قراءة في المنهاج والوثيقة المرافقة.. التربية البدنيّة للمرحلة المتوسّطة في ضوء المهارات الحياتيّة
التربية البدنيّة للمرحلة المتوسّطة في ضوء المهارات الحياتيّة- التعاون أنموذجًا
قراءة في المنهاج والوثيقة المرافقة.. التربية البدنيّة للمرحلة المتوسّطة في ضوء المهارات الحياتيّة
التربية البدنيّة للمرحلة المتوسّطة في ضوء المهارات الحياتيّة- التعاون أنموذجًا
محمّد عيزر | أستاذ تعليم ثانويّ- الجزائر

مقدّمة

اهتمّت السياسة التربويّة في الجزائر بالنشاطات المدرسيّة التي تسمح للطفل بتحقيق النموّ والإحساس بالرغبة في التعلّم والتعلّق بالمدرسة، وركّزت في مجال الإصلاح البيداغوجيّ على النشاطات المدرسيّة المكمّلة، مثل النشاطات الرياضيّة والثقافيّة في مختلف المراحل، كما دعت إلى تحيين المناهج في ضوء ذلك، كي يتمكّن المتعلّم من اكتساب المهارات التي يستطيع أن يوظّفها في المواقف الحياتيّة (الحكومة، 2021). هذا ما يترجم الاهتمام المتزايد بتجسيد التوجّهّات التربويّة الحديثة المتعلّقة بالتعليم الجيّد والانخراط في مسعى المهارات الحياتيّة.

يحاول هذا المقال قراءة محتوى منهاج التربية البدنيّة للجيل الثاني (2016)، والوثيقة المرافقة له من خلال تحليل مضامين الوثيقتين في ضوء إحدى المهارات الحياتيّة (التعاون)، وذلك بالوقوف على طريقة التناول الذي حظيت به هذه المهارة ضمن المنهاج والوثيقة المرافقة.

 

مفهوم المهارات الحياتيّة  

نستعمل في هذا المقال مفهوم المهارات الحياتيّة كما حدّدته مبادرة اليونيسيف، ذلك أنّ الأدبيّات التربويّة التي تناولت الموضوع لم تصل إلى مشترك لفظيّ يشير إلى المعنى نفسه، فاستعمل بعضها مصطلحات مغايرة تمامًا كمهارات القرن الحادي والعشرين، أو المهارات الأساسيّة، أو غير ذلك، ويقتصر معناها في بعض الأدبيّات على المهارات غير المعرفيّة (البنك الدوليّ، 2019). أمّا اليونيسيف فتعرّفها "بوصفها مهارات، معرفيّة وغير معرفيّة، عليا ومتقاطعة وقابلة للنقل، وذات أهمّيّة للتعلّم والمقدرة على التوظّف والتمكين الذاتيّ والمواطنة النشطة" (اليونيسيف، 2017).

تُقسَّم المهارات، وفق المفهوم المحدّد لدى اليونيسيف، إلى أربعة أبعاد: يضمّ البعد الأوّل مهارات تتعلّق بالتعلّم، وهي الإبداع والتفكير الناقد وحلّ المشكلات. ويضمّ البعد الثاني مهارات تتعلّق بالمقدرة على التوظيف، وهي التعاون والتفاوض وصنع القرارات. أمّا البعد الثالث فيضمّ ثلاث مهارات ترتبط بالفرد، وهي الإدارة الذاتيّة والصمود والتواصل. بينما يحتوي البعد الرابع على مهارات المواطنة النشطة، وهي احترام التنوّع والتعاطف والمشاركة. لكنّ هذا التقسيم لا يعني الفصل الحادّ بين مختلف الأبعاد أو المهارات فصلًا تامًّا، فطبيعة الواقع المعقّدة تجعل مساحات التداخل بينها كبيرة.

 

المنهاج والوثيقة المرافقة

  نقصد بالمنهاج الوثيقة الخاصّة بمادّة التربية البدنيّة في مرحلة التعليم المتوسّط، والتي تتضمّن خطوات بناء الكفاءة الشاملة للمرحلة. أمّا الوثيقة المرافقة فهي وثيقة موجَّهة إلى المعلّمين لتمكينهم من تقاسم الفهم الموحَّد لمحتويات المناهج، إذ تتضمّن شروحات مفصّلة وتوضيحات تتعلّق بتنفيذ المنهاج، وتقترح بعض الوضعيّات الإدماجيّة للتوضيح والتيسير، كما توفّر معطيات حول التقويم وسلالم التنقيط لمختلف النشاطات الخاصّة بالمادّة، والتي من شأنها أن تجعل المنهاج قابلًا للتطبيق.

 

البُعد البيداغوجيّ التعاونيّ لمادّة التربية البدنيّة

توفّر التربية البدنيّة، من خلال ما تحويه من لعب، موردًا غنيًّا يمَكِّن من ربط الطفل بالثقافة، ويجعله يدرك مختلف المتغيّرات والثوابت المتعلّقة بقيم المجتمع. فالموقف اللعبيّ، بطبيعته، يجعل منسوب التركيز ومنسوب السعادة في أعلى درجاته مدّة طويلة، وهذا ما لا يمكن أن يوفّره أيّ حامل بيداغوجيّ آخر. تتمكّن هذه المادّة، إلى حدّ بعيد، من رسم حدود المساحات القيميّة للطفل والمراهق بواسطة اللعب، حيث يتمتّع بحمولة كبيرة من الرمزيّات والإحالات التي تضع القيم التي يختارها المعلّم حيّز التطبيق، وبذلك يمكنها أن تتسلّل إلى وعي المتعلّم بسهولة، وتحدّد نمط تعاطيه مع المواقف الحياتيّة. وبإمكان التفاعلات القائمة على التعاون بين المتعلّمين أن تجعلهم أكثر احترامًا للأدوار التي يؤدّيها الآخرون لحلّ المشكلات، كما أنّ التعلّم التعاونيّ يسمح باستعمال أوسع لعمليّات التفكير العليا، ويحسّن من المهارات اللغويّة والقدرة على التواصل والتعبير بمختلف أشكاله.

 

مهارة التعاون بين المناهج التعليميّة وسوق العمل

في سياق مبادرة تعليم المهارات الحياتيّة والمواطنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُصنَّف التعاون ضمن المهارات ذات البعد التوظيفيّ، وهي المهارات المطلوبة في سوق العمل الذي لا يمكن لأحد أن ينكر العلاقة الوثيقة بينه والنظام التعليميّ. حدّد القانون الجزائريّ للمدرسة ثلاث مهامّ أساسيّة: مهمّة التعليم، ومهمّة التنشئة الاجتماعيّة، ومهمّة التأهيل التي تسعى بدورها إلى تزويد المتعلّم بالمهارات التي تسهّل عليه التكيّف مع المعطيات المتغيّرة لسوق العمل في المستقبل، ضمن ما ترمي إليه السياسة التربويّة تحت عنوان "التعليم الجيّد". فالتطوّرات التكنولوجيّة وتحوّلات سوق العمل والملامح الجديدة التي تميّز مهن المستقبل، هي ما يملي علينا تطوير المناهج وجعلها متناغمة مع معطيات هذا التحوّل.

يحظى التعاون بأهمّيّة بيداغوجيّة كبيرة إذ يشكّل مهارة أساسيّة ينبغي أن تصطبغ بها مخرجات التعليم الجيّد، وهي بالمقابل إحدى أهمّ المهارات التي تطلبها مدخلات سوق العمل (البنك الدوليّ، 2019). هذا ما ينبغي مراعاته في بناء المناهج، باعتبارها حلقة يُستنَد إليها في بناء ملامح الفرد بما يتوافق مع الخيارات القيميّة للمجتمع داخليًّا، ووفق ما ينسجم مع النسيج الإنسانيّ خارجيًّا. يمكننا، في الواقع التربويّ، استهداف العديد من المهارات عندما نتطرّق إلى مهارة التعاون، إذ إنّها "مهارة تتقاطع عندها مختلف أبعاد التعلّم بقوّة مع المهارات الحياتيّة الآتية: التواصل والتعاطف واحترام التنوّع وحلّ المشكلات. وهي، جميعها، مهارات حياتيّة أساسيّة... ويتمّ، في الغالب، إدراج التعاون في أطر المهارات الحياتيّة الأخرى، لمدى ارتباطه بالتواصل ضمن إطار مهارات القرن الحادي والعشرين، تحت فئة مهارات الابتكار والتعلّم" (اليونيسيف،2017). 

 

معطيات إحصائيّة 

من المفيد اللجوء إلى المعالجة الإحصائيّة لتحقيق قدر من الموضوعيّة العلميّة، حيث تمنحنا معطيات الرسم البيانيّ الآتي نظرة عامّة حول منسوب الكلمات والجمل التي وردت في متن المنهاج والوثيقة المرافقة، والتي تحيل إلى الحقل الدلاليّ لمفهوم "التعاون" (تعاون، وتضامن، وزميل، وزملاء)، والمصطلحات التي تحيل إلى "المنافسة" (منافس، ومنافسة، ومواجهة، وخصم، وفوز) كمفاهيم مقابلة له. والمعنى- طبعًا- يتشكّل تبعًا لحضور هذه المفاهيم وغيابها، وهذا ما يجعلنا نعتبرها مؤشّرًا على الخلفيّة التي اعتمدها مصمّمو المناهج. فيبدو واضحًا أنّ هذه المفاهيم تتعامل مع مادّة التربية البدنيّة باعتبارها رياضة يسيطر عليها بُعد المنافسة الذي تحرص فيه الذات، عندما تلتقي بالآخر، على تحقيق الفوز على حساب خسارته.

chart

يتضّح، من خلال البيانات أعلاه، أنّ مصطلحات "الخصم" تكرّرت 64 مرّة، ومصطلحات "المنافس" 33 مرّة، ومصطلحات "المواجهة" 24 مرّة، وهي الأكثر تكرارًا من بين قائمة المصطلحات التي اقترحناها، حيث تختزل الألعاب الجماعيّة في بُعد المواجهة الحاوي استراتيجيّات إلغاء الطرف الآخر، وتجعل منها هدفًا في حدّ ذاته. 

لا شكّ أنّ الكثير من الألعاب والنشاطات في حصّة التربية البدنيّة يمكنها أن تعتمد التعاون وسيلة أو هدفًا، أو وسيلة وهدفًا في الآن ذاته. غير أنّ الوثيقتين هنا اقتصرتا على إدراجه كوسيلة في اللعب الجماعيّ فقط، الذي يقتضي المنافسة. إنّ قراءة متأنّيّة لمتن الوثيقتين تكشف لنا أنّ فلسفة الألعاب الجماعيّة -كما هو واضح هنا- لا تجعل التركيز على الأدوار التي يمكن أن يؤدّيها المتعلّم داخل مجموعته هدفًا أساسيًّا، بل تركّز على هدف آخر يتمثّل في إلحاق الهزيمة بالمجموعة الأخرى (الخصم). غير أنّ ما يلفت انتباه قارئ الوثيقتين أنّهما تكادان تخلوان من الإشارة إلى إمكانيّات أخرى ونشاطات يميّزها التعاون كغاية ووسيلة معًا، وتحكمها فلسفة التميّز بدل التفوّق والفوز على الرفاق. 

لا بدّ أن نسلِّم أنّ الرياضات الجماعيّة تتضمّن بطبيعتها مزيجًا من علاقات القوّة بين فريقين، والمواقف التي تضع اللاعب بين مجموعة من الخيارات التي تستدعي عمومًا لعب الدور المنوط بالفرد على أكمل وجه، والتعاون مع الزميل، وبناء استراتيجيّات فرديّة وجماعيّة لتجاوز استراتيجيّات الفريق المنافس أو بعض أفراده. هذه أهمّ معالم الرياضات الجماعيّة التي يمكن لمعدّي المناهج أن ينتقوا منها ما يخدم الأهداف التربويّة في حصص التربية البدنيّة.

يكشف لنا الوقوف على السياقات التي وردت فيها معاني المنافسة ملامح المنظور الذي يتحكّم في بناء مضمون الوثيقتين ويوجّهه. ينبغي هنا أن نناقش محتويات المناهج انطلاقًا من اعتبارها منتوجات بشريًّة وفق نمط محدّد من التفكير، أسهم في صياغتها منظور يخضع بدوره لمعطيات المجتمع والثقافة، فلمثل هذه العناصر والمفاهيم دور رئيس في تحديد هويّة المادّة الدراسيّة. يبدو أنّ ما نغفل عنه في أغلب الأحيان هو القوّة الناعمة التي يتمتّع بها المنظور في التأثير بشكل غير مرئيّ في مواقف المعلّم وقناعاته، ويجعلها تنتقل تلقائيًّا عبر ثنايا النشاطات والألعاب إلى المتعلّم.

لا بدّ أن نشير من خلال البيانات النوعيّة والكمّيّة إلى أنّ التربية البدنيّة تعاني في هذه المرحلة من أزمة في هويّتها، تجعلها تتأرجح بين ملمح المادّة التعليميّة المسجّلة ضمن نسق عام يربطها بالمواد الأخرى، وملمح النشاط الترفيهيّ. هذا ما يجعل- حسبما أرى- مصمّمي المناهج يعتبرونها مادّة تفتقد إلى مناخ الجدّيّة اللازمة للفعل التربويّ، أو على الأقل يخفّض اهتمامهم بإدراج قيمة التعاون. ويسلكون أسهل الطرق فيعتبرونها في أغلب الأحيان نشاطًا رياضيًّا تدريبيًّا بحتًا، وذلك- في تقديرنا- ما يجعل خطاب المنافسة والمواجهة وما يتّصل بهما من معاني الندّيّة والخصومة يحظى بقسط وافر في محتوى المنهاج والوثيقة المرافقة.

إنّ التركيز على البُعد التنافسيّ بين الأقران أفرادًا وجماعات، وإقصاء البُعد التعاونيّ في الوثيقتين يسهم في بناء منظور صراعيّ، يجعل التفكير خارج ثنائيّة رابح-خاسر عسيرًا على الطفل، ويجعله لا يفهم تفوّقه إلّا بإخفاق الآخر.

يسهم بناء هذا المنظور –لا محالة- في توجيه جميع الممارسات المرتبطة باكتساب المهارات داخل المجموعة وخارجها، ويدفع بالطالب إلى التركيز على ربح الرهان والفوز على الخصم، بدل التركيز على العمل لتحقيق التقدّم والنجاح ضمن مقاربة التميّز. يُفترض أن ترجّح كفّة خطاب التعاون والمشاركة والتفاوض على حساب كفّة المنافسة في الوثيقتين، فمدوّنة الألعاب الرياضيّة واسعة وموروث المجتمع الجزائريّ من الألعاب غنيّ جدًّا، يسمحان لنا بانتقاء مجموعة تخدم أبعاد التعاون والتسامح والتضامن وتؤصّلها في الطفل. 

لا يمكننا، من جهة أخرى، أن نحلم بحصص تربية بدنيّة تخلو تمامًا من جوّ المنافسة، أو أن نستبعد الألعاب منها. يعتبر راسل (2017) أنّ التنافس أمر طبيعيّ في الإنسان، وأنّ الألعاب والمباريات الرياضيّة أفضل مخرج له، وهذا ما يدفعنا إلى عدم منع الألعاب، لكنّه لا يدفعنا، في الوقت نفسه، إلى رفع الألعاب والمباريات الرياضيّة ذات الطابع التنافسيّ إلى مكان رئيس في المنهج المدرسيّ.

 

خاتمة

رغم أهمّيّة مهارة التعاون في مجالي البيداغوجيّة وسوق العمل على حدّ سواء، إلّا أنّها لا تتوافر والمعاني المرتبطة بحقلها الدلاليّ إلّا توافرًا محتشمًا جدًّا في المنهاج والوثيقة المرافقة. يعبِّر ذلك تعبيرًا واضحًا عن المنظور والهويّة التي اختارها مصمّمو المناهج في الجزائر لمادّة التربية البدنيّة، والتي تعتمد على منطق المنافسة. ذلك ما يدعونا الى إعادة التفكير في البناء النظريّ للوثائق البيداغوجيّة لمادة التربية البدنيّة، وإدراج مضامين تتبنّى مهارة التعاون فيها لتمكين المتعلّم من الانخراط في العمل الجماعيّ، إذ يبدو أنّ مشكلات الواقع الإنسانيّ تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ما يجعل اللجوء الى الحلول التعاونيّة ضرورة ملحّة تتطلّب مشاركة الجميع وفق منطق التميّز كدافع أساسيّ.

 

 

المراجع

- البنك الدوليّ. (2019). توقّعات وتطّلعات: إطار جديد للتعليم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/30618/211234ovAR.pdf

- البنك الدوليّ. (2019). تقرير عن التنمية في العالم: الطبيعة المتغيّرة للعمل.

https://www.albankaldawli.org/ar/publication/wdr2019  

- الحكومة. (2021). مخطّط عمل الحكومة من أجل تنفيذ برنامج رئيس الجمهوريّة.

- راسل، برتراند. (2017). في التربية. (ترجمة سمير عبده). دار مكتبة الحياة.

- وزارة التربية الوطنيّة. (2016). منهاج التربية البدنيّة لمرحلة المتوسط.

- وزارة التربية الوطنيّة. (2016). الوثيقة المرافقة لمنهاج التربية البدنيّة لمرحلة المتوسط.

- اليونيسيف. (2017). إعادة النظر في مبادرة تعليم المهارات الحياتيّة والمواطنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

https://www.unicef.org/mena/media/6146/file/LSCE%20Conceptual%20and%20Programmatic%20Framework_AR.pdf%20.pdf