دور الحياة المدرسيّة في التعليم.. مدخل إلى القيم
دور الحياة المدرسيّة في التعليم.. مدخل إلى القيم
يوسف بن عدي | أستاذ فلسفة - المغرب

مقدّمة

من المفيد أن نقول: إنّ مراجعة المناهج والكتب المدرسيّة قد أسهم في مراجعة دور الحياة المدرسيّة في تنمية الكفايات والقيم لدى المتعلّمين فلمّا كانت المدرسة الفاعل الحقيقيّ والخطير في توجيه ميول المتعلّم والتأثير فيه، فإنّ السياسات التعليميّة العربيّة عامّةً والمغربيّة خاصّةً قد خصّصت حصّةً كبيرةً منها لمراجعة دور المدرسة برمّتها، أي بعدما كانت المناهج موطن الصراع الأيديولوجيّ والسياسيّ، وبالأحرى صراع الأحزاب السياسيّة والمجتمع الأهليّ في استقطاب المنافع والمكتسبات، صار الأمر ملحّاً اليوم لاختيار بعض القيم الكونيّة الحداثيّة لترسيخها في وجدان الفرد والجماعة، وذلك من قبيل الحرّيّة والمواطنة والاختلاف... إلخ.

ربّما حاولت السياسيّات التعلّميّة المغربيّة اليوم تحويل المدرسة من مدرسة الاستقطاب الأيديولوجيّ إلى مدرسة التفاعل الاجتماعيّ والاندماج الفاعل في الحياة المدرسيّة، والحياة المجتمعيّة والسياسيّة. كما نعرف، إنّ علاقة المدرسة بأيديولوجيّة الدولة علاقة قويّة متلازمة، إذ لا توجد مدرسة دون تصوّرات الدولة وخططها وتراث المجتمع، ومن المؤكّد أنّ الكتب المدرسيّة هي صورة الدولة وتوجّهاتها ومواقفها، ولا ضير في ذلك. قد يكون العيب في نشر قيم الإقصاء والاستبداد والعنصريّة، فهذا ينافي القيم الكونيّة.

 في هذه المقالة سوف أمرّ على دور الحياة المدرسيّة في ترسيخ بعض القيم في ذهن المتعلّم ووجدانه، ليتحقّق لنا النموّ المتكامل المتوازن لشخصيّة كلّ متعلّم، بعيداً عن أيّ تمييز أو إقصاء أو تهميش، كما ورد في دليل الحياة المدرسيّة.

 

الحياة المدرسيّة: المفهوم والسياق

الحياة المدرسيّة هي المناخ التربويّ والاجتماعيّ لتنمية قيم الناشئة بصورة متوازنة وترجمتها في ممارسات حياتيّة (مهارات الحياة) خلال السلوك المدنيّ، وتعرف بكونها حياة المتعلّمين الّتي يعيشونها في الأوقات المدرسيّة والأماكن المدرسيّة جميعها: أوقات الدرس، والاستراحة، والطعام... الفصول، والساحة، والملاعب الرياضيّة، مواقع الزيارات والخرجات التربويّة... إلخ، إذ إنّ هذه المكوّنات أو المجالات التعليميّة والترفيهيّة والثقافيّة تعمل على تنمية قيم المواطنة والمسؤوليّة وقبول الاختلاف في وجدان المتعلّم، مع مراعاة التدرّج في تمريرها وفق الجوانب المعرفيّة، والحسّيّة الحركيّة، والوجدانيّة.

هذا يعني أنّ الأنشطة المدرسيّة، سواء منها الفصليّة أي الواردة في المنهاج، أو المندمجة الّتي يساهم في تأطيرها متدخّلون مختلفون، تمكّن المتعلّم من لقاء زملائه والتفاعل معهم بمنطق المسؤوليّة وتقبّل الاختلاف، فلعلّ ترسيخ قيم المواطنة والحرّيّة في الناشئة المتعلّمة لا يكون بالتنظير والتأمّل في نصوص الفلاسفة والمنظّرين، لكن بتجريب هذه القيم في احتكاك مع وقائع وأحداث حتّى نتمكّن من قياس مدى تفاعل المتعلّم مع هذه الشعارات بصورة واقعيّة ومباشرة، وهذا هو المطلوب.

لا بدّ من لفت الانتباه إلى أنّ في الحياة المدرسيّة ما يدفع بالمدرّس إلى تفعيل نواد داخل المؤسّسة التعليميّة، إذ يمكن من خلالها أن نقوم بقياس مدى تحصيل المتعلّمين للقيم الكونيّة الحداثيّة والتراثيّة الأصيلة في ثقافتنا أيضاً. أعني بهذا ضرورة إشراك المتعلّم في بناء الدرس أو إعطائه فرصة بناء مشروعه الشخصيّ الّذي يبلّر فيه هوايته في القراءة أو الكتابة أو الرسم أو سواهما. الأنشطة المدرسيّة مختلفة ومتنوّعة: الأنشطة الرياضيّة، الأنشطة الثقافيّة والعلميّة والتكنولوجيّة، وأنشطة التربية على القيم الدينيّة، وأنشطة التربية الصحّيّة والبيئيّة، وأنشطة حقوق الإنسان. لعلّي أعدّ هذه الأنشطة المسار الحقيقيّ لتنمية الكفايات الّتي سطرتها المرجعيّات التربويّة المغربيّة كما يأتي:

- التربية على الممارسة الديمقراطيّة.

- تكريس السلوك الإيجابيّ داخل المدرسة وخارجها.

- الاستماع إلى الآراء المخالفة وعدم التعصّب لفكرة أو رأي.

- ترسيخ حسّ المبادرة والابتكار.

- تنمية سمة القيادة لدى المتعلّم.

- حسن تدبير أقوات الفراغ.

 

وبعد ذلك نقول: تعمل هذه الأنشطة الفصليّة والمندمجة داخل المؤسّسة على فسح المجال للتعبير عن قيم المواطنة ولاستقلال بالرأي والتخلّي عن الفكر الدوغمائيّ المتعصّب.

دور البيداغوجيّات الحديثة في بناء القيم

من الواضح أنّ هذه الكفايات التواصليّة والاستراتيجيّة الّتي نسعى لتنميتها في ذهن المتعلّم ووجدانه لم تكن معزولةً عن التصوّر الديداكتيكيّ والبيداغوجي لعمليّة التدريس بالمجزؤوات الّتي من خصائصها الكبرى بحسب الرؤية الاستراتيجيّة للإصلاح 2015-2030: التكامل، والانسجام، والتعلّم الذاتيّ، والتنوّع، والمرونة، وتكامل المعارف. وفضلاً عن ذلك قدرة هذا التصوّر على تعليم المتعلّم للفكر التركيبيّ كما يتحدّث عنه Edgar Morin.

لا بدّ من الانتباه إلى أنّ مفهوم الحياة المدرسيّة بهذا المعنى المتقدّم معرفيّاً وتربويّاً لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الآن إلّا بسبب أنّ المنظومة التربويّة المغربيّة تبنّت نظريّات بيداغوجيّةً متنوّعةً مثل بيداغوجيا الفارقيّة، وهي بيداغوجيا تعترف بتعدّد القدرات والمهارات لدى المتعلّمين، ولذلك كان التدرّج في تدريس مادّة الفلسفة في التعلّم الثانويّ المغربيّ خطوةً أساسيّةً لاستيعاب مهمّات الفكر النقديّ وأصوله، إذ نجد في دليل الحياة المدرسيّة إشارةً تفيد بعدم وجود متعلّمين متشابهين، ولو كانا توأمين متطابقين، ومبرّر ذلك بأن كلّ متعلّم يتميّز بإيقاعه وسرعته وخبرته واستراتيجيّته الخاصّة في التعلّم، وبذكاءاته، وميوله، ومواهبه الخاصّة، وبتوظيفه الحواسّ لإدراك العالم من حوله وفهمه.

ثمّ إنّ فكرة الخطأ وما يليه من عقاب، كما تعلّمنا بيداغوجيا الأهداف، لم يعد لها دور. حتّى وإن كان أثر هذه الفكرة سارياً في العمليّة التعليميّة التعلّميّة، فقد صار الخطأ حقّاً يدلّ على الحرّيّة؛ فهو ليس عاراً، ولا مصدراً للفوبيا من الآخر، بل وقد أضحى مصدر تقوية للمعلومة وفرصة لمعرفة مصادره ونوعه وطبيعته، فهل هو خطأ معرفيّ أو ديداكتيكيّ أو بيداغوجي؟ كما ساهمت بيداغوجيا المشكلات (الوضعيّة) في إبراز موارد المتعلّم المعرفيّة والعلميّة وكيفيّة استحضارها، في موضع إشكاليّ يحتاج إلى حلول واقتراحات لتخطّي هذا المأزق. أيضاً ثمّة بيداغوجيا الكفايات الّتي تعطي أهمّيّةً كبيرةً للمتعلّم في ممارسة التعلّم الذاتيّ. إذاً، لا بدّ من القول إنّ هذه النظريّات في التعلّم والبيداغوجيا قد وفّرت الأرضيّة المناسبة لترسيخ قيم المواطنة والحرّيّة والاختلاف في المدرسة المغربيّة.

الحياة المدرسيّة هي الفضاء الذي يتشكّل من مكوّنات ومجالات متعدّدة، لكنّها تطمح لتحقيق غرض معيّن، هو تكوين متعلّم ينعم بقيم الحرّيّة والمواطنة وتقبّل الاختلاف كما ذكرنا، لكن لتحقيق هذه القيم والكفايات، لا بدّ من تضافر جهود الكثير من الفرقاء والشركاء الاجتماعين والاقتصادين والتربويّين والإداريّين، فتكون الحياة المدرسة بمثابة مجتمع مصغّر عن المجتمع الكبير. إذ إنّ غياب هذا التعاون بين الأطراف المعنيّة سوف يؤدّي إلى تكريس عكس قيم المواطنة والحرّيّة والمسؤوليّة، أعني هنا الأنانيّة واللّامبالاة والسلوك السلبيّ داخل المؤسّسة وخارجها.

من هنا، لا بدّ أن نختم هذه الكلمة بسؤال مفارقة: لماذا نحصد الويلات والهزائم بعد كلّ هذه المجهودات التربويّة والتدريسيّة والتنظيريّة؟ هل نشير بأصابع الاتّهام إلى الذات أم إلى المرآة الّتي ترى فيها ذاتها دون أن تكون صارت حقيقتها؟ ما هي المسالك المفيدة والناجعة لتخطّي هذه العوائق والمآزق؟