لماذا نخاف من اللّعب؟
لماذا نخاف من اللّعب؟
2023/10/01
زينة خوري | مستشارة متخصّصة في مجال البحوث والمتابعة والتقييم - الأردنّ

لطالما شغلني تعليم أطفالي، حالي حال الكثير من الأمّهات والآباء العرب. فنحن تربّينا على أهمّيّة التعليم، وعلى أنّ التعليم سلاح واستثمار، وأنّ التعليم الجيّد طريقنا إلى مستقبل مشرق، وغيرها الكثير من القيم المرتبطة بالتعليم. وبينما أتّفق مع أهمّيّة التعليم ورحلة التعلّم، إلّا أنّني أرى أنّنا أثقلنا هذا الاستثمار بمتطلّبات ومقرّرات وتوقّعات صارمة، الأمر الذي زاد من تأطيره، وقلّل للأسف من المتعة المرتبطة به.

نصب جلّ اهتمامنا - أهلًا وتربويّين - على الأنظمة التي تؤطّر عمليّة التعليم. وتغيب عن أذهاننا في معظم الأحيان، رحلة التعلّم. فتجدنا في الكثير من جلساتنا الاجتماعيّة وأحاديثنا الجانبيّة عن التعليم، نتساءل عن النظام المتّبع: هل هو وطني أم دوليّ؟ وما هي المقرّرات المستخدمة؟ وعن صرامة النظام وكثرة الواجبات أو الامتحانات (أو قلّتها)، وغيرها من المعايير والأسئلة. ولكن، في وسط كلّ ذلك، أين تقع "المتعة"؟ وهل تجد ركنًا أساسيًّا في أذهاننا وأسئلتنا عن التعليم؟ وإلى أي مدى نتساءل عندما ننبش تفاصيل البرامج التعليميّة التي ينتمي لها أطفالنا: هل تستمتع طفلتي في هذه الرحلة؟ كيف تشعر عندما تتحدّث عن المدرسة وعندما تستفيق في الصباح؟ هل هي فعلًا فرِحَة في هذه الرحلة، والتي ستستمرّ لما يزيد عن ثمانية عشر عامًا من حياتها؟

 

لفت ابني ذو السنوات الأربعة انتباهي إلى أهمّيّة المتعة وضرورة اللعب كنموذج تعلّمي محكَم ومتين، ولا سيّما خلال فترة الحجر أيّام الكورونا. فبالرغم من اعتقادي بأنّني شخص مطلع وذو فهم بالأنظمة التعليميّة، إلّا أنّ ابني ذا السنوات الأربعة في ذلك الوقت، أثبت لي بأنّ هناك مكونًا أساسيًّا قد لا يكون حاضرًا في فهمي ومعادلتي. فعندما أستذكر تلك الفترة - والتي زادت من قربنا كأهل من تفاصيل عديدة في حياة أطفالنا - أستذكر بشكل رئيس "جاطات" الماء وسطل التراب، والنباتات والحشرات في الحديقة، وزيارة راعي الأغنام (مع خرافه وكلبه وحماره)... كانت هذه المكونات أساسيّة في فقرات حياتنا اليوميّة، تتبعها قصة أو رسمة أو حتّى أغنية. وعندما تجرّأت وطلبت منه يومًا أن يحضر الحصّة المخصّصة له من المدرسة عن بعد، نظر لي باستهزاء وقال لي: "بَسْ أنا بدي ألعب". لن أنكر بأنّه راودتني تخوّفات من أن يكون ابني ذا مستوى أقلّ من أقرانه عندما يعود إلى الغرفة الصفّيّة، وأن يجد صعوبة بالجلوس لساعات عدّة، أو أن يعدّ للعشرين ويميّز الحروف وغيرها الكثير. إلّا أنّني تفاجأت لاحقًا من قدرته على ربط المعارف المختلفة، وطرح الأسئلة المتعمّقة واستخدامه للقياس والأرقام بشكل مختلف؛ فهو قد لا يجلس لفترة طويلة لنسخ قطعة أو حلّ ورقة عمل، إلّا أنّه يجلس بانتباه وتركيز عالٍ لتشكيل فراشة من الورق أو سيّارة من المكعّبات، أو حتّى لمحاولة صنع ألوان من أزهار الحارة أو أوراق الشجر المتناثرة في حديقة المنزل أو حدائق الجيران. فكان ابني زيد وفضوله هما الوسيط الذي من خلاله تعرّفت إلى جيراني وحارتي.

استوقفني هذا الشغف الممزوج بالمتعة، وأصبح همّي أن أجد صرحًا تعليميًّا يرعى وينمّي هذا الشغف. ومع أنّنا قد نعتقد بأنّ اهتمامات الأطفال في عمر مبكر، غير أساسيّة في الخيارات التعليميّة التي نأخذها كأهل (زاعمين أنّ الاهتمام الحقيقيّ يأتي لاحقًا)، إلّا أنّني كنت أمام قرار واضح من ابني: إن لم يكن اللعب جزءًا من العمليّة التعليميّة فأنا غير مهتمّ بالذهاب!

فنحن في أغلب الأحيان، نجد أنفسنا نفصل بين اللعب والتعليم، سواء في مدارسنا أو منازلنا أو حتّى عقولنا: فإمّا أن تلعب أو أن تدرس! وإذا كان اللعب جزءًا من العمليّة التعليميّة، يصبح التعليم هزيلًا وضعيفًا وبلا بوصلة، خصوصًا أنّنا تربيّنا على أهمّيّة المقرّرات والمحتوى كبنية أساسيّة في التعليم. وإن كانت هذه العناصر مهمّة، إلّا أنّ إضافة ركيزة أخرى إلى جانب المحتوى – ألا وهي اللعب – كنهج تعلّم، تزيد من أثر التعليم وجودته، لا العكس، وتعزّز من قيمة المتعة أساسًا للتعلّم، والشغف محرّكًا له.

 

وبالإضافة إلى المتعة والشغف، تؤكّد الدراسات اليوم على أهمّيّة اللعب في إعداد الأطفال للمستقبل. فاللعب يعزّز من قدرات الأطفال على التواصل مع الآخرين، وقدرتهم على حلّ المشكلات بطرق فاعلة وخلّاقة. كما يعزّز اللعب من ثقة الأطفال بأنفسهم، ويحفّز الإبداع والابتكار بشكل مستمرّ، وهي جميعها مهارات أساسيّة نطمح إلى أن يكتسبها أبناؤنا ليتمكّنوا من مواجهة غدٍ سريع التغيّر والتحوّل.

للأسف، حيَّدنا – نحن الأهل والتربويّون (سواء مع سبق الإصرار أو عدمه)، اللعب تدريجيًّا، وركّزنا جلّ اهتمامنا على المحتوى التعليميّ، وفصلنا بين التعليم كمحتوى والتعلّم كرحلة، ورفضنا ضمنيًّا في كثير من مؤسّساتنا التعليميّة اللعب كنهج أساسيّ للتعلّم.

 

فلماذا نخاف من اللعب؟

ولماذا ما زلنا كأهل نطالب مدارس أطفالنا بتقليص اللعب وتحديده في فترات معيّنة فقط؟ ألم يحن الوقت لأن نجعل من الملعب والحديقة والمزرعة مساحات تعلّم أساسيّة، وأن ندمج اللعب والمتعة في عمليّة التعلّم بدلًا من تعزيزها في أركان وأوقات محدّدة فقط؟

في رحلتي كأمّ، تعلمت أمرين رئيسيّين من أطفالي: أوّلًا، ألّا أربط القراءة بالواجبات، فالقراءة ليست واجبًا، إنّما فعل وجود وتفكير يوميّين. وثانيهما، ألّا أفصل بين التعلّم واللعب. وأتمنّى أن يزيد إدراك التربويّين في عالمنا العربيّ لأهمّيّة هذين الأمرين، وأن تزداد الخيارات التعليميّة التعلّميّة المبنيّة على اللعب، فنكون بالفعل أسّسنا لمستقبل فاعل ومرن وممتع لأطفالنا، فلا نراهم ناجحين وحسب، بل فرحين بنجاحاتهم أيضًا.