التعلّم المبنيّ على المكان
التعلّم المبنيّ على المكان
عفّت مواسي حمزة | باحثة أكاديمية متخصصة بالتثقيف البيئي-فلسطين

في عصرنا الحديث، تكاد الأعين التربويّة لا تتوقّف عن محاولة رصد كلّ تطبيق رقميّ، وكلّ تطوّر تكنولوجيّ، في سبيل تحسين العمليّة التعليميّة. فهل حقًّا ضاقت بنا سُبل التعليم البديل والإبداعيّ؟   

يلقي هذا المقال الضوء على أحد أنماط التدريس البديل، والذي يملك حظوظًا للنجاح في مدارسنا العربيّة، وهو التعلّم المبني على المكان (place based education)، وهو نمط تعليميّ راج عالميًّا منذ عدّة سنوات، وهو موضوع أبحث فيه تحضيرًا لرسالة الدكتوراه.  

 

حول مفهوم المكان والتعلّم المبنيّ عليه  

لم يعد مصطلح "مكان" يشير إلى مورد طبيعيّ فحسب، بل إلى حيّز يحمل هويّة خاصّة، ويطوي بين ثناياه روابط عاطفيّة وثقافيّة وشعبيّة وتراثيّة، وذكريات فرديّة وجمعيّة. الحديث عن المكان في مجال التعليم يشمل "روح المكان" التي تُصقَل نتيجة العلاقات الوطيدة التي يكوِّنها الإنسان مع بيئته والطبيعة من حوله (Taun, 1947).  وقد أدّى التطوّر الذي اعترى مصطلح "مكان" إلى ولادة مصطلحات جديدة، مثل "الحسّ المكانيّ" (place of sense)، و"الارتباط المكانيّ" (attachment place)، و"دلالة المكان" (meaning of place)، و"هويّة المكان" (place identity). 

أمّا نمط التعلّم المبنيّ على المكان، فيرتكز على العلاقة الطرديّة بين انتماء الطالب وشعوره بالمسؤوليّة، إذ كلّما توطّدت علاقات الطالب مع المكان، تعمّقَت أواصر صلته به وانتمائه إليه، وشعر بالتزام ومسؤوليّة أكبر للحفاظ عليه (Mesch & Monar, 1998). من هنا، يحقّق إدخال المكان في صلب العمليّة التعليميّة ربحًا بيئيًّا مهمًّا، يتمثّل في تعزيز بعض القيم عند الطالب، مثل الشعور بالانتماء والتعلّق بالمكان. وهو يولّد الرغبة في الحفاظ عليه وعلى الطبيعة فيه من أجل الأجيال القادمة، ومن شأن ذلك كلّه أنّ يحقّق الاستدامة.  

 

أسس التعلّم المبنيّ على المكان 

التعلّم المبنيّ على المكان نمط من أنماط التعلّم في الهواء الطلق، خارج الغرف الصفّيّة. لكنّه ينفرد عن سائر أنماط التعلّم في الخارج بمجموعة أسس تميّزه، ولا بدّ من مراعاتها لتحقيق النجاح. وأشار Sobol (2005) إلى هذه الأسس، ذاكرًا منها:  

1. اختيار مكان من البيئة المحيطة يحمل وقعًا ومعنًى في نفس الطالب.   

2. التعامل مع المكان على أنّه "النصّ التعليميّ" الذي يتوجّب البحث في معالمه واستكشاف خفاياه، باتّباع نهجٍ واضحٍ متَّفق عليه. يشمل ذلك:  

  • -سيرورة عمل متواصلة، وليس لقاءً أو مسارًا يتيمًا.  
  • -استخدام استراتيجيّات البحث الذاتي والتعلّم الشائق والفعّال استخدامًا حيًّا بين أحضان المكان.   
  • -البحث في هويّة المكان من زواياه المختلفة، مثل البحث في جوانبه التاريخيّة، أو أبعاده الثقافيّة والتراثيّة، أو معطياته الجغرافيّة، أو التنوّع الحيويّ فيه...   

3. الإسهام في صقل الهويّة البيئيّة المحلّيّة وصياغتها.  

وفي الحديث عن الهويّة البيئيّة، نجد أنّ Brown (2016) يمنحها ثقلًا وطنيًّا، إذ يعتبرها نتاج التجارب الذاتيّة التي يمرّ فيها الإنسان في تعامله مع المكان، وكلّما كانت هذه التجارب ذات وقع ايجابيّ في نفسه، زاد حبّه للمكان وتعاظم شعوره بالانتماء إليه. تتحدّد ملامح الهويّة البيئيّة عندما يصبح المكان عنصرًا مهمًّا من عناصر الانتماء، حيث يتطوّر الشعور بالمسؤوليّة تجاهه، وبضرورة الحفاظ عليه. يتحقّق ذلك بالانخراط في بالمشاركة الفعّالة بتأدية أعمال تخدم المجتمع المحلّيّ.    

 

أهمّيّة التعلّم المبنيّ على المكان وأهداف تطبيقه 

تكمن أهمّية هذا النمط التعلّميّ عامّةً، وفي مدارسنا العربيّة على وجه التحديد، في أمرين: 

1. الدراسة في الهواء الطلق، تحت قبّة السماء وبين أحضان الطبيعة، من دون أن يكلِّفنا الأمر وقتًا أو جهدًا أو مالًا، على النحو الذي يقتضيه تصميم حيّز تعليميّ من الطراز الحديث.   

2. يسهُل تطبيقه، فهو متاح للجميع، حيث يرتبط التعلّم هنا بتحديد هويّة المكان، مثل عين ماء، أو حرش، أو وادٍ، أو بئر، أو معصرة عنب، أو نواة البلد، أو بيت عربيّ فلسطينيّ، أو شجرة مُعمِّرة، أو مقام... ومن المعروف أنّ مواقع مدارسنا العربيّة بمعظمها منسجمة مع الطبيعة، ومتداخلة مع نسيج البيئة في المحيط القريب.   

أمّا الأهداف التي يمكن بلوغها بتطبيق هذا النمط من التعلّم، فتكمن في الآتي: 

1. ترسيخ قيم الاستدامة: التعلّم المبنيّ على المكان يطوي بين ثناياه قيمًا عليا، منها تقوية الشعور بالانتماء، وتعزيز الهويّة البيئيّة المحلّيّة، والحفاظ على الطبيعة.  

2. التنويع في أساليب التعليم وكسر الروتين: التعلّم المبنيّ على المكان يوفِّر للطالب فرصة كسر روتين التعليم التقليديّ. وهذا أمر يرفع من مستوى دافعيّة التعلّم، ولا سيّما أنّ الآليّة المُعتمَدة هي المشاركة الفعّالة، والبحث في هويّة المكان من مختلف زواياه، بالاعتماد على التجربة الذاتيّة الميدانيّة، وطرق الاستكشاف، والنشاطات الشيِّقة الجذّابة.  

3. تَعلُّم ما يُعنَى الطالب به: التعلّم المبني على المكان يتمّ ضمن حيّز في البيئة المحيطة بالطالب. أي أنّ الطالب يبحث في أبعاد مختلفة لمكان يحمل معانيَ خاصّة، تمسّه على المستويين الذاتيّ والجمعيّ.   

 

أمثلة على التعلّم المبنيّ على المكان 

 

روضات المزارع في النرويج 

بُنِيت الروضات ضمن الأراضي التابعة للمزارع، حيث التعلّم يرتكز إلى التجارب الذاتيّة التي يعيشها الطالب أثناء تواجده في الحظائر والحقول والبحيرات والجداول. تُطبَّق آلية التعلّم المبنيّ على المكان بتنظيم برنامج أسبوعي، دَأَب معدّوه على دمج الحياة الطبيعيّة للمزرعة بالمنهاج التعليميّ، مثل التعلّم عن دورة حياة الحيوانات الداجنة، أو ظروف نموّ النباتات، أو أنواع التربة والصخور، أو العمليّات الحسابيّة، وذلك ببيع منتوجات المزرعة في الأسواق القريبة... والأمثلة لا تنتهي وتتعدّى حدود الخيال (Cohen & Rønning, 2017 ). 

 

مدارس الغابات في بريطانيا واسكتلندا 

بالإضافة إلى تعلّم المضامين عن مجالات مختلفة بين أحضان الغابة، تستغِلّ هذه المدارس الغابات لتنظيم مناسبات ومشاريع وأمسيات فنّيّة وأدبيّة. تتمثّل رؤية هذه المدارس في ضرورة مواكبة الطلّاب عن كثب التغيّراتِ التي تمرّ فيها الغابات، فيهتمّون بإدارة شؤونها ويؤدّون دورًا فعّالًا في الحفاظ عليها (Archimedes Training, 2008).  

 

* * * 

نخلص ممّا سبق إلى أنّ هناك من يرى في واقع مدارسنا بلاءً، وهناك من يبحث في كومة البلاء عن إبرة ينسج بها مبادرات إبداعيّة لمواجهة التحدّيات. إذا لم تكن تطوّرات التعلّم التي توصّلت إليها شعوب العالم في أقصى بقاع الأرض في متناول اليد، فعلينا أن ندرك أنّنا لا نحتاج أحيانًا إلى أكثر من النظر حولنا، لنجد الحلّ على مرمى حجر.  

 

المراجع  

  • Archimedes Training. (2008). Forest Schools OCN Level 3 Handouts and Portfolio.Sheffield. 
  • Cohen, B. J. & Rønning, W. (2017). Place-based learning: making use of nature in young children's learning in rural areas in Norway and Scotland. Calderon's Cedes. 37(103). 393-418.  
  • Mesch, G. S., & Manor, O. (1998). Social ties, environmental perception, and local attachment. Environment and Behavior. 30. 504-519. 
  •   Powers, A. (2004). An Evaluation of Four Place-Based Education Programs. The Journal of Environmental Education. 35. 17-32.   
  • Sobel,D. (2005).Place-based education: connecting classrooms &communities.Great Barrington. MA:Orion Society.   
  • Tuan, Y. F. (1974). Topophilia, Englewood Cliffs. Prentice-Hall, NJ.