التعليم وتنمية المهارات الحياتيّة: أين الخلل؟
التعليم وتنمية المهارات الحياتيّة: أين الخلل؟
2025/10/19
مروان أحمد حسن | عضو هيّئة التحرير في منهجيّات- مصر

عندما نتحدّث عن التعليم، لا نقصد تلقين المناهج الدراسيّة أو اجتياز الامتحانات بسلام فحسب، بل نعني منظومة كاملة تهدف إلى إعداد الأفراد لمواجهة الحياة بمهارات حقيقيّة. ومع ذلك، نجد أنّ هذا الهدف يبدو بعيد المنال، خصوصًا في واقع تعليميّ يعاني أزمات مزمنة، لا تتعلّق بالبنية التحتيّة أو كثافة الفصول فقط، بل بتجاهل جوهريّ لمهارات الحياة التي يحتاج إليها الطالب ليصبح مواطنًا فاعلًا ومنتجًا.

 

من المدرسة إلى الحياة، فجوة هائلة

هل تساءلت عزيزي القارئ يومًا: ماذا يقدّم التعليم لطالب يقضي أكثر من 12 عامًا داخل جدران الفصول؟ في الواقع، الإجابة ليست مشجّعة. في كثير من الأحيان، يُترك الطالب مع كمٍّ هائل من المعلومات النظريّة، والتي بالكاد تفيده في الحياة اليوميّة. وتُترك الأزمات الحياتيّة، مثل إدارة الوقت، اتّخاذ القرار، التفكير النقديّ، وحتّى مهارات التعامل مع الآخرين، ليتعلّمها مصادفة أو من خلال تجارب قاسية. وما النتيجة؟ أجيال تُلقى في سوق عمل لا يعترف بالشهادات بل بالمهارات، بينما تقف عاجزة أمام تحديّات العصر.

 

الخلل في المناهج أم في الفلسفة التعليميّة؟

لنكن واضحين: المشكلة ليست في المحتوى فحسب، بل في فلسفة التعليم ذاتها. حين تكون الأولويّة لمجموع الدرجات ولحفظ النصوص، يصبح من الطبيعيّ أن تتآكل مهارات التفكير المستقلّ والتعامل مع المشكلات. تفتقر مناهجنا إلى الأنشطة التطبيقيّة التي تساعد الطلّاب على ربط ما يتعلّمونه بواقعهم. أين حصص النقاش الحُرّ؟ أين المشروعات الجماعيّة التي تُنمّي العمل التعاونيّ؟ أين التجارب العمليّة التي تضع الطالب أمام تحدّيات حقيقيّة؟

الحقيقة أنّ المساحة الزمنيّة المخصّصة للحصص لا تكفي سوى لتلقين المنهج، الذي غالبًا ما يكون مُكدّسًا بمعلومات تفوق قدرة المعلّم على استيعابه وتنفيذه بشكل فعّال. في ظل هذه الضغوط، يتحوّل المعلّم إلى آلة تُنفّذ خطّة دراسيّة صارمة، هدفه الوحيد إنهاء الدرس والانتقال إلى الحصّة التالية، من دون أدنى فرصة للتطبيق العمليّ أو حتّى نقاش حقيقيّ يثري العمليّة التعليميّة.

 

غياب مهارات الاقتصاد الشخصيّ والإدارة الذاتيّة

لنأخذ مثالًا بسيطًا: هل يتخرّج الطالب وهو يعرف كيف يدير ميزانيّته الشخصيّة؟ أو كيف يضع خطّة ماليّة؟ الإجابة للأسف لا. يُترك الشباب ليواجهوا واقعًا اقتصاديًّا قاسيًا من دون أيّ أدوات معرفيّة. في عالم يُدار بالمشروعات الصغيرة والعمل الحرّ. ما زال التعليم يُصرّ على تخريج موظّفين يبحثون عن وظائف تقليديّة، في تناقض صارخ مع متطلّبات السوق الحديث.

لعلّ المعلّم هو الضحيّة الأكبر في هذه المنظومة، إذ يُطالب بتحقيق نتائج أكاديميّة في ظلّ ضغوط إداريّة لا تنتهي. كيف يمكنه تعليم الطالب مهارات حياتيّة، وهو ذاته يعاني غياب هذه المهارات؟ التدريب المستمرّ، والذي يجب أن يكون ركيزة أساسيّة لتطوير المعلّمين، يُختزل في دورات شكليّة للترقّي، لا تسمن ولا تغني من جوع. في حين أنّ المطلوب برامج تأهيل حقيقيّة تُركّز على بناء قدراتهم في مجالات الإرشاد والتوجيه والتنمية الذاتيّة.

 

المدارس ليست سجونًا

قد تبدو العبارة قاسية عزيزي القارئ، لكنّها تعكس واقعًا مُرًّا. مدارسنا أقرب إلى سجون تعليميّة، إذ يُحاصر الطلّاب بجدول دراسيّ مكثّف، من غير أيّ متنفّس للإبداع أو التفكير الحرّ. في دول أخرى، تُخصّص حصص للفنون، والرياضة، وريادة الأعمال، والأنشطة الاجتماعيّة، لأنّهم يدركون أنّ التعليم لا يقتصر على الكتب. أمّا نحن، فنعتبر هذه الأنشطة ترفًا يمكن الاستغناء عنه في سبيل "إنجاز المنهج".

 

نحو رؤية تعليميّة بديلة

يبدأ الإصلاح من الاعتراف بالمشكلة. نحتاج إلى تغيير جذريّ في فلسفة التعليم، يركّز على إعداد الإنسان للحياة، وليس للاختبارات فقط. يجب أن تُضاف إلى المناهج موادّ تُعنى بالمهارات الحياتيّة، مثل: التفكير النقديّ، ريادة الأعمال، إدارة الوقت، العمل الجماعيّ، والذكاء العاطفيّ. كما يجب أن تُمنح الأنشطة المدرسيّة اهتمامًا موازيًا للمقرّرات الدراسيّة.

في الخِتام، التعليم الذي لا يعلّمنا كيف نعيش، تعليم ناقص. لا يُمكن لدولة أن تنهض بشباب يحمل شهادات بلا مهارات، ولا يمكن أن نبني مستقبلًا بمدارس تعيد إنتاج الاخفاقات. المطلوب الآن قرع جرس الإنذار، قبل أن نُفاجأ بأجيال جديدة أكثر ضياعًا. الحل ليس مستحيلًا، لكنّه يتطلّب إرادة حقيقيّة ورؤية شاملة، تبدأ من إعادة تعريف أهداف التعليم، بحيث يصبح فعلًا جسرًا نحو حياة أفضل، لا مجرد محطّة عبور نحو البطالة.