم بالقول: "حين نحبّ المعلّمة فإنّنا نحبّ المادّة ونجتهد في تعلّمها".

كذلك، ونتيجةً لما سبق، فإنّ التعبير عن احتياجات التلاميذ الضروريّة للتعلّم، ولضمان مستوىً من الرفاه، أضحى عبئًا على كاهل التلاميذ، ناهيك عن عدم الاستجابة لهذه الاحتياجات من قبل المعلّمين، الأمر الذي يسبّب تنامي شعور الطلّاب بالانفصال عن المدرسة والمعلّمين، ويرسّخ نمطًا من عدم الانتماء يشوبه الشعور بالإهمال، والذي يعبّر عنه الطفل بغياب الحبّ (Moore, 2013).

 

2- الاحترام

إنّ الاحترام بوصفه ركنًا من أركان نظريّة الاعتراف يتلخّص باعتراف المحيطين بتفرّد الإنسان، وقدرته على التصرّف بمسؤولية في نواحي حياته، ما يعني الاعتراف بحقوقه المتساوية مع حقوق أفراد المجتمع كافّةً. وفي نطاق المدرسة، فإنّ هذه الناحية تتمثّل بمعاملة التلميذ كإنسان ذي إرادة وحقّ وقرار فرديّ مسؤول ينتج عنه قدرته على الإحاطة بتعلّمه إلى حدّ ما في مساحة ممنوحة من الحرّيّة تسمح بالاستفادة من خبراته السابقة، والبناء عليها في سبيل تعلّم خبرات جديدة، وتمنحه تنوّعًا في الخيارات بوصفه إنسانًا يتشارك الحقّ في التعلّم نفسه مع جميع التلاميذ (Thomas, 2012).

إلّا إنّ هذه العناصر هي تحديدًا ما يفتقده التلاميذ الذين شملهم البحث. ويبدأ ذلك منذ المرحلة الأولى لقبول الطلّاب في مدارس محدّدة تقع في مناطق معيّنة تكون عادةً مأهولةً باللاجئين والمهاجرين والأقلّيّات، وتصنّف كمدارس ذات مستوىً تعليميّ منخفض عمومًا. هذا إضافةً إلى سياسة فصل التلاميذ إلى مجموعات تعتمد على كفاءة الطالب، حيث يوضع الطالب اللاجئ في المجموعات الأضعف عمومًا بحجّة حاجته إلى الدعم اللغويّ، وغالبًا ما يبقى الحال كذلك لبقيّة الأعوام الدراسيّة حتّى في حال تغيير مستواه نحو الأفضل. وكلّ هذا يعني أنّ حقّ هؤلاء التلاميذ في الاختيار لا يتساوى مع بعض أقرانهم، ويترافق ذلك مع عدم قدرتهم على تغيير واقعهم التعليميّ، ما يؤدّي إلى حالة من اليأس وغياب الدافع للتعلّم والإنجاز، كما يعبر سلطان الذي يدرس الآن في الصفّ العاشر:

"المدرسة تحدّ من طموحي وتفقدني الأمل في قدراتي ... لأنّني لا أجد فائدةً من المحاولة، وهم يرفضون تغيير تقييمي التعليميّ منذ الصفّ السابع، ويعاملونني كتلميذ من الدرجة الأخيرة".

يضيف عمَر أنّ الاحترام المتبادل بين التلاميذ وبعض المعلّمين والمعلّمات مفقود نظرًا "للنظرة الدونيّة"، التي يحملها بعضهم نحو الطالب اللاجئ:

"المعلّمة (أ) تعيد على مسامعي دائمًا أنّني ناكر للجميل، وأنّني يجب أن أكون ممتنًّا لأنّني منحت فرصةً للعيش والتعلّم في هذه البلاد الآمنة... و[تصمني] دائمًا بأنّني تشرّبت العنف بسبب الحرب في سوريّا... إنّها لا تحترم كوني [إنسانًا ذا مشاعر وشخصيّة معيّنة]... وتعاملني على أساس ما تحكم هي به"

هذه الشهادة الأخيرة تلقي الضوء كذلك على تسليم معظم المعلّمين والمعلّمات بأنّ الأطفال السوريّين يعانون من صدمة الحرب واللجوء، التي تؤدّي بالضرورة إلى تقصيرهم في الدراسة (Rutter, 2006)، لتكون النتيجة عزوف بعض المعلّمين عن تقديم أيّ دعم يذكر للتلاميذ، بدلًا من التعرّف إليهم عن قرب، والبحث عن حلول لمشكلاتهم، واحترام نقاط القوّة لديهم، واستغلالها لدفعهم نحو الأمام.

 

3- التقدير

إضافةً إلى ما سبق ذكره من غياب التقدير لتجارب الأطفال التعليميّة السابقة والاستفادة منها لبناء تعليم فعّال، فإنّ المدارس في بريطانيا تعتمد كثيرًا على نظام الاختبارات المعياريّة، وهو ما ينتج عنه اهتمام المعلّمين والمدرسة ككلّ بشعب معيّنة من التلاميذ المؤهّلين للنجاح في هذه الاختبارات لرفع تقييم المدرسة عمومًا، ويستبعد من ذلك الأطفال اللاجئون  (McIntyre & Hall, 2018)، الذين يرون بالنتيجة ألّا أهمّيّة لقدراتهم أو انجازاتهم الدراسيّة، وأنّهم بذلك يعامَلون بصورة أدنى من أقرانهم في العمليّة التعليميّة.

يعبّر ماجد عن ذلك بالقول:

"لا فائدة من بذل الجهود المضاعفة، إذ إنّ الاهتمام [ينصبّ] على مجموعتين فقط من التلاميذ الذين سينجحون في الامتحانات بدرجات عالية... أمّا أنا فيكفي أن أحقّق الحدّ الأدنى من النجاح."

كذلك، فإنّ ما ذكره التلاميذ عن عدم اهتمام المعلّمين بمدى فهم الطالب للدروس وتطبيقها، والذي يتجلّى في سهولة إرسالهم المتكرّر خارج الصفّ بوصفه نوعًا من العقاب، يشي بعدم اهتمام واضح لما يمكن أن يحقّقه الطالب في حال قامت المعلّمة ببذل بعض الجهد لحلّ المشكلات وتفادي الملابسات المتعلّقة بها.

 

4- غياب الاعتراف والانتماء

يتبيّن إذًا من شهادات التلاميذ أنّ الاعتراف بمحاوره الثلاثة غير متحقّق في ظروفهم الحاليّة، وأنّ غيابه في هذه الحالة يعنى بالضرورة إبعاد الشخص، وتأكيد عدم انتمائه إلى المجموعة المعنيّة (المدرسة) (May, 2015).

وتتقاطع هذه المحاور بصورة جليّة مع تعريف الانتماء إلى المدرسة كما تصفه الدراسات، والذي يتمثّل في شعور التلميذ بأهمّيّته الفرديّة وقبوله واحتواءه وتشجيعه، وكذلك بأهمّيّة دوره بوصفه عضوًا فعّالًا في نطاق المدرسة والنشاطات الصفّيّة. على هذا، فإنّ الانتماء يتجاوز التعاملات المبنيّة على مشاعر سطحيّة إلى تقديم دعم حقيقيّ واحترام استقلال الطالب وتفرّده (Goodenow, 1993)، وهي أمور يغيب معظمها، إن لم يكن كلّها، حسب ما يروي التلاميذ مشدّدين على شعورهم بعدم الانتماء، وبأنّهم يعاملون كعبء ثقيل، وما يترتّب عن ذلك من سلوكيّات، وسياسات مدرسيّة تعزّز دلك الشعور وتؤكّده. كذلك، يربط الطلّاب هذا الشعور بضعف الدافع للتعلّم وبالعزوف عنه، وهو أمر أكّده الطلبة في شهاداتهم، كما أكّدت عليه دراسات عديدة في هذا المجال، وهي ترى أنّ للانتماء دورًا بالغ الأهمّيّة في تحفيز الطالب وتحقيق نجاحه المدرسيّ ورفاهه المعنويّ (Goodenow, 1993).

ولعلّ أكثر ما يعكس عدم الانتماء، وهو ما أودّ أن أختم به المقال، ما قاله عمَر ردًّا على سؤالي عن سبب نقشه كلمة (Arab) على ظاهر يده:

"دائمًا ما يذكّرونني بأنّني لاجئ، وأنّني لا أنتمي إليهم أو لا أستحقّ [ما منّوا عليّ به]... لكنّني أنتمي [بفخر] إلى مكان ما وعائلة ما، وسأعود إلى بلادي يومًا ما ... ألن تنتهي الحرب يومًا؟"

 

 

المراجع

 

  • Goodenow, C. (1993). The Psychological Sense of School Membership among Adolescents: Scale Development and Educational Correlates. Psychology in the Schools, 30(1), 79-90.
  • Honneth, A. (1995). The struggle for recognition: The Moral Grammar for Social Conflict. John Wiley & Sons.
  • May, V. (2015). When Recognition Fails. Sociology, 50(4), 748-63.
  • McIntyre, J. and Hall, C. (2018). Barriers to the inclusion of refugee and asylum-seeking children in schools in England. Educational Review, 72(5), 583-600.
  • Moore, A. (2013). Love and Fear in the Classroom: How “Validating Affect” Might Help Us Understand Young Students and Improve their Experiences of School Life and Learning’. In M. O’Loughlin (Eds.), The Uses of Psychoanalysis in Working with Children’s Emotional Lives (p. 285-304). Jason Aronson, Inc.
  • Rutter, J. (2006). Refugee children in the UK. Open University Press.
  • Thomas, N. (2012). Love, Rights and Solidarity: Studying Children’s Participation Using Honneth’s Theory of Recognition. Childhood, 19(4), 453-66.