صرخات المهدي المنجرة المغيَّبة في مقاربة التعليم والقيم
صرخات المهدي المنجرة المغيَّبة في مقاربة التعليم والقيم
2025/08/24
أجدور عبد اللطيف | كاتب صحفيّ وباحث تربويّ- المغرب

يعجّ العالم العربيّ بالطاقات الكبيرة في العلوم والآداب والاجتماع، وبقامات فكريّة عملاقة أثرت الإنتاج الإنسانيّ في مختلف مجالاته ومصبّاته؛ حيث إنّ غاية كلّ سيرورة فكريّة يجب أن تنشد الرخاء، وتحقيق السلام والازدهار، وإغناء مجالات الحياة والعلوم والإبداع وتسهيلها.

ولعلّ أبرز المفكرين المغاربة، بل والعرب الذين طبعوا تاريخ الفكر العربيّ في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحاليّ، مع استحضار السياقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المأزومة في العالم العربيّ خلالها، هو عالم الكونيّات والمفكّر الكبير المهدي المنجرة رحمه الله.

عالج المرحوم المنجرة عدّة قضايا تؤرّق الإنسان العربيّ وتشغله، وتعرّض إلى إشكالات عويصة تُعجز منظّري التربية والسياسة والاجتماع. فقدّم دراسات مستفيضة، وتحليلات دقيقة للأوضاع السائدة، واقترح مقاربات تبتغي تجاوز الكثير من المشاكل بشكل عمليّ.

لعلّ أبرز ميدان تعرّض له المهدي المنجرة بالدراسة والنقد والتحليل، ميدان التربية والتعليم، بوصفه المبدأ والمنطلق. وقد قاربه من موقعه أستاذًا انطلق من المدارس والجامعات المغربيّة وخبر كواليسها. وانتهى به المطاف مدرّسًا في الجامعات اليابانيّة والأمريكيّة، ومراكمًا تجربة فريدة جدًّا لقربه وانخراطه في هذه الأنظمة التعليمية الرائدة، واستثماره هذا الزخم المعرفيّ والمنهجيّ للكشف عن أمراض التربية والتعليم في الأنظمة العربيّة، التي تعيق مسار التنمية المنشود.

 

تعرّضت الكثير من كتب الراحل إلى التعتيم والتهميش، نظير انتقاده اللاذع لتغلغل الامبرياليّة في الدول النامية وتقويضها محاولات الإصلاح، خصوصًا تلك التي تنطلق من التعليم والمدرسة العموميّة، وعيًا من هذه القوى الكولونياليّة بأنّ الطفل والتعليم هما مفتاح التحرّر وبناء الاستقلالية، كما في كتابه "حرب الحضارات" المنشور سنة 1991.

آمن المهدي المنجرة، رحمه الله، بأنّ المنطلق والمعاد هو المدرسة، وذلك بالتركيز على إعلاء شأن الطلّاب والأساتذة، وإكساب هذه العمليّة صفة القداسة التي تليق بها. وكذا بتكريس النموذج للإنسان الناجح بالمتعلّم والأستاذ والمفكّر عبر الإعلام والفنّ، وتبخيس ما دون ذلك من توافه الأمور وهيّناتها.

نبّه الدكتور أيضًا، إلى خطورة تغييب هذا المعطى عبر خلق أجيال معكوسة المفاهيم، غذّيت بأفكار التفاهة والفوضى الفكريّة، وقدّمت إليها قدوات زائفة، لا تخدم مسار التقدّم في شيء، بل إنّها تحيد به عن الوجهة الصحيحة. وأشار المنجرة، والذي يعتبر من روّاد المستقبليّات في العالم، إلى أنّ الحرب التي شنّتها الولايات المتّحدة على العراق "هي دفاع عن القيم الأمريكيّة التي يريدونها أن تسيطر على العالم"، مؤكّدًا أنّ "الجنوب له قيمه والشمال له قيمه أيضًا، وهذه الهيمنة على القيم هي الاستعمار الحقيقيّ الجديد"، بما فيها في التعليم. لذا، إنّ تحقير المدرسة في نظر الأجيال، والتقزيم من شأن الأساتذة والعلماء، وازدراء الإنتاجات الفكريّة والعلميّة، وإقصاءها إعلاميًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا... كلّ ذلك منابع للشر، ومقابر للطاقات، ولفرص اللحاق بركب الحضارات الذي يبتعد.

الفوضى غير المسبوقة التي تعيشها بلادنا العربيّة، والأفول الحضاريّ الفادح الذي حلّ بنا، إنّما هو نتاج ارتكاب هذه الأخطاء القراراتيّة العشواء، والقيام باختيارات لا تناسب هويّة مجتمعاتنا، وليست في مستوى طموحاتنا وتحدّيات الألفيّة الجديدة التي تؤمن بالسيادة العلميّة قبل أيّ شيء آخر. 

 

يقول الدكتور المنجرة: "عندما أراد الصينيّون القدامى أن يعيشوا في أمان بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلّقه لشدّة علوّه. ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور، تعرّضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كلّ مرة لم تكن جحافل العدو البرّيّة بحاجة إلى اختراق السور أو تسلّقه، بل كانوا، في كلّ مرّة، يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب."

ويواصل: "لقد انشغل الصينيّون ببناء السور ونسوا بناء الحارس، فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كلّ شيء وهذا ما يحتاجه طلّابنا اليوم".

يقول في السياق نفسه، أحد المستشرقين، وهو كلام نقله د. مصطفى محمود في كتاب قراءة المستقبل: "إذا أردت أن تهدم حضارة أمّة، فهناك وسائل ثلاث، هي: هدم الأسرة، ثمّ هدم التعليم، ثمّ إسقاط القدوات والمرجعيّات. ولكي تهدم اﻷسرة، عليك بتغييب دور اﻷم بجعلها تخجل من وصفها ربة بيت، على الرغم من أنّ مهمّتها بالبيت من أقدس المهام التي اضطلع بها الأنبياء والأمهات دون غيرهم وهي بناء الإنسان، وهذا لا يعني اختزال دور المرأة في البيت، كما جاء في الكثير من كتابات ولقاءات المهدي المنجرة. ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلّم، لا تجعل له أهمّيّة في المجتمع، وقلّل من مكانته حتى يحتقره طلّابه. ولكي تسقط القدوات عليك بالعلماء، اطعن فيهم وقلّل من شأنهم، وشكّك فيهم حتى لا يسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد. فإذا اختفت اﻷمّ الواعية، واختفى المعلّم المخلص، وسقطت القدوة والمرجعيّة، فمن يربّي الناشئة على القيم؟"