لغة التربية.. تحليل الخطاب البيداغوجيّ
لغة التربية.. تحليل الخطاب البيداغوجيّ

"وماذا فيما يخصّ التربية؟ هل لها مرامٍ أو غايات؟

للإجابة عن ذلك، لنفكّر أوّلًا بالمعنى المزدوج لكلمة تربية، الذي يعني في ذات الوقت إنجازًا –"التربية التي تلقّيناها" – ومجموعة السيرورات والأساليب التي تؤدّي إلى ذلك. إنّها، إذن، إذا ما وثقت باللغة، الغاية والوسائل في الآن نفسه. والتربية، مثل الفنّ ومثل اللعب، لها غايتها في ذاتها: فنحن نلعب من أجل اللعب، ونحن نربّي من أجل التربية. وينبغي أن تكون الوسائل التي تستخدمها مجانسةً لها، من نفس الطبيعة، ومن نفس القيمة التي تتوفّر عليها. إنّ وسيلةً ما، من أجل أن نكون تربويّين، يجب أن تتوفّر في ذاتها على قيمة الغاية.

أكيد أنّ المربّين هم غالبًا مجبرون على أو منجذبون إلى اللجوء إلى وسائل خارجة عن التربية. هكذا هو الوعيد، الوعد، أو حتّى طرد تلميذ مشاغب، إلّا أنّ مثل هذه الوسائل لا تتوفّر على صفة تربويّة؛ إنّها ليست غير السبيل الوحيد المتبقّي، الذي ربّما يجعل التربية ممكنة، إلّا أنّه لا يؤمّنها من شيء. فهذه الأخيرة تبدأ عندما لا نكون بعد في حاجة إلى الوسائل.

لنأخذ الآن بعض الأمثلة، المتنوّعة قدر الإمكان، من الوسائل التربويّة. سنرى أنّ ما يؤسّسها باعتبارها وسائل هو أنّها في نفس الوقت غايات تربويّة.

 

1/ يقبل النفاسيّون بكون الحنان الأموميّ هو وسيلة ضروريّة للتفتّح النفسيّ وحتّى الجسديّ للطفل. إلّا أنّه لا أحد يتجرّأ على القول إنّ الحنان ليس غير وسيلة يمكن أن نعوّضها بوسيلة أخرى. إنّها تملك قيمة في ذاتها، وإنّ هذه القيمة هي التي تجعلها تربويّة.

 

2/ ينبغي على التلميذ، من أجل اكتساب العقل العلميّ، تعلّم الموضوعيّة، احترام الحجّة، البحث عن كلّ التفنيدات، إخضاع رغباته للواقع. إلّا أنّ هذه الوسائل ليست سوابق عن العقل العلميّ. إنّها العقل العلميّ. هكذا فطفل في الثانية عشر من عمره، حين يكتشف جمال برهنة ما ويعجب بها هو بدون شكّ أكثر قربًا من العقل العلميّ ممّا يمثّله أستاذ مشغول قبل كلّ شيء بإظهار أخطاء زملائه.

 

3/ كان التوليد بالنسبة لأفلاطون وسيلةً لإثارة التذكّر. واليوم لا يؤمن البيداغوجيّون، الذين يمتدحونه، بعد بالتذكّر، ممّا يظهر أنّ للتوليد قيمةً في ذاته، أنّه من الرائع أن نولّد عقلًا.

 

4/ يشيد أنصار الخطاب المجدّد بالتعاون باعتباره وسيلةً لتكوين الأطفال للعمل المشترك وللديموقراطيّة. والحال أنّ التعاون، باعتباره وسيلةً، هو غالبًا مشكوك في قيمته؛ فالبعض يعتقد أنّ العمل ضمن فريق يخصّص الأطفال بطريقة سابقة للأوان، فهو يحرم الأكثر بطئًا؛ على كلّ حال، فالقضيّة قضيّة عمر، طريقة وظروف. إلّا أنّ المسألة لا تكمن هنا. فالتعاون، بالنسبة لأنصاره، ليس وسيلةً بسيطةً، تقنيّةً مؤقّتةً وقابلة للتعويض نتخلّى عنها عندما لا نصير في حاجة إليها. إنّ للتعاون وظيفة أساسيّة تتجلّى في تكوين متعاونين. إنّه إذن غاية في ذاته.

 

5/ مثالي الأخير سوف يكون عن التربية الأخلاقيّة. فأرسطو يقول إنّنا بممارستنا لأفعال الشجاعة نصير شجعانًا، وبممارستنا لأفعال الشرف نصير شرفاء، إلخ. ولم تتغيّر الأشياء. لكن لنقم ببعض بيداغوجيا – الخيال. لنفترض أنّنا وصلنا إلى ترسيخ أخلاقيّة ممتازة للأطفال بواسطة أساليب خارجيّة، مثل مغناطيسيّة هوكسلي، المعالجة الكيماويّة أو التأثير على الجينات. حينئذٍ، لن نعود في حاجة إلى ممارسة أفعال أخلاقيّة كي نصير أخلاقيّين، ببساطة أكثر، لن نكون في حاجة إلى التربية. أُسلِّم، إذن، بأنّه ينبغي تغيير فلسفتنا".