نحو مدرسة المستقبل
نحو مدرسة المستقبل
هيفاء نجار | عضو مجلس الأعيان والمديرة العامة لمدرسة الأهلية والمطران - الأردن

ونحن نتّجه نحو المستقبل، علينا المجابهة والحوار وإعادة النظر جذريًّا في كثيرٍ من مفاهيمنا وأدوارنا وأفكارنا ورؤانا. فالمرحلة القادمة لا تُواجَه بالانكفاء وإسقاط الفكرة والتنزّه في الماضي؛ فالانكفاء يعني إفساح المجال لهيمنة الماضي بأخطائه وعثراته وأدواته. إنّ المستقبل يولد من رحم الحاضر، ولا يأتي من ماضٍ يتحوّل إلى سيّد الأيّام. لذا، علينا أن نتعلّم كيفيّة إضفاء الديمومة على ما صحّ من وسائلنا في العمل، ومراجعة ما لم يصحّ، وتصويب أخطائنا دون الخوف من النقد الذاتيّ.

 

لا شكّ في أنّ التعليم هو بوصلتنا نحو المستقبل، ويبقى من أهمّ وسائلنا نحو التطوّر والنماء، وهو أحد أهمّ أدواتنا نحو التغيير ووأد العنف وكلّ ما يشلّ إنسانيّة الإنسان. من خلال التعليم نحافظ على المبادئ والقيم الإنسانيّة النبيلة ونصون الهُويّة. من أجل ذلك، نحن بحاجة إلى معلّمات ومعلّمين يحوّلون صمت المنهاج إلى حركة ونطق، ويصيّرون ثباته إلى أجنحة تحلّق في أعالي الفضاء؛ يجعلون من غرفة الصفّ الجامدة المحدودة مختبرًا ومشغلًا ومسرحًا ومنتدًى للحوار والجدل.

 

لقد آن الأوان لتكون المدرسة مختبرًا حقيقيًّا للبحث والتجريب، ومشغلًا للابتكار، ومحترَفًا للإبداع، وفضاءً للتعلّم المستمرّ، وذلك من خلال تطوير منظومة الإبداع والابتكار، وتحويل صفوفنا إلى مشاغل ومحترفات، وبيوتنا إلى أماكن تعلّم داعمة تنبض بالحياة، وخلق شراكة كاملة بين البيت والمدرسة، وبين المدرسة والمصنع، وبين المدرسة ومراكز البحث والإبداع والاختراع والابتكار. من هنا، لا بدّ من أن تُبنى مناهجنا على طرح الأسئلة، لأنّ طرح الأسئلة والبحث المستمرّ عن الأجوبة هما اللّذان يجعلان من الإنسان متعلّمًا مرنًا خلّاقًا منفتحًا، واثقًا من نفسه عميقًا، كثيفًا قادرًا على الغوص إلى عمق الأشياء وفهمها، والربط بين القضايا، واستيعاب العلائق التي تحكمها. وهذا لا يتأتّى إلّا بمنهاجٍ ينحاز إلى العقل والإنسان؛ منهاج يُعلي من قيمة البحث والاستقصاء، ومن ثمّ، يُفرز تعليمًا لا يقدّم أفكارًا فقط، بل وحالات ومناخات أيضًا، تعليمًا لا يسرد بل يوقظ الأشياء ويفجّر أسرارها؛ ما يجعل الطالب يفكّر، لا ليكون هاجسُه النتيجة وحدها، بل والبحث والتعلّم الدائم أيضًا، يفكّر وهو يعي أنّه يجابه خطرًا ما وليس أن يكون حذرًا أو مطمئنًّا. هكذا نخرّج أجيالًا متسائلة مبدعة متمكّنة، غايتها المركزيّة الإنسان ونماؤه، وخير الإنسانيّة جمعاء.

لقد آن الأوان لتكون المدرسة مختبرًا حقيقيًّا للبحث والتجريب، ومشغلًا للابتكار، ومحترَفًا للإبداع، وفضاءً للتعلّم المستمرّ

لم يعد الكمّ معيارًا مهمًّا لأيّ منهاج، بل الكيف هو الأهمّ. لذا، على المدرسة أن توليَ اهتمامها للكيف من خلال التركيز على المفاهيم والمهارات الحياتيّة والقيميّة، وربط التعليم بالحياة، وإعادة تصميم كلّ ما يتّصل بما يسمّى التتابع والمدى في المناهج في المراحل الدراسيّة المختلفة، والابتعاد عن المعلومات التي تخاطب الذاكرة فقط؛ فالذاكرة تتحوّل أحيانًا إلى ذوقٍ قمعيّ يقود إلى خضوع أعمى، فيتحوّل إلى طغيان أعمى. علينا محاربة الطغيان والظلم والعنف بشتّى أشكاله؛ العنف الذي ينخر في جسد المجتمع فيتركه أنقاضًا. علينا تكريس مبدأ الحريّة وسيادة القانون والتعبير عن الرأي مهما كان مختلفًا، وهذا ما ينشئ جيلًا يعلي من قيمة الحوار، ويتّخذه الوسيلة الوحيدة لحلّ المشكلات.

 

مثلما أنّ هناك أهميّةً للبعد العاموديّ للمناهج، فإنّ للبعد الأفقي أهميّةً كبرى أيضًا؛ فتكامليّة المناهج في الصفّ الواحد ضروريّة جدًّا، إذ المال والاقتصاد لا يعملان بمعزلٍ عن الرياضيّات، ومسائلها يجب ألا تُقدّم بمعزل عن أحداث تاريخيّة، ومسارات سياحيّة داخل الوطن وخارجه. ويتعيّن أن يتعاون معلّم الأدب مع معلّم التاريخ؛ فكم من رواية استندت إلى التاريخ والأحداث الكبرى. بل إنّ معلّم الرياضة أيضًا يتكامل عمله مع معلّم الفيزياء. إن هذا التكامل يعطي للتعليم معنًى، فلا تعود الفيزياء، مثلًا، علمًا مجردًا منعزلًا عن فروع المعرفة الأخرى، ولا يبقى التاريخ مسجونًا في كتب التاريخ.

 

إنّ المنهاج الذي يتّكئ على المهارات والمفاهيم، ويتوسّل البحث والاستقصاء لتعلّم الطلبة لا بدّ له من تقييم غير تقليديّ؛ فليست الورقة والقلم هما السبيل الوحيد للتقييم. هناك طرائق عديدة للتقييم الذي يخاطب قدرات الطلبة وميولهم. على المعلّم أن يكون مبدعًا في أساليب تقييمه كما هو مبدع في طرائق تعليمه. فالبحث، والمشاريع، وإنتاج قصص قصيرة أو رواية أو قصيدة، وإخراج مسرحية، وإقامة معرض، وإجراء تجارب في فروع العلوم، وابتكار تطبيق إلكترونيّ، وإقامة مشاريع زراعيّة؛ كلّ هذه أساليب تقييم أجدى من ذلك التقييم الذي يختبر الذاكرة.

مدرسة المستقبل لا تفتح ذراعيها لطلبتها فقط، بل للمجتمع المحلّيّ أيضًا، فتكون مركزًا ثقافيًّا للتنوير والتغيير والبحث والاستقصاء لطلبتها والمجتمع على حدّ سواء

نعي جميعًا أن الجامعات العربيّة والغربية تُخرّج آلافًا من حملة شهادة البكالوريوس في اللّغات والعلوم والرياضيّات والإنسانيّات. ونحن على يقين بأنّ هؤلاء الخرّيجين يمتلكون معرفة في تخصّصاتهم، ولكنّهم لا يمتلكون بالضرورة الأدوات التي تجعلهم قادرين على الوقوف بثقة أمام طلبتهم. إنّ الحصول على المعلومة اليوم أمرٌ يسيرٌ جدًا. لذلك، فإنّ المعلّم الذي لا يمتلك أدوات البحث وأساليب المحاججة وطرائق التواصل، لن يستطيع الاستمرار في مجال التعليم أو سيشعر بالإحباط فيصبح عبئًا على عمليّة التعليم، وهذا ما لا نريد الوصول إليه إن شئنا تحويل العملية التعلّمية إلى حلقات نقاش وجدل وبحث مستمرّ. ولهذا، يتعيّن على المدارس تأهيل المعلّمين قبل دخولهم غرفة الصفّ، وتعيين المعلّم ذي الخبرة الطويلة كي يكون مرشدًا لمعلّم جديد؛ يأخذ بيده ويقدّم له من خبراته في المواقف المختلفة التي تعرّض لها. فالمعلّم ليس حافظة للمعلومات ينشرها في غرفة الصفّ، إنما هو ميسّر ومرشد. إنّنا بحاجة ماسّة إلى المعلّم الرفيق لطلبته، المحبّ الحاضن الداعم المنفتح الذي يتحاور معهم بكلّ شفافيّة، ويقبل الاختلاف ويحترم الآراء الأخرى؛ حينئذ يتخرّج طلبة يحترمون الاختلاف ويُعلون من ثقافة الحوار.

 

مدرسة المستقبل لا تفتح ذراعيها لطلبتها فقط، بل للمجتمع المحلّيّ أيضًا، فتكون مركزًا ثقافيًّا للتنوير والتغيير والبحث والاستقصاء لطلبتها والمجتمع على حدّ سواء، تُعقد فيها الندوات واللقاءات الثقافية، وتكون مكتبتها مفتوحةً لأبناء الحيّ، وتنبض قاعاتها بالحركة والأنشطة، وتمتلئ ملاعبها بمن يريد أن يمارس رياضته فيها. إنّ على المدرسة أن تكون منبرًا للطلبة، يتحاورون فيه بكلّ شفافيّة وجرأة، وتوفّر لهم كلّ ما من شأنه أن يعينهم على الانطلاق بعيدًا، كي يسيروا على طرق يخلقونها بأنفسهم، لم تُرسم لهم مسبقًا. بهذا نبني مواطنًا مسؤولًا منتميًا منتجًا يخدم مجتمعه بحبّ وشغف.

 

المدرسة كائن اجتماعيّ يزدهر ويكبر بالمجتمع وأفراده المبدعين. لذا، من الضروري أن تبني المدرسة شراكات كاملة مع المفكّرين والمصمّمين والشعراء والأدباء والباحثين والمؤرّخين والمتخصّصين في الاقتصاد والمال وروّاد الأعمال، ليصبحوا شركاء لها في تحضير الطلبة للمستقبل. فضلًا عن ذلك، ثمّة ضرورة لعقد شراكات مع مؤسسات المجتمع المدنيّ والقطاع الخاصّ، لكي يتبنوا إبداعات الطلبة ويعملوا على دعمها وتطويرها، فقد يبدأ الطلبة مشاريعهم الإنتاجيّة وهم ما زالوا على مقاعد الدراسة.

 

إن مدرسة المستقبل بحاجة إلى قائد متفتّح قابل للاختلاف، بل ويحتفي به؛ فالمختلف يحيينا، يجعلنا في يقظة دائمة، يدلّنا على أخطائنا، ويدفعنا إلى أن نكون أكثر كمالًا وأن نتجاوز أنفسنا. إنّه بمعنى أكثر دقة ضوؤنا الآخر. إن القائد الحقيقيّ يحتاج إلى رفاق وشركاء، لا تابعين. الشركاء قادرون على الحوار والجدل. من هنا، يزداد العمل غنًى؛ فالقائد يعي أنّ التاريخ لا يُصنع من فوق، وإنّما يُصنع على أيدي البشر الرائين الخلّاقين، فقد يصل الواحد منّا بسرعة عندما يسير وحده، ولكنّه مع الفريق يقطع مسافة أطول، وتلك هي الرحلة الأجمل. فكما قيل: الطريق إلى البيت أجمل من البيت نفسه.

نحو مدرسة المستقبل