قراءة القصص في تعليم اللغة العربيّة
قراءة القصص في تعليم اللغة العربيّة
سمر محفوظ برّاج | مؤلّفة قصص أطفال،مترجمة ومدرّبة-لبنان

كانت البداية ممّا أخبرني به عدد لا بأس به من الأطفال، حين بدأتُ تعليم اللغة العربيّة، عبارات مثل: "اللغة العربيّة صعبة. لا أحبّ اللغة العربيّة. لا توجد قصص حلوة باللغة العربيّة..." أحزنتني هذه العبارات واستفزّتني، أردتُ أن أثبت لهؤلاء الصغار أنّ لغتنا جميلة، وليست صعبة كما يعتقدون، وأنّ هناك قصصًا ممتعة باللغة العربيّة، ولا سيّما أنّني نشأتُ على قصص المكتبة الخضراء، والمغامرين الخمسة والشياطين الثلاثة عشر، وقصص روز غريّب، وغيرها الكثير...  

بدأتُ عمليّة البحث عن قصص يحبّونها سنة 2002، ولم تكن المهمّة سهلة كما هي اليوم، إذ كان البحث يستغرق وقتًا. أردتُ قصصًا طريفة، تكون موضوعاتها قريبة من الطفل، ولغتها بسيطة وسهلة مع رسوم جذّابة. أصبحت قراءة القصص في الصفّ، شيئًا فشيئًا، تمهيدًا يكتشف الأطفال به موضوع الدرس أو أيّ موضوع آخر نتحدّث عنه، كما باتت مكافأة لهم عندما ينهون مهمّاتهم قبل انتهاء الحصّة. صار الأطفال ينتظرون القصّة ويصغون إليها باهتمام، ويتشوّقون لمعرفة موضوع القصّة القادمة. 

 

أهمّيّة القصص وضرورتها وسيلةً تعليميّة

مهما كانت المواد التعليميّة كثيرة ومرهقة للمعلّم في حصّة اللغة العربيّة، يمكن إيجاد وقت يوميّ لقراءة قصّة أو جزء من قصّة، ويمكن توزيع أيّة أنشطة متعلّقة بها لعدّة أيّام، حيث تكون مسليّة ومشوّقة يهتمّ بها الأطفال وينتظرونها بشوق. من المفيد تسهيل موضوع قراءة القصص في الصفّ، واعتباره جزءًا من العمليّة التعلّميّة، فيسمع الطفل القصص ويقرؤها باللغة العربيّة، ويجري المحادثة بها أيضًا. 

 

يحبّ الطفل القصّة وينظر إليها نظرة تختلف عن نظرته إلى الكتاب المدرسيّ، فالقصص تجذبه وتسلّيه وترفّه عنه، كما توسّع مخيّلته، وتزيد من قدراته الإبداعيّة، وتدفعه إلى التفكير، وتغني مخزونه اللغويّ بالعبارات والمفردات. بالإضافة إلى ما تضفيه القصص من الحيويّة والمتعة، تعرِّف الطفل إلى الحضارات المختلفة، ويتناول معظمها موضوعات من واقع الحياة، وتلقي الضوء على مفاهيم ثقافيّة وسلوكيّة واجتماعيّة، وتوسّع آفاق الطفل المعرفيّة، وتهذّب ذوقه، وتفسح أمامه المجال للتعبير عن آرائه ومشاعره وأفكاره، وتنمّي لديه الحسّ النقديّ والفنّيّ. وعليه، هل يمكن استخدام كتب الأطفال وسيلةً تعليميّة؟ لفترة طويلة، كان هناك فصل بين أدب الأطفال والكتب المدرسيّة، حيث خُصِّص الأوّل للمتعة والتسلية، وخُصِّص الثاني للتعليم. لكن، هل تتعارض التسلية مع التعلّم؟   

 

الفصل بين المؤلّفات الأكاديميّة والمؤلّفات الأدبيّة يفقد النوعين الكثير من فوائدهما، ومن الأهمّيّة بمكان الجمع بينهما، لكنّ ذلك لا يعني التعامل مع القصّة كأنّها كتاب مدرسيّ. يمكن استخدام القصّة استخدامًا محبّبًا إلى الطفل، بحيث لا نفرض عليه مادّة لا تتناسب مع اهتماماته وحاجاته، أو نجبره على المطالعة، فيكره القراءة، ولا سيّما بلغته الأمّ. يجب ألّا تتضمّن الأنشطة التي تُجرى بعد قراءة القصّة تمارين لغويّة مشابهة للوظائف الموجودة في الكتب المدرسيّة، لأنّ ذلك قد ينفّر الطفل من القصّة ويبعده عن القراءة. 

 

من المفيد أن تكون القصص وسيلةً مساعدة وممتعة: لتعلّم العربيّة الفصحى، من خلال ربطها باللغة المحكيّة من حيث بناء الجمل والمفردات؛ ولبناء شخصيّة طفل مستقلّ ومنفتح يتقبّل الآخر. إذا منحنا الطفل، منذ الصغر، ساعات قراءة ممتعة ومغذيّة في الصفّ، وقدّمنا له قصصًا تحترم ذوقه وحسّه الجماليّ وتتجاوب مع حبّه عناصر المفاجأة والطرافة والخيال، وتدفعه إلى التفكير، فسنحبّبه بالقصص واللّغة ونساعده على اكتساب ثقافة المطالعة. 

 

تسهم قراءة القصص في تنمية القيم الاجتماعيّة والإنسانيّة والمهارات اللغويّة لدى الطّفل، كما أنّها وسيلة فعّالة لتنمية مهارات ذهنيّة وعلميّة، كالتوقّع والملاحظة والاستنتاج والربط والتحليل، ومهارات رياضيّة، كالتصنيف والتسلسل، فضلًا عن المهارات الإبداعيّة التي تخترق المنهج وترتبط ببقية المواد التعليميّة. 

 

يمكن استخدام القصص بما يتناسب مع المحاور التعليميّة التي تتناول العائلة والبيئة والفصول والحيوانات وغيرها... بالإضافة إلى قراءة قصص لا تتعلّق بهذه المحاور، ولكنّها تمتع الطفل وتسلّيه وتشجّعه على الإبداع والابتكار، بحيث لا تكون الخيارات محدودة ومقتصرة على الموضوعات الواردة في المنهج.  

 

حول قراءة القصص في المكتبة

إلى جانب تعليم اللغة العربيّة، كُلِّفتُ بقراءة القصص لطلّاب الحلقة الأولى في المكتبة وإعداد أنشطة مرافقة لها. كانت تلك فرصة ذهبيّة أتاحت لي المجال لقراءة القصص لعدد أكبر من الأطفال، واختبار أنشطة متنوّعة وإبداعيّة وفنيّة، بالإضافة إلى المسرح والتمثيل. كانت المكتبة مكانًا خاصًّا يشعر فيه الطفل بحريّة التعبير عن رأيه، بعيدًا عن التقييم والعلامات والمحاسبة على الأخطاء. سنحت لنا قراءة القصص فرصًا للتحدّث عن موضوعات عديدة، كالمواطنة والتسامح والغيرة والاحترام والصداقة والمشاعر والعلاقة مع الأهل والكذب والتنمّر وغيرها، بعيدًا عن الإرشاد والوعظ. أغنت تلك التجربة خبرتي، إذ تعلّمت من الأطفال الكثير، وعرفتُ ماذا يحبّون وماذا يكرهون، واكتشفتُ أيضًا أنّ ما يحبّه الكبار من قصص الأطفال قد لا يعجب الأطفال أنفسهم، والعكس كذلك صحيح.

 

قادتني تلك التجربة إلى عالم كتابة القصص الساحر الذي غيّر حياتي المهنيّة. كانت قصّتي الأولى تمهيدًا لدرس عن المهن، بدأتُ معه مشوار الكتابة. خلال مسيرتي في قراءة القصص في الصفّ والمكتبة، تعلّمتُ أمورًا عديدة أودّ مشاركتها.

 

انطلاقًا من هذه التجربة، أعتقد أنّنا كي نتمكّن من تقديم ما يناسب الطفل، ويحبّبه بالقراءة واللّغة، من المفيد جدًّا أن تتوفّر لدينا القصص المنوّعة والمناسبة، سواء أكانت في مكتبة المدرسة أم الصفّ أم المكتبات الصفيّة إن أمكن. دور أمينة المكتبة مهمّ جدًّا في تعريف المعلّمين إلى الكتب المتوافرة في المكتبة من حيث الموضوعات والمراحل العمريّة؛ فالمعلّم المطّلع على ما يتوفّر في مدرسته من كتب، ويزور المكتبات والمعارض، ويتابع كلّ ما يصدر حديثًا، قادر على مشاركة القصص المناسبة مع طلّابه مشاركة أفضل، ويستطيع أن يميّز ويختار القصص المفيدة والممتعة التي لا تستخفّ بعقل الطّفل، فالطفل ناقد مهمّ لا يجامِل، يعبِّر عن إعجابه أو عدم إعجابه بقصّة بعفويّة وصراحة.

 

مراحل تطبيق نشاط قراءة القصص

 

قبل القراءة

يمكن التمهيد لموضوع القصّة بطرح سؤال أو أكثر، أو بعرض شيء ذي صلة بموضوع القصّة وأحداثها، أو بإثارة التشويق بأغراض مخبّأة في صندوق أو تحت قطعة قماش، أو بمشهد تمثيليّ، أو بحديث مع دمية، أو بـ"حزّورة"، أو بلعبة، أو بعرض صورة أو أغنية أو فيلم قصير أو خبر من جريدة أو مجلّة، أو بترتيب كلمات مبعثرة في جملة، على ألّا يستغرق ذلك سوى بضع دقائق. 

بعد ذلك يُعرَض غلاف كتاب القصّة، فنذكر العنوان واسم الكاتب واسم الرسّام ودار النشر. يمكن دعوة الأطفال إلى توقّع الموضوع والأحداث في القصّة بالاستناد إلى العنوان والغلاف، وما كُتِب على الغلاف الخلفيّ أيضًا. 

أثناء القراءة

تجري القراءة بأسلوب سلسٍ ومشوّقٍ ومعبِّر وقريب من الأداء التمثيليّ، حيث يُحافَظ على جوّ القصّة العام، كالمرح والجديّة والترقّب.... يساعد ذلك الطفل على تخيّل أحداث القصّة، وإحياء الشخصيّات في ذهنه. من المهمّ مراعاة اللفظ الصحيح، والتدرّب على قراءة القصّة مسبقًا، للحفاظ على تركيز الأطفال ومتابعتهم. 

بعد القراءة

بعد الانتهاء من القراءة، يُطلَبُ إلى الأطفال إبداء رأيهم في القصّة والرسوم وذكر ما أعجبهم وما لم يعجبهم. الهدف من إجراء هذه المحادثة تشجيع الطفل على التركيز والتفكير والاستنتاج والتحليل، فيعبّر عن نفسه ويربط ما حصل في القصّة بواقعه وحياته اليوميّة، ممّا يكسبه مفاهيم جديدة ويسهِم في تطوير شخصيّته. من المهمّ مراعاة أعمار الأطفال عند طرح الأسئلة، مع عدم تقييم الطفل أو محاسبته أو انتقاده حين يعبّر عن أفكاره ورأيه بحريّة. إذا لزم الأمر، تُناقَش الإجابات مع الطّفل مناقشة موضوعيّة ومنطقيّة. 

بالإضافة إلى المحادثة، يمكن إجراء تمرين تخيّل أحداث القصّة أو أحداث جديدة، أو إجراء كتابة إبداعيّة، أو مسرحيّة وتمثيل، أو استخدام الدمى. بالإضافة إلى تنفيذ نشاطات فنّيّة، كالرسم والأشغال اليدويّة وابتكار الألعاب المنوّعة. 

 

كيفيّة اختيار القصص وحدودها

عند اختيار القصص، من المهمّ دائمًا أن نأخذ بعين الاعتبار حاجات الطفل وميوله ورغباته، فندخل إلى عالمه ونفكّر بطريقته، لنصل إلى عقله وقلبه. من المهمّ كذلك التركيز على الطريقة التي نقدّم بها القصّة ونقرؤها له. 

 

من هنا، يمكن للمعلّم ترك الخيار للأطفال ليقرّروا القصّة التي يرغبون في سماعها بعرض أكثر من قصّة وإجراء التصويت. يمكنهم أن يختاروا قصصهم بالاستناد إلى: العنوان، أو صورة الغلاف الأماميّ، أو المختصر الوارد على الغلاف الخلفيّ، أو عرض سريع لرسوم الداخل، أو قراءة المقطع الأوّل من كلّ قصّة. كما يمكن للأطفال أن يختاروا النشاط الذي يودّون إجراءه بعد القصّة، وقد يصمّمونه بأنفسهم أيضًا. يتيح لهم ذلك المجال للإبداع والابتكار.

 

في بعض الأحيان، قد يتجنّب المعلّم أو مسؤولة المكتبة قراءة قصّة معيّنة للأطفال، حتّى لو كانت جيّدة، بسبب رسم، أو فكرة، أو تصرّف أدّته إحدى الشخصيّات، يُخشى معها أن تُشجِّع الطفل على التمرّد، أو على القيام بتصرّف مشاغب، أو غير ذلك. من الممكن قراءة القصص وتحويلها إلى موضوع للنقاش، وفتح حوار حوله مع الطفل، وفسح المجال أمامه ليعبّر عن رأيه، ممّا يسهِم في تعزيز صفة القارئ لديه، وينمّي فيه الحسّ النقديّ والحسّ الفنّي. 

 

من هذا المنطلق، يُفضَّل ألّا يبالغ المعلّمون في حماية الطفل، وألّا يتحفّظوا عن قراءة قصص تتناول موضوعات جديدة وجريئة تسهِم في توعيته وتعرّفه إلى أمور قد تواجهه أو يتعرّض إليها، كالقصص التي تتطرّق إلى الأمراض والتحرّش والانفصال والموت والتدخين وغيرها. إذا عولجت هذه القضايا ضمن إطار مناسب للطفل وعمره، وبلغة بسيطة يفهمها، فسيتقبّلها تقبّلًا طبيعيًّا، ولن تترك لديه أيّ أثر سلبيّ.  

 

* * *

في الختام، أردتُ مشاركة تجربتي وإظهار أهمّيّة قراءة القصص في الصف والمكتبة في تحبيب الأطفال بلغتهم، وتسهيل عمليّة تعلّمها واكتسابها اكتسابًا سلسًا وبسيطًا، بالإضافة إلى ما يمكنه أن يحدث ذلك من تطوير في شخصيّتهم وفكرهم. 

مع تقديري الخاصّ لكلّ جهود معلّمي العربيّة، أُشجِّع إدخال القصص إلى الصفوف وقراءتها، حتّى لو كان لدى الطلبة حصّة مكتبيّة. القصّة في الصّف مثل قطعة الحلوى التي يتلذّذ الطفل بتناولها، ولا شكّ أيضًا أنّ تطوير منهجيّة التعليم تخلق جوًّا إيجابيًّا ومسليًّا في الصفّ، بعيدًا عن التكرار والروتين، فماذا لو عومِل النصّ المدرسيّ وكأنّه قصّة مثلًا؟ 

أُنهي مقالتي بما هو غير معتاد في المقالات، فأنا كاتبة للأطفال أوّلًا، بنصّ كتبته على لسان الطفل، أحببتُ مشاركته معكم لنذكره كلّما دخلنا إلى الصفّ:

 

 تذكّر...

 

في الصفّ،

تذكّر أنّني طفلٌ صغير،

أُحبّ اللعب والمرح والتغيير.

 

الصعوبة تُربِكني

والشعور بالملل يُزعِجني

والتشجيع يُحفّزني.

 

أُريد ما يسلّيني ويُفرحني

وفي الوقت نفسه يعلّمني.

أُريد مَنِ المحبّة يمنحني

وفي الوقت نفسه بالمعرفة يدعمني.

 

صحيح أنّني طفلٌ صغير،

لكن، تذكّر أنّ

إحساسي مُرهفٌ مثل إنسانٍ كبير.