أهمّيّة الإسكيما المعرفيّة في القراءة وفهم المقروء
أهمّيّة الإسكيما المعرفيّة في القراءة وفهم المقروء
فادية كامل حسين | مدرّبةوباحثة تربويّة-لبنان

يعرّف العالم التربويّ Cook الإسكيما (Schema theory in reading) بأنّها "انعكاس سيناريوهات نموذجيّة في الدماغ" (Xue, Yang, 2019, P. 59). فالدماغ هو الأداة الحيويّة للتفكير، وخزّان السيناريوهات التي يواجهها الفرد في حياته، من مواقف ومعارف وتأثيرات وأفعال وردود أفعال... هذه البُنى الذهنيّة المتراكمة التي يحتفظ بها الدماغ تُسمَّى الإسكيمات. فكيف تتشكّل الإسكيما المعرفيّة في القراءة؟ وكيف تؤثِّر في فهم المقروء؟ 

هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذا المقال، موضّحين كيفيّة تكوّن الإسكيما المعرفيّة في ذهن الإنسان، ومدى تأثيرها في عمليّة فهم المقروء، وما يعوق ذلك، بالاستناد إلى ثلاثة نماذج للقراءة.

 

نظريّة الإسكيما وعلاقتها بفهم المقروء

وضع Emmanuel Kant نظريّة الإسكيما سنة 1804، وربط أصل الكلمة بالخيال التجاوزيّ. وأوضح أنّ معنى أيّ مصطلح يتحقّق وجوده بربطه بالمعلومات السابقة عند الفرد (Xue, Yang, 2019). كذلك، اعتبر (Widdowson 1983) أنّ الإسكيما هي البنية المعرفيّة للأشياء المعروفة والمعلومات المخزَّنة في الدماغ. ويعرّف يعقوب ودمعة (2015، ص 37) الإسكيما بأنّها "بنية سلوكيّة أو معرفيّة منظّمة وقابلة للتعميم والتكرار في وضعيّات مشابهة. هناك الإسكيمات الحسّية- الحركيّة، مثل عمليّة الرضاعة عند الطفل، فضلًا عن الإسكيمات الشكليّة أو الذهنيّة التي يستعملها الراشد لحلّ مسألة علميّة". ولهذه النظريّة تأثير كبير في عمليّة فهم المقروء، حيث يعتقد أصحاب هذه النظريّة، ومن بينهم (Rumelhart 1980)، أنّ القارئ يتمكّن من فهم المادّة المقروءة فهمًا أفضل، إذا أعاد ترتيب محتوى المادّة وفقًا للإسكيما الموجودة في ذاكرته. كما حدّد ثلاثة أسباب لإخفاق القارئ في فهم المقروء:

1. افتقاد القارئ الإسكيما العقليّة المناسبة للموضوع الذي يقرؤه. ومن هنا، يشدّد التربويّون على ضرورة إشراك الطالب في اختيار النصوص المقروءة، لتكون لديه خبرة معرفيّة وانتماء لما يقرؤه، ممّا يساعد على فهمه. 
2. قد يمتلك القارئ الإسكيما، ولكنّه قد يربط الفهم بالإسكيما الخطأ، نتيجة صعوبة المفردات في النصّ المقروء، أو عدم
3. سلاسة أسلوب الكاتب. وللمعلّم هنا دور أساس في تصحيح المسار، عبر شرح المفردات الصعبة، وتسهيل إيصال المعنى المقصود إلى الطالب.قد يفهم القارئ النصّ ويفسّره تفسيرًا صحيحًا، ولكنّه يكون بعيدًا عن رؤية الكاتب. في هذه الحالة، يتعذّر عليه فهم هدف الكاتب وتوجّهاته. يكمن الحلّ هنا بالنشاطات القبليّة التي ينفّذها المعلّم قبل شرح الدرس، طارحًا أسئلة استباقيّة حول مغزى النصّ وأهدافه، لمساعدة القارئ في تكوين خلفيّة معرفيّة حول رؤية الكاتب وغاياته (Rumelhart, 1980).

يرى (Carrell 1981, P.125) "أنّ البنية المعرفيّة قد تُنشَّط خلال مرحلة ما قبل القراءة، وأنّ العقل الذي يُستثار بكلمات مفتاحيّة أو عبارات موجودة في النصّ، قد يُحفَّز بمثير خارجيّ". ويوافق يعقوب ودمعة (2015، ص 38) هذا الرّأي، فيذكران أنّ الإسكيمات ليست فطريّة، لأنّها "تتشكّل تدريجيًّا من خلال التكرار الوظيفيّ للمنعكسات... وتعتمد على نشاط الذات، أي أفعال الطفل تجاه الأشياء. وإنّ التنظيم العام للأفعال هو الذي يقود إلى تطوّر الذكاء، وظهور العمليّات الذهنيّة. وهنا تصبح الإسكيما معرفيّة".

 

نماذج القراءة الثلاثة وفق نظريّة الإسكيما

 

نموذج القراءة من أسفل إلى أعلى، أي من النصّ إلى القارئ(Bottom-up Reading Model) 

يتطلّب هذا النموذج مستويات التفكير الحسّيّة، والإتقان التدريجيّ لمكوّنات القراءة من "معرفة الحروف الأبجديّة، إلى الأصوات المرتبطة بها، وقراءة الكلمات والجمل" (كوزما، ويعقوب، 2018، ص 105). أي التركيز على المهارات الأساسيّة للقراءة، والتدرّج بها تصاعديًّا، وصولًا إلى تحقيق فهم المقروء. وتذكر (Forstall 2019) المفاهيم الرئيسة الخمسة التي يجب إتقانها، لتحقيق القراءة الكاملة في هذا النموذج: 

  • - الصوتيّات: ينطويّ هذا المفهوم على معرفة أصوات الحروف الأبجديّة وقواعد المقاطع الصوتيّة، بالإضافة إلى إدراك علاقة الحروف بالأصوات، إذ إنّ الحروف تصنع الأصوات، والأصوات تصنع الكلمات. 
  • - الوعيّ الصوتيّ: يعني فهم أصوات مجموعة حروف، والتوليفات الساكنة، وجمع المقاطع الصوتيّة في الكلمات. 
  • - المفردات: أي فهم معنى المفردات، والقدرة على استعمالها استعمالًا مناسبًا.
  • - الطلاقة: هي القدرة على القراءة بالسرعة التي يتحدّث فيها الطالب، والتعبير عن المعنى من دون أخطاء. وينصح الباحثان (Samuel و La Berge 1974, April) أن يتعرّف القارئ الكلمات التي تتواتر في النصوص تلقيًّا، كي يصل إلى مستوى الطلاقة في قراءته، فلا يضيع الوقت في تفكيك الحروف وتهجئتها، فيضيع المعنى.  
  • - فهم المقروء: ينطلق عبر تنشيط البُنى المعرفيّة السّابقة (الإسكيما) عند الطالب، حتّى تتكوّن لديه خلفيّة واضحة حول غاية الكاتب ورؤيته للموضوع المطروح. وبذلك، يتحقّق فهم المقروء من خلال القدرة على تذكّر الأحداث والشخصيّات والفكرة الرئيسة للقصّة. 

 

من أجل تطوير القدرات على القراءة بطلاقة، يقترح أصحاب هذا النموذج على القرّاء المواظبة على الاستماع إلى القراءة الصحيحة، ومتابعة القراءة في البيت والمدرسة، مستعينين بموارد تناسب قدراتهم ومستوياتهم. وينصح (Samuel و La Berge 1974, April) بتقسيم النصّ والقراءة المتكرّرة للمقاطع القصيرة. ولاختبار ذلك، نفّذ الباحثان التجربة على مجموعة من التلاميذ من ذوي الصعوبات التعلّميّة، وطلب إليهم قراءة مقاطع قصيرة، تتألّف من 250 كلمة تقريبًا، قراءة متكرّرة حتّى حقّقوا سرعة قراءة وصلت إلى 95 كلمة في الدقيقة؛ الأمر الذي أدّى إلى تحسّن مستوى الطلّاب في دقّة قراءة المقطع والسرعة والتعبير.

كما اكتشفا أنّ الطلّاب عندما انتقلوا إلى قراءة نصوص جديدة، حقّقوا نتائج أفضل من المرّة الأولى في قراءاتهم الفقرات السّابقة. وأوضحا أنّ الطّلاقة في القراءة تحتاج إلى تدريب تام، مثل لاعبي كرة السلّة الذين يحتاجون إلى ممارسة اللعب باستمرار، لتطوير مهاراتهم أثناء المباراة. 

 

نموذج القراءة من أعلى إلى أسفل، أي من القارئ إلى النصّ (Top-Down Reading Model) 

يقوم هذا النموذج على تفاعل القارئ مع النصّ، فيُسقِط خبرته المعرفيّة عليه.  يذكر Friedman أنّ هذا النموذج صُمِّم لاعتبار أنّ دماغ القارئ يفهم المكتوب على الصفحات، وليس الكلمات المطبوعة، "وأنّ فهم المقروء في هذا النموذج يعتمد على ما يجلبه القارئ إلى النصّ من ذكائه الخاصّ، ومن خبرته المعرفيّة" (2019, P.126, Suraprajit). ويرى (Kenneth 1967)، وهو من أصحاب هذا النموذج، أنّ القارئ يبقى خلال القراءة في حالة بحث عن إجابات لتساؤلاته، وكأنّه يقوم بلعبة تخمين لغويّة؛ يتوقّع ويتكهّن ليفهم معاني النصّ. يتعلّم القارئ أكثر إذا اختار النصوص التي تهمّه.

يكمن الهدف من نموذج القراءة من أعلى إلى أسفل، في جعل القرّاء يتمتّعون بمهارات فهم المفردات، ليصبحوا قادرين على الانخراط أكثر في عمليّة التفكير المجرّد والمنطقيّ. لذلك، يتطلّب هذا النموذج مستويات التفكير العليا، مثل التفكير النّاقد. وهو يشدّد على دور الإسكيمات المعرفيّة ودور القارئ أثناء عمليّة القراءة. 

 

نموذج القراءة التفاعليّة (Interactive Reading Model) 

يعرّف Rumelhart 1980)) هذا النموذج بأنّه "مزيج من المعالجة من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى". ويقترحه طريقةً تحدث بها كلّ المعلومات الحسيّة القائمة على البيانات، والمعلومات غير الحسّيّة في وقت واحد. ويمثّل هذا النموذج في القراءة الأساس الذي تُبنى عليه نظريّة الإسكيما المعرفيّة؛ فالقراءة، بالنسبة إلى أصحاب هذا النموذج، عمليّة معقّدة تتداخل فيها النواحي اللغويّة، من حروف وكلمات وتراكيب ومعانٍ، مع التفاعلات بين المعلومات المباشرة في النصّ والمعلومات الكامنة من الخبرات السابقة.  

يشدّد مؤيّدو النموذج على أهمّيّة قراءة الطالب نصوصًا لها علاقة بخبراته السّابقة، وبالبنية المعرفيّة الخاصّة به. لأنّ ذلك يساعده على التفاعل مع الفهم المعمّق للنصّ، واكتساب المهارات اللغويّة، ومهارات فهم المقروء.

يلقى نموذج القراءة التفاعليّ القائم على "التوازن بين تعلّم المهارات اللغويّة ومهارات فهم المقروء، إقبالًا على المستوى العالميّ، وهو يرتكز في تطبيقه على البُعد الاجتماعيّ" (كوزما، ويعقوب، 2018، ص 110). لأنّ القراءة عمليّة ذهنيّة وتفعّاليّة، تتمّ في إطار اجتماعيّ. وقد أشار العالم Vygotsky (1999, P.33) إلى أنّ الأطفال يكتسبون التعلّم اكتسابًا أفضل حين يتفاعلون مع أشخاص من محيطهم، وأنّ التطوّر الفكريّ لديهم يحصل عندما يطوّرون مهاراتهم نتيجة تفاعلهم مع البيئة. وبهذه الطريقة، يستطيع الطالب أن يبني على ما تأسّس لديه من مهارات وفهم، وأن يتلقّى الدعم في الوقت ذاته، من أجل توسيع تعلّمه ضمن إطار ما سمّاه "منطقة النموّ المتجاور" (zone of proximal development) التي تختلف باختلاف مراحل النموّ من طالب إلى آخر. 

لا شكّ أنّ تعلّميّة القراءة في المرحلة الابتدائيّة لها مراحل يتدرّج بها الطالب ليحقّق فهمه المقروء بعمق. ولكلّ مرحلة استراتيجيّات يمكن اعتبارها نوعًا "من النشاط الحسّيّ الذي يدفع القارئ إلى أن يسبغ معنى على النصّ المكتوب، بربط العناصر الماديّة المحسوسة ببعضها من ناحية، وبخبراته السّابقة من ناحية أخرى" (Foucambert, 1996, P.6.).

* * *

في الختام، نودّ الإشارة إلى أهميّة دور المعلّم في تحفيز الإسكيما المعرفيّة عند الطالب، والذي يتمثّل في اطّلاعه على هذه النظريّة وخصائصها. فهذا الأمر يساعده على تحديد أسباب إخفاق الطلّاب في فهم المقروء، ويفتح أمامه سبل العلاج وكيفيّة تنشيط الإسكيما المعرفيّة عندهم. يتمّ ذلك بتنظيمه نشاطات قبليّة تمدّهم بتعرّف الحروف والمفردات والجمل والمعلومات والمصطلحات المرتبطة بموضوع القراءة، لتعزيز الإسكيما اللغويّة. كما أنّ دوره في اختيار النصّ مهمّ جدًّا، لما لأسلوب الكاتب من تأثير في تحفيز إسكيما الشكل. أمّا "إسكيما المحتوى، فتتألّف من عنصرين؛ إسكيما الموقف حين يقوم القارئ بربط الحروف والكلمات التي يقرؤها بمجالات معرفيّة واحدة، وإسكيما الخلفيّة المعرفيّة التي ترتبط بمعرفة القارئ السابقة عن الموضوع وتسهم في تسهيل فهم المقروء" (Rumelhart, 1980). يؤدّي المعلّم هنا دورًا فاعلًا في توجيه بوصلة المعرفة عند الطلّاب وتنشيطها، فتتّضح الرؤية، ويكون مسار تحقيق الهدف النهائيّ في فهم المقروء أسهل لديه ولدى طلّابه.

 

المراجع

- كوزما، إيفا، ويعقوب، غسّان. (2018). أحدث استراتيجيّات القراءة والمطالعة للطفل العربيّ. دار النهضة العربيّة. 

- يعقوب، غسّان، ودمعه، ليلى. (2015). المعجم الموسوعيّ في علم النفس. مكتبة لبنان ناشرون. 

 

- Carrell, P. L. (1981). Culture-specific schemata in L2 comprehension. In: Orem, R. and Haskell, J. Selected papers from the Ninth Illinois TESOL/BE Annual Convention, First Midwest TESOL. Illinois. 123-132.

-  Forstall (2019, May). What Are the Five Main Topics in Reading Comprehension? The Classroom.

- Foucambert. (1996, avril). Le Monde de l’éducation. La fin des certitudes. Enquête sur la lecture. 1-18. Microsoft Word - ONL Jean Foucambert.doc (lecture.org)

- Kenneth, G. (1967). Readind A Psycholinguistic Guessing Game. Journal of Reading Specialist. 126- 135. 

https://www.csie.ntu.edu.tw/~r99922026/tmp_zero/Reading_A_Psycholinguistic_Guessing_Game.pdf

- La Berge, D. Samuels, J. (1974, April). Toward a Theory of Automatic Information- Processing in Reading. Congnitive Psychology. 6(2). 293-323. 

 https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/0010028574900152

- Rumelhart, D. (1980). Schemata: The Building Blocks of Cognition. Theoretical Issues In Reading Comprehension. NewJersey: Lawrence Erlbaum. https://www.researchgate.net/publication/200772425_Schema_Theory_Revisited. 7/1/2021 

-Suraprajit, P. (2019). Bottom-up vs top-down model: The perception of reading strategies among thai university students. Journal of Language Teaching and Research.10(3). 454-460.

- Vigotsky, L. (1999). Thought and language. Massachusetts: MIT Press. 

-Widdowson, Henry. (1983). Learning Purpose and Language Use. Oxford University Press 

- Xue, Yang. (2019, May). The Use of Schema Theory in the Teaching of Reading Comprehension. International Journal of Liberal Arts and Social Science. 7(4). 59- 63. https://ijlass.org/articles/7.4.6.58-63.pdf