لنغلق الكتب ونطوّر المهارات
لنغلق الكتب ونطوّر المهارات
ماهر قاسم منصور | مدرّس بكلوريا دولية- قطر

مقدّمة

اجلسوا في أماكنكم، افتحوا الكتاب، انتقلوا إلى الصفحة التالية، اقرأوا النصّ، استمعوا جيّدًا، هيّا نعمل على أسئلة الدرس... هكذا تمرُّ معظم حصصنا، وصفةٌ طبخناها حتّى مللنا منها، وركودٌ أصابَ العمليّة التعليميّة التي لم تتغيّر كثيرًا منذ الثّورة الصناعيّة في نهايات القرن الثامن عشر، والذي خلّف روتينًا تعليميًّا طُبِّق في حينه لتهيئة قوى عاملة للعمل في المصانع. فهل ما زلنا نُعِدُّ طلّابنا للعمل في المصانع؟ وكيف يمكننا إعداد جيلٍ لمستقبلٍ نجهل معالمه؟ ماذا يحتاج الطلّاب للمنافسة في سوق العمل في القرن الواحد والعشرين؟

أهدف من المقال إلى تقديم فكرة نهج التعلّم بالمشاريع، والتعريف بخطوات تطبيقه وفوائده، لتطوير المهارات والمعارف لدى الطلّاب بطريقة ممتعة وديناميكيّة، تُعيد الروح والمذاق إلى صفوفنا ومدارسنا، ولتطبيق تجارب تعلُّم تُحاكي الواقع والحياة العمليّة، وتحتاج إلى مهارات تفكير وحلّ مشكلات وتواصل وعمل جماعيّ وإدارة ذاتيّة، وهي المهارات التي يحتاجها الطالب في جميع مراحل مسيرته الأكاديميّة والمهنيّة. 

وعليه، أعرض في هذا المقال أسلوب التعلّم بالمشاريع عن طريق تجربة عمليّة مشوّقة طبّقتُها مع طلّاب الصفّ الرابع ابتدائيّ في الأكاديميّة العربيّة الدوليّة، وكانت هذه التجربة التعلّميّة واحدة من تجارب عديدة عملتُ عليها معهم خلال العام الدراسيّ، ومن الجميل بهذا الأسلوب والنهج إمكانيّة استخدامه في أيّ نوع من المدارس، فضلًا عمّا يتضمّنه من متعة للمعلّم والطالب، كما يمكن تصميم المشروع بطريقة يُكتفَى فيها بالمصادر المتوفّرة لدى أيّ مدرسة.

 

التعلّم بالمشاريع واستراتيجيّة التخطيط له

 

مفهوم التعلّم بالمشاريع

يعرّف Krajcik وBlumenfeld (2005) التعلّم بالمشاريع بأنّه تعلّم مبنيّ على ظرف أو حالة، تدفع الطلّاب إلى إيجاد حلول لمشكلات حقيقيّة وذات معنى، بطريقة تشابه طريقة عمل علماء الرياضيّات أو الكيمياء أو التاريخ أو المهندسين أو الكتّاب أو غيرهم من المهنيّين، ويَعتبِر الباحثان أنَّ الغرفة الصفّيّة التي تطبّق التعلّم بالمشاريع تتيح المجال أمام الطلّاب لطرح الأسئلة واقتراح الحلول ووضع النظريّات والتفسيرات ونقاش الأفكار وتجربة الأفكار الجديدة وتطبيقها، ومن الجدير بالذكر هنا ما أشار إليه الباحثان من حصول الطلّاب في الصفوف التي تُطبِّق التعلّم بالمشاريع فيها على درجات أعلى من الطلّاب في الصفوف الاعتياديّة.

كما يمكن تعريف التعلّم بالمشاريع، وفق ما قدّمه كلّ من Blumenfeld, et al. (1991)، وKrajcik, et al. (1994)، بأنّه نهج عامّ لتصميم بيئة تعلّميّة تحتوي خمسة عناصر تتمثّل بالآتي:

1. البدء بسؤال محرّك أو إشكاليّة يجب إيجاد حلّ لها. 

2. يعمل الطلّاب على حلّ هذه الإشكاليّة عن طريق البحث والتساؤل، بحيث يتعلّمون أفكارًا محوريّة في مجال ما، ويطبّقونها.

3. يشارك الطلّاب والمعلّمون وأفراد من المجتمع في العمل التعاونيّ، لإيجاد حلول للإشكاليّة.  

4. أثناء خوض الطلّاب عمليّة البحث والتساؤل، يتمّ دعمهم باستخدام تقنيّات تعليميّة لتحقيق إنجازات لا يستطيعون عادةً تحقيقها بمفردهم. 

5. ينتج الطلّاب منتجات حسّيّة ملموسة نتيجةَ عملهم على الإشكاليّة.

 

تخطيط مشروع أنموذجيّ

ارتكز مشروع المقال على وحدة بحثيّة متعدّدة التخصّصات حول موضوع الطاقة، تشمل الدراسات الاجتماعيّة والعلوم واللغة. خطّط معلّمو الصفّ الرابع للمشروع قبل البدء في الوحدة البحثيّة، وكان الهدف من الوحدة تمكين الطلّاب من معرفة مجموعة من المفاهيم العلميّة، كالطاقة والطاقة المتجدّدة ومصادر الطاقة وتحوّلات الطاقة، ومن وصفها ووصف تحوّلاتها وتصنيفها، بالإضافةِ إلى إيجاد الروابط بين هذه المفاهيم والحياة العمليّة والتفكير بحلولٍ لمشكلات معاصرة، فضلًا عن تطوير بعض المهارات الاجتماعيّة، كالعمل ضمن مجموعات واتخاذ أدوار متعدّدة وإدارة الوقت، وبعض مهارات التواصل، كاستخدام مصطلحات جديدة ضمن سياقات مختلفة، وبعض مهارات العرض.

اخترنا أسلوب التعلّم بالمشاريع سبيلًا لتحقيق هذه الأهداف، لقدرته على تطوير المهارات والمعارف عند الطلّاب بطريقة أصيلة وممتعة ترتكز على الممارسة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المشروع صُمِّم لتقييم نهائيّ شامل، تتخلّله مجموعة من المهارات، ولكن، يمكن كذلك تصميم المشاريع بطريقة محدّدة أكثر، قد تهدف إلى تطوير مهارتين أو ثلاث مهارات فقط، كأن يركّز المشروع على مهارات التواصل أو مهارات اللغة. 

تعلّم الطلّاب، قبل تنفيذ المشروع النهائيّ، بأساليب واستراتيجيّات مختلفة، عن أنواع الطاقة وتحوّلاتها وأثرها في البيئة، واكتشفوا ممارسات الطاقة الصديقة للبيئة، كما تدرّبوا على مهارات يحتاجونها في المشروع وفي حياتهم العمليّة، مثل مهارات البحث والإدارة الذاتيّة وبعض المهارات الاجتماعيّة التي تقتضي منهم العمل ضمن مجموعات. فكان لا بدّ من التخطيط للمشروع قبل أسابيع من تطبيقه، وذلك لتدريب الطلّاب على المهارات التي سيستخدمونها في المشروع. يتمّ ذلك بعقد نشاطات صفّيّة ذات أهداف ومخرجات تعلّم واضحة ومرتبطة بالمهارات، مع ضرورة نمذجة استخدام هذه المهارات أمامهم، وتطبيقها معهم، وصولًا إلى التأكّد من قدرتهم على تطبيقها بشكل مستقلّ، أو شبه مستقلّ.

 

 تصميم المشروع ومراحل تنفيذه

 

تهيئة الطلّاب لاستكشاف البيئة

أعددتُ مع معلّمي الصفّ الرابع وصفًا جذّابًا للمهمّة المطلوبة من الطلّاب، حيث استخدمنا استراتيجيّة "RAFTS" القائمة على تحديد دور المتعلّم، والجمهور، وصيغة المنتج، والموضوع، والأفعال المؤثّرة المستخدمة في إنجاز المهمّة. فطلبنا من الطلّاب أن يعملوا ضمن مجموعات كمهندسين، وأن يقدّموا عرضًا ومخطّطًا ومجسّمًا إلى إدارة المدرسة، يوضّحون فيه الممارسات التي تؤدّي إلى تبذير الطاقة في المدرسة، ليعرضوا بعد ذلك عملهم وكيفيّة تطبيقه. وهنا وزّعنا وقت المهمّات بواقع زمنيّ مدّته خمس حصص غير متتابعة (250 دقيقة)، كما هو مُبيَّن هنا:

المهارات

وقد شاركنا الطلّاب معايير تقييم عملهم في هذا المشروع، بتقديم قائمة تدقيق وسلّم تقييم اشتمل على معايير مختلفة:

المهارات

 

ناقشنا هذه المعايير والتوقّعات مع الطلّاب وفق نماذج عمّا طُلِب إليهم، فأبدوا حماسهم الشديد للبدء بالمشروع، وتخيّلوا أنفسهم علماء ومهندسين يقدّمون مقترحات لإدارة المدرسة لإحداث تغيير بيئيّ حقيقيّ.

 

مراحل تنفيذ المشروع

بعد التأكّد من جاهزيّة الطلّاب ومعرفتهم بالمطلوب، وزّعناهم ضمن مجموعات وفق مهاراتهم وقدراتهم، فبدأوا العمل على المرحلة الأولى من المشروع التي هدفنا من خلالها إلى تطوير قدرتهم على تحديد أنواع الطاقة واستخداماتها ووصفها وتصنيفها. وعليه، تنقّل الطلّاب في أرجاء المدرسة مستمتعين بما ينجزونه، فتعاونوا على تحديد الأماكن والأدوات التي تستخدم فيها الطاقة، وبادروا إلى تصوير الأجهزة المختلفة ورسمها وتدوين ملاحظاتهم حولها. بعد ذلك، كانَ على كل مجموعةٍ أن تَصِفَ تحوّلاتِ الطاقة في هذه الأجهزة وصفًا علميًّا، وكنّا، المعلّمين، نتنقّل بين المجموعات لنستمع إلى نقاشاتهم وعملهم، ولننظر في ملاحظاتهم ونطرح عليهم الأسئلة المختلفة، لتقييم مدى تعلّمهم المفاهيم. 

انتقل الطلّاب بعد ذلك إلى مرحلة وضع خطّة العمل، حيث كان عليهم أن يكوّنوا قائمة ممّا لا يقلّ عن ست ممارسات صديقة للبيئة، يمكن للمدرسة تطبيقها، وذلك بناءً على نشاطات تعلّم سابقة ومصادر خارجيّة أخرى. لاحظتُ، أثناء متابعتي عمل المجموعات، أنّ الطلّاب كانوا يتناقشون بكلّ حماس مناقشة علميّة، كمجموعة من المهندسين والعلماء، حول الممارسات المختلفة التي يريدون طرحها على المدرسة، فكانوا يتّفقون في بعض الأفكار ويختلفون في بعضها الآخر، انطلاقًا من أسس علميّة، أو من تكلفة تطبيقها، أو من إمكانيّة تنفيذها في مدرستنا. فكنّا نُدهَش ونبتسم بالأفكار التي يناقشها الطلّاب، إمّا لغرابتها أو لذكائها وحنكتها، إذ اقترح أحد الطلّاب تركيب توربينات كهربائيّة داخل بالوعة المياه في المغاسل، لكي نولّد طاقة كهربائيّة من حركة التوربين عند مرور الماء. واقترح آخر استبدال جميع مصابيح الإنارة بمصابيح "LED" صديقة للبيئة، مهما كانت التكلفة. وأبدت طالبة ثالثة اقتراحًا بمجيء جميع الطلّاب والمدرّسين إلى المدرسة على الدرّاجات الهوائيّة لتوفير البنزين من المواصلات، نظرًا لما يسبّبه من تلوّث. كلّها أفكار عديدة وعجيبة، يخلو بعضها من الدقّة العلميّة، ما يتطلّب الإشارة إليها بكلِّ هدوء لتعديل أيّ مفاهيم خاطئة. 

عمل الطلّاب في المرحلة الأخيرة على تحضير العرض للمدرسة وفق المعايير الموضّحة سابقًا، فوزّعوا العمل في ما بينهم من أجل الانتهاء في الوقت المطلوب، ثم بدأوا بالتدرّب على العرض. وفي نهاية العمل قدّمت المجموعات كلّ ما جمعته من عروض "باوربوينت" و"بوسترات" ورسوم بيانيّة وجداول، وأجابت على الأسئلة المتعلّقة بعملهم على المشروع ومخطّطاتهم ومقترحاتهم التي يمكن تطبيقها فعليًّا، وكانوا يتحدّثون بثقة ووضوح وتسلسل وحماس، وأظهروا تطوّرًا كبيرًا في المهارات والمعرفة التي اكتسبوها خلال الوحدة. ويمكن هنا أخذ المشروع إلى مرحلة متقدّمة أكثر، بحيث تعرض المجموعات نتائجها على إدارة المدرسة بهدف إحداث التغيير الحقيقيّ، وإشعار الطلّاب بقدرتهم على إحداث التغيير الفعليّ في مدرستهم.

 

مخرجات المشروع وتحدّيات تطبيقه

 

التقييم والتغذية الراجعة

أنهى الطلّاب عملهم، بعد تقديم العروض، بتقييم بعضهم بعضًا، وكان تقييم الأقران دقيقًا ومبنيًّا على تعزيز الإيجابيّات، مع إعطاء نصائح لتطوير العمل، وذلك نتيجة تدريبنا الطلّاب على مهارة التقييم تدريبًا مستمرًّا خلال العام الدراسيّ. أمّا نحن، المعلّمين، فقدّمنا التغذية الراجعة لكلّ مجموعة ولكلّ فرد في المجموعة، بناءً على إسهامه وأدائه أثناء العمل والعرض. وختمنا المشروع بمنح كلّ طالب بعض الوقت للتأمّل في مشروعه من بدايته إلى نهايته، ووجهناهم للتحدّث عن تجربة التعلّم ونتائجها والمهارات التي عملوا عليها وطوّروها. فتأمّل الطلّاب في مشاريعهم وحدّدوا مجالات التطوّر، كما أبدى عدد منهم حماسه للعمل على تطبيق هذه التغييرات في المنزل. 

 

تحدّيّات التعلّم بالمشاريع

واجهتُ عددًا كبيرًا من التحدّيات أثناء عملي على التعلّم بالمشاريع خلال السّنوات الأربعة الماضية، فمن المشكلات التي واجهتني، والتي قد تواجه أيّ معلّم أثناء تطبيق هذا النّوع من التعلّم، عدم تمكّن الطلّاب من مهارات أساسيّة وضروريّة لتطبيق المشروع، ولذلك، فمن الضروريّ التخطيط للمشروع بدقّة والتأكّد من تدريب الطلّاب على جميع المهارات الأساسيّة التي يقتضيها المشروع. ومن التحدّيات الأخرى التأكّد من مشاركة جميع أعضاء المجموعات في عمليّة التعلّم، وذلك عن طريق تهيئة الطلّاب نفسيًّا والتأكيد على ضرورة المشاركة، فضلًا عن متابعة عمل المجموعات عن قرب. أمّا التحدّي الأكبر فهو الوقت اللازم لتطبيق المشروع تطبيقًا صحيحًا، إذ إنّ معظم المشاريع تحتاج إلى عدد من الحصص قد يزيد عن ستّ حصص، وفي الوقت نفسه، إذا أعطينا الطلّاب وقتًا أكثر من اللازم فقد يضيّعون الوقت ويفقدون تركيزهم على المشروع، بالإضافة إلى ضرورة تدريب الطلّاب على مهارات إدارة الوقت وتنظيم عمل المجموعات بشكل مستقلّ. وقد يواجه بعض المدارس تحدٍّ من نوع آخر، يتمثّل في محدوديّة المصادر والأدوات اللازمة، فتصميم كلّ مشروع يستلزم الأخذ بعين الاعتبار البيئة المحلّيّة والموارد المتوفّرة فيها، مع الإشارة إلى إمكانيّة الاستعاضة عن أيّ مصدر بغيره من المصادر البسيطة والأساسيّة. 

 

خاتمة

في النهاية، لماذا أنصح بتجربة هذا النوع من التعلّم؟ لأنّه تعلّم حقيقيّ طويل الأمد يبقى مع الطالب لفترة طويلة. لماذا أنصح المعلّمين بتجربة هذا النوع من التعلّم؟ لأنّه ممتع وفيه تحدٍّ كبير، ويعزّز شغف المعلّم بالتعليم، ويُشعره بالفخر بطلّابه. لماذا؟ لأنَّ هذا ما يحتاجه طلّابنا، وما تحتاجه مدارسنا ومجتمعاتنا طلّاب قادرون على التفكير الإبداعيّ، وعلى العمل مع الآخرين، وعلى عقد النقاش وحلِّ المشكلات المختلفة التي تواجه عالمنا، أليسَ هذا هدف التعليم والتعلّم؟

 

المراجع

Blumenfeld, P., et al. (1991). Motivating project-based learning: Sustaining the doing, supporting the learning. Educational Psychologist. (26). 369-398.

Krajcik, J., et al. (1994). A collaborative model for helping middle grade teachers learn project-based instruction. The Elementary School Journal. (5). 483–479.

Krajcik, J., & Blumenfeld, P. (2005). Project-Based Learning. In R. Keith Sawyer (ed), The Cambridge Handbook of the Learning Sciences. Cambridge Handbooks in Psychology.  http://daleydoseoflearning.weebly.com/uploads/1/8/7/7/18774020/chapter_19_pbl_kraichik.pdf