متى يكون تدخّل الأهل في قرارات الأطفال ضروريًّا؟
متى يكون تدخّل الأهل في قرارات الأطفال ضروريًّا؟

تعدّ التربية عمليّة توازن بين الحرص على توجيه الطفل من ناحية، وبين منحه مساحته الخاصّة للنموّ من ناحية أخرى. فالآباء والأمّهات يملكون الخبرة الحياتيّة المطلوبة لمساعدة أطفالهم في تجنّب الأخطاء واتّخاذ قرارات صحيحة، ولكنّ الأطفال من جانبهم يحتاجون إلى فرص لتعلّم الاستقلاليّة، وبناء مهارات الحكم الذاتيّ. 

لذا، أصعب ما في الأمر تقدير متى يكون تدخّل الأهل ضروريًّا، ومتى يتجاوز حدوده ويتحوّل إلى سيطرة زائدة. في هذه المقالة سنستكشف متى يجب على الآباء والأمّهات المساعدة في تشكيل قرارات أطفالهم، ومتى عليهم ترك القرار في يد الأطفال، وطرق تحقيق التوازن المطلوب بين التوجيه البنّاء والتحكّم المفرط. 

  

ما أسباب أهمّيّة مشاركة الأب والأمّ في قرارات الطفل؟ 

الإجابة بسيطة، فالأطفال لا يولدون بالمعرفة أو المهارات اللازمة للتعامل مع الخيارات المعقّدة في الحياة، لذا فهم يعتمدون على الوالدين - خصوصًا في السنوات الأولى - في اكتساب القيم والخبرات، إلى جانب الأمان العاطفيّ والقيم والتوجيه. وهنا تكون مشاركة الوالدين ضروريّة في مجالات عديدة، منها على سبيل المثال: 

- النموّ الأخلاقيّ: بما يشمل تعلّم الصواب والخطأ، وبالتالي مساعدة الأطفال في فهم عواقب أفعالهم. 

- ضمان السلامة: بما يشمل تعليم عواقب السلوكيّات الخطرة، مثل عبور الشارع بمفردهم، أو ركوب الدرّاجة من دون خوذة الأمان. 

- السلامة على الإنترنت: بما يشمل تحديد وقت استخدام الشاشة، وتصفّح الإنترنت تحت إشراف الأب والأمّ. 

- اتّخاذ قرارات الرعاية الصحّيّة: بما يشمل تلقّي التطعيمات وتناول الأدوية وزيارات الطبيب. 

- توفير الدعم العاطفيّ: بما يشمل توفير النصائح لبناء الصداقات، ومواجهة التحدّيات المدرسيّة، والتعامل مع التغيّرات العاطفيّة. 

- تحديد الأهداف: بما يشمل مساعدة الأطفال في اكتشاف اهتماماتهم، وتحديد نقاط قوّتهم، ووضع أهداف واقعيّة للدراسة والحياة. 

  

في هذه السياقات وغيرها، تكون مشاركة الوالدين شديدة الأهمّيّة، للحرص على نموّ الأطفال الصحّيّ، مع الانتباه إلى أنّ حاجة الأطفال إلى مساحة أكبر لبناء آرائهم وممارسة أحكامهم الخاصّة، تزداد مع الوقت، وبالتالي يمكن للوالدين إشراكهم تدريجيًّا في القرارات المختلفة. 

  

متى تتحوّل المشاركة إلى سيطرة؟ 

تنبع مشاركة الوالدين في حياة أطفالهم من الحبّ والرعاية، إلّا أنّها قد تنزلق أحيانًا لتتحوّل إلى حماية زائدة أو سيطرة مفرطة، مثل ما يحدث عند: 

- اتّخاذ جميع القرارات نيابة عن الطفل، من دون إعطائه فرصة للمشاركة. 

- التحكّم الدقيق في كلّ تفاصيل يوم الطفل. 

- ممارسة ضغوط على الطفل لتحقيق أحلام وتطلّعات الأب والأمّ، والتي تتعارض مع تفضيلاته وميوله. 

- تأنيب الطفل أو معاقبته عندما يتّخذ قرارات مستقلّة. 

وهنا تكون النتيجة أنّ الأطفال سيعانون تدنّي احترام الذات والقلق، ويصبحون أشخاصًا مهووسين بإرضاء الآخرين، يسعون باستمرار لكبت تميّزهم من أجل التوافق مع الناس، أو أنّهم سيذهبون إلى الاتّجاه المعاكس، ويصبحون أشخاصًا متمرّدين، يقاومون أيّ شكل من أشكال السلطة. فالهدف توجيه الطفل، وتزويده بالأدوات اللازمة ليعيش حياة سعيدة، لا إملاء ما عليه فعله في كلّ المواقف. 

   

متى يجب أن يترك الأب والأمّ حرّيّة الاختيار للطفل؟ 

تكمن أهمّيّة هذا السؤال من أنّ معرفة متى يتراجع الوالدان ويتركان للطفل مساحة أكبر، لا تقلّ أهمّيّة عن معرفة متى يجب أن يتدخّلا. فكما قلنا، الإفراط في التدخّل قد يعوق نموّ الطفل، ويحرمه من تعلّم مهارات المرونة واتّخاذ القرارات والمسؤوليّة. وسنعرض تاليًا بعض المجالات التي ينبغي على الآباء والأمّهات منح أطفالهم مزيدًا من الاستقلاليّة فيها: 

1. الاهتمامات والهوايات الشخصيّة: يجب على الوالدين ترك الأطفال يختارون الأنشطة التي يحبّونها، حتّى لو لم تكن الأنشطة التي يفضّلها الوالدان. على سبيل المثال، قد يريد الوالد الشغوف بالرياضة أن يكون طفله مثله، بينما يفضّل الطفل الفنون أو الموسيقى. 

2. الصداقات والخيارات الاجتماعيّة: يجب على الوالدين تقديم التوجيه للطفل بشأن بناء العلاقات مع أقرانه، ولكن ينبغي السماح له باختيار أصدقائه وفهم الديناميكيّات الاجتماعيّة، فمنح الطفل الشعور بالثقة في إدارة هذه الخيارات، يعمل على بناء شخصيّة سويّة على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ. 

3. القرارات اليوميّة: تكمن أهمّيّة منح الحرّيّة للأطفال في اتّخاذ القرارات اليوميّة، مثل ما يرتدونه، أو كيف يزيّنون غرفهم، أو كيف يمشّطون شعرهم، في أنّها تعمل على تمكين الأطفال، وتمنحهم شعورًا بالاستقلاليّة والاعتداد بالنفس. 

4. ارتكاب الأخطاء: يجب على كلّ أب وأمّ السماح للأطفال بارتكاب الأخطاء، البسيطة منها بالتأكيد، واختبار عواقب أفعالهم، لأنّها من أفضل الطرق لتعلّم مهارات الحياة. فبينما يمكن للوالدين تقديم المساعدة في حلّ المشكلات، سيؤدّي التدخّل لإنقاذ الطفل من كلّ إخفاق صغير إلى حرمانه من اكتساب مهارات المرونة والثقة بالنفس. 

 

كيف نوازن بين المشاركة والاستقلاليّة؟ 

على الوالدين بذل جهد كبير وممارسة وعي ذاتيّ، من أجل تحقيق التوازن الصحّيّ بين التدخّل في قرارات الأطفال ومنحهم الاستقلاليّة. وسنقدم لكم بعض الاستراتيجيّات الفعّالة للوصول إلى حالة التوازن المطلوبة: 

1.  ممارسة الاستماع الفعّال: عندما تجد أنّ طفلك قد اتّخذ قرارًا، مهما بدا لك هذا القرار خاطئًا، حاول أن تستمع إليه أوّلًا، واطرح عليه أسئلة مفتوحة لتتمكّن من فهم أفكاره ومشاعره التي جعلته يتّخذ هذا القرار، ليتقبّل منك النصيحة أو الحلّ الذي تقدّمه إليه. 

2. قدّم لطفلك خيارات لا أوامر: إذا كنت تريد أن يقوم طفلك بإنجاز أمر ما، قم بصياغته في شكل خيارات وليس أمرًا، مثل: "هل تريد إنجاز واجبك المنزليّ الآن أم بعد الغداء؟" النقطة هنا أنّ إعطاء الطفل خيارات في حدود معيّنة يعزّز استقلاليّته، مع الحفاظ على نظام صحيح لحياته. 

3. اشرح أسباب القواعد: يجب أن تدرك أنّ احتمال تعاون الأطفال يزداد، عندما يفهمون الأسباب الكامنة وراء القواعد في المنزل والقرارات التي تتّخذها. 

4. تعديل دور الوالدين مع نموّ الطفل: يجب أن تتطوّر مشاركة الأب والأمّ في حياة الطفل مع مرور الوقت، فمثلًا قد يحتاج الطفل في الخامسة إلى إشراف دقيق، بينما يحتاج في الخامسة عشرة إلى مساحة لبناء استقلاليّته. بكلمة أخرى: التراجع التدريجيّ لدورك، يسمح لطفلك بممارسة اتّخاذ القرارات ضمن بيئة آمنة. 

5. احترام الفرديّة: يجب إدراك أنّ الطفل ليس امتدادًا لك، حتّى لو كان يشبهك في الشكل والاهتمامات. يجب عليك دعم شخصيّته الفريدة، وتعزيز مواهبه وأحلامه، حتّى لو لم تتوافق مع شخصيّتك. 

نستخلص من هذا أنّ التربية لا تعني التحكّم في كلّ قرار يتّخذه طفلك، بل هي عمليّة متدرّجة تهدف إلى إعداده لاتّخاذ قراراته الخاصّة بحكمة. وهذا الأمر يعني معرفة متى تتدخّل بقوّة، ومتى تقدّم توجيهًا بلطف، ومتى تأخذ مقعد المتفرّج وأنت واثق أنّ طفلك سيتّخذ القرار الصحيح. 

فتدخّل الآباء والأمّهات بشكل صحّيّ وسليم في حياة أطفالهم، يوفّر لهم الأمان والحبّ، بالتوازي مع إتاحة مساحة مناسبة لهم ليكبروا ويصبحوا أفرادًا واثقين من أنفسهم، وقادرين على إنجاز ما يريدون. وتذكّر دائمًا أنّك باحترام استقلاليّة طفلك، فإنّك تُظهر له ثقتك به وإيمانك بقدراته، ما يُعزّز علاقتكما، ويُجهّزه لمرحلة البلوغ. 

 

المراجع

https://digitalcommons.unf.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=2091&context=etd 

https://www.hellooha.com/articles/1776-%D8%AA%D8%B3%D9%84%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1 

https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC6279730/#:~:text=%E2%80%9CYou%20become%20involved%20and%20informed,of%20their%20child's%20health%20care