يجول في خاطري تساؤل عن وظيفة التعليم في المجتمعات النامية، هل يُقدَّم لمجرّد نشر الثقافة بدرجة أو بأخرى، أم يُقدَّم في هذه الدول لنشر الثقافة مستهدفين في ذلك تطويع التعليم لخدمة المجتمع واحتياجات التنمية، حتّى نجعل من التعليم عملًا نافعًا وخدمة منتجة؟
من الطبيعيّ في الدول التي تسعى لتحقيق التنمية، تلك التي تحشد طاقاتها وإمكاناتها للمشروعات التنمويّة، أنّ يكون الإنفاق على هذه المشروعات فيه الكثير من الدّقة والحرص؛ حتّى يكون العائد مجزيًا، أو لمواجهة أقلّ فاقد ممكن، بحيث تتحقّق أهداف التنمية بطريقة متوازنة لا يسبق فيها قطاع قطاعًا آخر.
يُمثّل هذا العائد إنتاج التعليم مقابل الإنفاق عليه. وهذا الإنتاج هو الذي يتمثّل بالقوى البشريّة المتعلّمة التي يسفر عنها تنفيذ الخدمات التعليميّة، تلك القوى التي تعمل في مشروعات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
وهنا لا بدّ أنّ نفكّر في قدرة التعليم على القيام بهذه المهمّة، وفي علاقة مستوى التعليم ودرجة الثقافة ونوعها بنوع النشاط السائد في المجتمع. وهذا الأمر يفرض عليَّ عدّة تساؤلات: هل صورة احتياجات التنمية واضحة أمام التعليم؟ وهل يستهدف التطوّر التعليميّ تحقيق غايات بذاتها، أم إنّه يستهدف تحسين نوعيّة التعليم، وهذا التحسين بدوره يساعد على تحقيق الغايات؟
في الواقع، عزيزي القارئ، لا يبدو أنّ صورة احتياجات التنمية واضحة أمام التعليم في الدول النامية؛ فالتعليم يعاني مجموعة من التحدّيات والنقائص التي تعوق تحقيق التنمية الفعّالة. ويبدو أنّ التطوّر التعليميّ لا يستهدف تحقيق غايات بذاتها، بل يركّز بشكل أساسيّ على تحسين نوعيّة التعليم. وعلى الرغم من أنّ هذا التحسين قد يساعد في تحقيق بعض الغايات، إلّا أنّه لا يركّز بشكل كامل على تحقيق الغايات الأساسيّة للتنمية.
أصدقكم القول إنّه غالبًا ما يُنظر إلى الإجراءات التي تُتّخذ لتحسين مستوى الأداء التعليميّ بنوع من التشكيك. وحتّى مع الجهود المبذولة، يعتبر الواقع التعليميّ محطّة للإحباط والإخفاق؛ فتعديل الخطط، والمناهج، والكتب الدراسيّة لا يُحقق تغييرًا فعّالًا، ويظلّ النظام التعليميّ يعاني القصور.
كما إنّ تطوير الموادّ العلميّة والرياضيّات قد يكون جهدًا هادفًا فعلًا، لكنّه يفتقر إلى تنفيذ فعّال ومتكامل في الفصول الدراسيّة. وقد يعطي إدخال طرائق تدريس جديدة انطباعًا بالتجديد والتطور، إلّا أنّه غالبًا ما يتبلور محاولةً فاشلةً لتغيير أساليب التدريس التقليديّة التي لا تستجيب لاحتياجات الطلّاب الفرديّة. وبدلًا من تحقيق التحسين الفعّال، تظلّ هذه الإجراءات إضافةً غير فعّالة تزيد من تعقيد النظام التعليميّ، وتعزّز الاستياء والإحباط لدى الطلّاب والمعلّمين على حدٍّ سواء.
وفي هذا الصدد، يمكنني القول إنّ التعليم في الدول الناميّة يواجه مجموعة من التحديّات التي تعوق إنتاجيته. ومن بين هذه التحدّيات:
1. نقص التمويل: قد يكون هناك نقص في التمويل المخصّص للتعليم، ما يؤثر في قدرة النظام التعليميّ على توفير بنية تحتيّة جيّدة، وتوظيف كفاءات المعلّمين وتطويرها، وتوفير الموارد التعليميّة اللازمة.
2. عدم التوافق بين المناهج واحتياجات السوق: قد يكون هناك اختلاف بين المحتوى الدراسيّ والمهارات التي يحتاج إليها سوق العمل، ما يؤدّي إلى عدم تأهيل الطلّاب بشكل كافٍ لمتطلّبات سوق العمل المستقبليّة.
3. عدم المساواة في الوصول: قد يواجه بعض الأفراد صعوبات في الوصول إلى فرص التعليم بسبب العوامل الاقتصاديّة والنوعيّة والجغرافيّة والثقافيّة. الأمر الذي يؤدّي إلى عدم المساواة في فرص التعليم وتحقيق التنمية الشاملة.
4. قلّة الموارد التعليميّة: قد يكون هناك نقص في الموارد التعليميّة المتاحة، مثل: الكتب المدرسيّة، والتكنولوجيا التعليميّة، والمختبرات؛ ما يؤثّر في جودة التعليم، وتفاعل الطلّاب مع الموادّ الدراسيّة.
5. تحدّيات التعلّم عن بُعد: وصلنا سنة 2025 ولا يزال التعليم في بعض الدول الناميّة يواجه تحديّات في توفير تجربة تعليميّة فعّالة عن بُعد، بما في ذلك توفير الاتّصال بالإنترنت، والتكنولوجيا المناسبة، وتدريب المعلّمين على استخدام هذه الأدوات بشكل فعّال، وتوعية الطلّاب بالاستخدام الأخلاقيّ لها.
نهاية القول، لمواجهة هذه التحديّات وتحسين إنتاجيّة التعليم في الدول النامية، لا يقف الأمر عند إجراء إصلاحات جوهريّة، واستثمارات كبيرة في البنية التحتيّة التعليميّة، وتطوير المناهج وتدريب المعلّمين فحسب؛ بل إنّنا بحاجة إلى تغيير الأفكار، والمفاهيم التقليديّة التي قد تكون عائقًا أمام تحسين نظام التعليم. وعلى المسؤولين أنّ يكونوا على استعداد لتقبّل الأفكار الجديدة والمبتكرة، والتي قد تسهم في تحسين جودة التعليم وزيادة إنتاجيّته. كما يجب تبنّي سياسة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأنّ يكون لدى المسؤولين في قطاع التعليم رؤية واضحة وخطّة عمل محدّدة لتحقيق أهداف التعليم، والتحسين من إنتاجيّته.