مع بداية كلّ عام دراسيّ جديد، يبدأ ملايين المعلّمين والطلّاب في أنّحاء العالم رحلة جديدة مع المعرفة. ويتجدّد الأمل في الفصول الدراسيّة، حيثُ تُفتح الكتب، وتُكتب الأحلام على السبّورة البيضاء.
لكن، في زاوية صغيرة من هذا العالم، يقف 665 ألف طالب في غزّة على أبواب مدارس مهدّمة؛ فأطفال غزّة يبدؤون عامهم الدراسيّ الجديد بلا مقاعد ولا دفاتر... ولا جدران تحميهم. يقفون عند حدود الحلم، محرومين من أبسط حقوقهم: الحقّ في التعليم. كم أتمنّى، أنا المعلّمة الفلسطينيّة من غزّة، أنّ يبدأ زملائي المعلّمون في العالم عامهم الدراسيّ بحصّة واحدة لا تتجاوز الخمس وأربعين دقيقة، عن واقع التعليم في غزّة، وعن أحوال المتعلّمين هناك. أتمنى أنّ يطلق المعلّمون حصّة موحّدة التوقيت تُذكّر العالم بأنّ التعليم ليس امتيازًا يُمنح، بل حقّ إنسانيّ مقدّس لا يجوز سلبه.
في غزّة، تحوّلت المدارس إلى ركام أو إلى مراكز إيواء مكتظّة بالنازحين. وأصبح تلاميذ الأمس مشرّدين اليوم، وحقائبهم المدرسيّة ضاعت تحت أنقاض بيوتهم. آلاف المعلّمين فقدوا حياتهم أو بيوتهم، ومع ذلك ما زالوا يحلمون بأن يعيدوا إلى الطلّاب شيئًا من الطمأنينة. كم أتمنّى أنّ يتمكّن المعلّمون من مناقشة حقّ التعليم مع تلاميذهم، ولا سيّما في غزّة حيثُ لم يعد مجرّد مهمّة مهنيّة، بل فعل حياة وبقاء. فعلٌ يرفض الجهل الذي يخلّفه الانقطاع وتُسبّبه الحرب، وضدّ اليأس الذي يزرعه القصف، وضدّ الحرمان الذي يهدّد جيلًا كاملًا بالضياع.
أهمّيّة التضامن التربويّ مع غزّة
التضامن التربويّ ليس شعارات ولا كلمات مواساة، بل هو موقف إنسانيّ وأخلاقيّ يعكس إدراكنا أنّ التعليم قضيّة عالميّة مشتركة. عندما يجتمع المعلّمون حول العالم على تخصيص حصّة لعرض معاناة التعليم في غزّة، فإنّهم من خلال التضامن التربويّ يستطيعون رفع وعي طلّابهم بأنّ المعرفة لا تزدهر في كلّ مكان، وأنّ ملايين الأطفال يقاتلون يوميًّا ليحظوا بما يعتبره الآخرون أمرًا بديهيًّا. بالإضافة إلى ذلك، يستطيع المعلّمون زرع قيم التضامن والعدالة في قلوب الطلبة، لتصبح جزءًا من وعيهم العالميّ. علاوةً على ذلك، فإنّ المعلّمين يوجّهون رسالة سياسيّة وأخلاقيّة للعالم بأنّ التعليم فوق النزاعات والحروب، وأنّ حرمان الأطفال منه جريمة ضدّ المستقبل الإنسانيّ بأسره.
ماذا يمكن أن يحدث في خمسٍ وأربعين دقيقة؟
قد يتساءل البعض: ماذا تفعل خمسٌ وأربعون دقيقة أمام سنوات من حرمان أطفال غزّة من حقّهم في التعليم؟
قد يتغيّر الكثير في خمسٍ وأربعين دقيقة؛ يمكن لطلّاب في اليابان أو فرنسا أو البرازيل أن يشاهدوا صورًا حقيقيّة عن أطفال غزّة، فيدركوا أنّ زملاءهم في غزّة ليسوا أرقامًا، بل وجوهًا وأحلامًا.
في خمسٍ وأربعين دقيقة، يمكن لمعلّم أنّ يفتح نقاشًا حول معنى العدالة، وحول حقّ كلّ طفل في مقعد دراسيّ.
في خمسٍ وأربعين دقيقة، يمكن أنّ تُكتب رسالة صغيرة من طالب في أقصى الأرض إلى طالب في غزّة، ليخبره أنّه ليس وحيدًا.
هذه الحصّة الرمزيّة ليست مجرّد وقت، بل هي فعل رفض للإبادة التعليميّة وحرب التجهيل، بل وضدّ الصمت على ذلك.
أعلم أنّ المعلّمين في العالم يمتلكون القدرة على أنّ يكونوا جسورًا بين غزّة وبقيّة العالم. نحن لا نطلب دعمًا سياسيًّا ولا ماليًّا، بل نطلب شيئًا أعمق: نطلبُ إحساسًا إنسانيًّا داخل الفصول الدراسيّة، يُترجم في قلوب المتعلّمين ويقوّي إنسانيّتهم في الحياة. فعندما يدرك الطالب في بلد بعيد أنّ هناك طفلًا في غزّة لا يستطيع دخول مدرسته، فإنّه يتعلّم درسًا في الأخوّة الإنسانيّة أعمق من أيّ درس أكاديميّ. وعندما يتبنّى المعلّم هذه الرسالة، فإنّه يغرس في تلامذته بذور قيم لا تُنسى. كم أتمنى أنّ يمتدّ التضامن التربويّ والإنسانيّ ليشمل وزارات التربية وأنظمة التعليم في العالم. ليتنا نرى مبادرات عالميّة لجمع قصص أطفال غزّة وتوثيقها في المناهج. ليت المدارس الدوليّة تتبنى برامج دعم نفسيّ أو تعليميّ عن بُعد. فالتعليم لم يعد قضيّة محليّة تخصّ غزّة وحدها، بل قضيّة عالميّة تمس مستقبل الإنسانيّة بأسرها.
قد لا أمتلك القدرة على إيقاف الحرب، لكنّني أؤمن أنّ صوت المعلّمين إذا اجتمع يمكن أنّ يُحدث فارقًا. كنت أتمنى أنّ أرى تضامنًا تربويًّا عالميًّا يربطنا كمعلّمين خارج حدود الجغرافيا، بتوقيت إنسانيّ واحد. كنت أتمنى أنّ يبدأ كلّ عام دراسيّ بحصّة وفاء لطلّاب غزّة، حصّة تقول لهم: أنّتم لستم وحدكم، العالم يراكم ويسمعكم.
التعليم هو الأمل الأخير الذي نحمله لأطفالنا. وإذا فقدناه، فأنّنا لا نخسر جيلًا فلسطينيًّا فقط، بل نخسر إنسانيّتنا جميعًا.