دور الأدب النظريّ التربويّ في تحقيق الرفاه المدرسيّ
دور الأدب النظريّ التربويّ في تحقيق الرفاه المدرسيّ
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

مقدّمة

تثاقُلٌ كبير يشعر به المعلّم هاني عندما يحين وقت الذهاب إلى المدرسة، وعبء يسكن قلبه أثناء وجوده فيها، فهو لا يكفّ عن الشكوى من كثرة أحاديث الطلّاب الجانبيّة في حصص اللغة العربيّة، وما إن يدخل غرفة المعلّمين حتى يطلق عبارات الإنكار والرفض لهذا السلوك الذي يعدّه مشينًا، لا سيّما أنّ الطلّاب يقومون به على مدار الحصّة كلّها، ولم تُجْدِ جميع الأساليب التي استخدمها ليضع حدًّا له في سنوات خدمته العشر.

جعلت هذه السلوكيّاتُ الطلّابيّة المزعجة المعلّمَ هاني في مزاج سلبيّ، انعكس في تعاملاته مع عائلته وأصدقائه، لا سيّما أنّ النصائح التي تلقّاها من المعلّمين حول استمراره بالتحدّث والشرح ما دام في الغرفة الصفّيّة، أو ملء اللوح بالكتابة كي تمضي الحصّة والطلّاب ينقلون في دفاترهم، أو خصم العلامات لمن يتكلّم ويثرثر، أو إرسال الثرثارين إلى المدير... لم تكن مجدية في إيقاف السلوكيّات المزعجة. وقبل أن يخرج المعلّم هاني من الغرفة قال أحد المعلّمين بصوت مرتفع: الطلّاب يتحدّثون في الحصص كلّها وليس في حصّتك فحسب، فهم لا يجدون وقتًا للتحدّث مع بعضهم بسبب جدول الحصص المضغوط. سار المعلّم هاني نحو الغرفة الصفّيّة وكلام زميله يدور في ذهنه، وفي الممرّ تناهت إلى مسامعه همهمات الطلّاب، مبدين انزعاجهم من عدم اهتمام المدير بحصص الرياضة، ومن قلّة وقت الفرصة، إذ ما إن يخرجوا إليها حتّى يُقرَع الجرس ليعودوا إلى غرفة الصفّ.

انطلاقًا من هذه القصّة التي تمثّل موقفًا قد يتعرّض له أيّ معلّم فيسبّب له الإحباط، نتحدّث في هذا المقال عن كيفيّة تحقيق رفاه المعلّمين في المدرسة وشعورهم بالرضا والاطمئنان في الغرف الصفّيّة، وعن أهمّيّة رفاههم النفسيّ في توفير رفاه مماثل للطلّاب، وذلك بفهم نظريّات الأدب التربويّ وتطبيقها في معالجة سلوكيّات الطلّاب غير المرغوبة التي تحول دون تحقق الرفاه النفسيّ لأركان المجتمع المدرسيّ، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على تحصيل الطلّاب ونتائجهم الدراسيّة وسير الحصص الصفّيّة بهدوء وسلاسة إلى حدّ كبير، ولا يغدو وجود الطلّاب والمعلّمين في المدرسة سببًا لعدم شعورهم بالرضا والاستقرار النفسيّ.

 

بين مفهومي النظريّات التربويّة والرفاه النفسيّ

تشير دراسات علم نفس النموّ إلى مفاهيم كثيرة ينبغي توافرها في البيئة المدرسيّة كي يحدث التعلّم، منها السعادة، والرفاه النفسيّ، وضرورة شعور أركان المجتمع المدرسيّ بالراحة الداخليّة والاطمئنان، بمعنى أن يُقبِل المعلّم على مهنة التعليم بدافع داخليّ، وألّا يكون التعليم مصدر إزعاج له (صبري وتوفيق، 2017). ينطبق هذا الأمر على كلّ من الطالب والمعلّم والمدير بالدرجة نفسها، إذ يكون وجودهما في المدرسة مصدرًا من مصادر السعادة في حياتهما، فمفهوم الرضا النفسيّ يتمحور حول الرضا العامّ للفرد في المدرسة، والإقبال بهمّة على تحقيق الأهداف الحياتيّة بصحّة جيّدة وأداء متميّز.

يقترن إذًا توافر عنصر الرفاه النفسيّ لأفراد المجتمع المدرسيّ بضرورة تحقيق أهداف التعلّم وفق أسس نظريّة في التعامل مع الطلّاب، يتوجّب على المعلّمين والإدارة معرفتها، لأنّ تنظيم العلاقة بين أطراف العمليّة التعليميّة لا يكون عشوائيًّا أو ارتجاليًّا، بل منظّمًا ومستندًا إلى نظريّات التعلّم التي من شأنها أن توجّه المعلّمين والإدارة إلى الوجهة الصحيحة في التعامل مع الطلّاب، وأن تسهم بالتالي في تحقيق الرفاه النفسيّ والرضا الداخليّ لدى الأطراف كلّها.

هناك العديد من الأبحاث والدراسات، على سبيل المثال، التي تتناول طرائق اكتساب اللغة، واستراتيجيّات التعلّم التي تهدف إلى الوصول بالمتعلّم إلى درجة متقدّمة من إتقان اللغة في مرحلة مبكرة من مسيرته التعليميّة، الأمر الذي سيؤدّي إلى فهم الموادّ والمباحث الدراسيّة الأخرى بشكل أسهل، كما يعزّز رضا المعلّم عن أداء طلّابه ويحقّق رفاهه ورفاههم النفسيّ. ويورد Long و Freeman-Larsen (1992) ما يزيد على أربعين منحى لدراسة اكتساب اللغة وتعليمها، تتراوح بين النظريّة والنموذج والمنظور والفرضيّة، بمعنى أنّها ليست كلّها نظريّات بالمعنى المتعارف عليه للنظريّة الذي يشتمل على مبادئ ومنظّرين ومؤسّس وأدوار للمعلّمين والمتعلّمين، وغير ذلك من الخصائص والسمات التي تميّز نظريّة عن غيرها من النظريّات. 

هذه النظريّات كلّها تهدف إلى معرفة كيفيّة تعلّم المتعلّم، والوسائل التي تلائم فهم الأفراد استنادًا إلى تجارب حقيقيّة أو مبادئ فلسفيّة أو تجارب اختباريّة، وكلّ واحدة منها تركّز في أبحاثها وتجاربها على زاوية محدّدة بناءً على مواصفات خاصّة واشتراطات محدّدة، ذلك أنّ فهم كيفيّة التعلّم وفق ما تقتضيه النظريّات يعزّز رفاه المعلّم والطالب ويشبع الرضا النفسيّ لديهما في المدرسة.

 

مجالات تطبيق النظريّات التربويّة المُحقِّقة للرفاه

لعلّ تحقيق الرفاه يقترن دائمًا بمدى فهم السلوك والتعامل معه، إذ يُعرَّف السلوك، وفق النظريّة السلوكيّة، بأنّه مجموعة استجابات ناتجة عن مثيرات المحيط الخارجيّ القريب (عزيز، 2017)، وبالتالي، إذا تمّ دعمه وتعزيزه يقوى حدوثه في المستقبل، وإذا لم يتلقَّ دعمًا يقلّ احتمال حدوثه في المستقبل، وبالاستناد إلى هذا التعريف، فإنّ فهم المعلّمين لأسس النظريّة السلوكيّة يجعلهم يعزّزون السلوك الإيجابيّ الذي يظهره الطلّاب في البيئة المدرسيّة، بينما يتجاهلون السلوك غير المنتج بعدم الالتفات إليه، وإبقاء تركيزهم على نقطة التعلّم وما يريدون إيصاله إلى الطلّاب، أو تلقّي استجاباتهم حول المهمّة التي طُلِبت إليهم.

تؤدّي استمراريّة تطبيق المعلّمين للسلوكيّات المشار إليها والمستندة إلى مدى فهمهم للنظريّة السلوكيّة التربويّة إلى إدراك الطلّاب عدم اهتمام معلّميهم بالسلوكيّات غير المنتجة، واهتمامهم بالسلوكيّات التي تعزّز الفهم، بالإضافة إلى ذلك، يستطيع المعلّم أنّ يوظّف فهمه للنظريّة السلوكيّة مثلًا في ما يتعلّق بأهمّيّة النمذجة والتكرار ليعيد شرح ما لم يفهمه الطلّاب من مهمّات. وعليه، عندما يفهم المعلّم طلّابه، ويفهم الطلّاب ما يريده المعلّم، يشعر المعلّم والطلّاب على حدّ سواء بالسعادة والاطمئنان والرضا الداخليّ، ويتحقّق مفهوم الرفاه النفسيّ في المدرسة الذي تظهر ملامحه بالقبول الذاتيّ لمهنة التعليم، والاستعداد للتطوّر والتعلّم، والحرص على نموّ شخصيّة الطالب ونجاحه في التعلّم.

كثيرة التدريبات التي تقدّم للمعلّمين، وكثيرة أساليب التدريس التي يتعرّضون لها، ولكن غالبًا ما تكون نظرتهم سلبيّة تجاهها، لاعتقادهم أنّها غير قابلة للتطبيق في الغرف الصفّيّة الحقيقيّة، ولا يتحمّل المعلّم مسؤوليّة هذه النظرة السلبيّة إلّا بالقدر الذي يتحمّله المدرّب أو الجهة التي أعدّت المادة التدريبيّة، ذلك أنّها تكمن في عدم الربط المنطقيّ، أو عدم توضيح الآليّات التي تجد فيها الأفكار النظريّة طريقها إلى التطبيق العمليّ، أو عدم تبيان كيفيّة إفادة المعلّم من هذا الأدب النظريّ في التعامل مع سلوكيّات الطلّاب، أو غير ذلك من أمور لا تعين المعلّم على تحقيق الرفاه النفسيّ له ولطلّابه. لذلك، يجب ألّا يكون الأدب النظريّ التربويّ مطلوبًا للحفظ والاستظهار وتوسيع الاطلاع، وإنّما لفهمه وتوظيفه فيما يؤدّيه المعلّم من سلوكيّات في الغرفة الصفّيّة أمام التحدّيّات الأكاديميّة أو التحدّيّات السلوكيّة التي يظهرها الطلّاب، وفي المحصّلة النهائيّة لتحقيق رفاههم النفسيّ وشعورهم بالرضا والاطمئنان في مدرستهم.

لم يأتِ الباحثون بهذه النظريّات من فراغ، بل خرجوا بها بعد التجريب والتقصّي، وإن كانت نتائجها لا تعمّم على الحالات كافّة بدرجة واحدة، إلّا أنّه يمكن تكييفها لتلائم حالات الطلّاب وسلوكيّاتهم عامّة. فكلّ سلوك يواجهه المعلّم في الغرفة الصفّيّة يمكن أن يجد له حلًّا في إحدى النظريّات التربويّة، أو في قواسم مشتركة بين النظريّات مجتمعة، ففهم النظريّة بالتوازي مع توالي الخبرات ينتج فهمًا كافيًا يعين المعلّم على تحقيق الرفاه له وللطالب ولأركان المجتمع التعليميّ على حدّ سواء.

إذا بدأ المعلّم وحدة دراسيّة جديدة وخشي أن يجد الطلّاب صعوبة في فهمها أو تعثرًّا في تنفيذ المهمّات المرتبطة بها، فإنّ هذا الأمر يقلّل من رضاهم الذاتيّ وسعادتهم بالتعلّم، كما يقلّل عدمُ اكتسابهم مهارات جديدة شعورَهم بالرضا الذاتيّ. من هنا قد يجد المعلّم في النظريّة البنائيّة (عزيز، 2017) حلًّا لهذه التحدّيات، يحافظ من خلاله على درجة عالية من رضا الطلّاب الذاتيّ وسعادتهم بالتعلّم، وذلك بجعلهم يتحمّلون مسؤوليّة تعلّمهم بدمجهم في نشاطات تعليميّة قائمة على الاكتشاف والتحليل والاستنتاج ضمن بيئة صفّيّة تفاعليّة آمنة، يتعلّمون فيها من أخطائهم ويطوّرون معارفهم، بدل أن ينكبّ المعلّم على الشرح والتفسير دون أن يتنبّه أحيانًا إلى أهمّيّة ربط الطالب للمعارف الجديدة بالمعارف القديمة التي اكتسبها والتي تتطلب تنشيطًا. ولذلك، فمعرفة المعلّم بهذا الأساس التربويّ في النظرية البنائيّة الذي يقتضي تجنّب مسبّبات شعور الطلّاب بالملل وقلّة التفاعل، يجعله يحقّق الرفاه النفسيّ له ولطلّابه.

 

أهمّيّة التخطيط والتقييم في الرفاه المدرسيّ

تعدّ قضيّة التخطيط لدى المعلّمين، وقضيّة التقييم لدى الطلّاب، من القضايا التي يمكن أن تعيق تحقيق الرفاه النفسيّ في المدرسة إذا ما تمّ تناولها بطريقة خاطئة غير مستندة إلى الأدب النظريّ التربويّ، حيث يواجه كثير من المعلّمين مشكلة في التخطيط الكتابيّ، ويشعرون أنّه عبء عليهم، ويعتقدون أنّ مديري المدارس والمشرفين لا ينظرون إلى الخطط بعين الاهتمام، لكنّهم يطلبونها ويشدّدون على ضرورة تسليمها في بداية كلّ عام دراسيّ، بينما يشعر الطلّاب بعدم الاستقرار النفسيّ في الامتحانات، ويعانون من القلق والتوتّر عند اقتراب تسليم الشهادات. 

ولكن، ماذا لو كوّن المعلّمون مجتمعات تعلّم مهنيّة تجعلهم ينفّذون الخطط بشكل جماعيّ، فيتقاسمون إعداد الخطط؟ وماذا لو أجرى كلّ معلّم تنظيمًا للمهمّات المطلوبة منه قبل انطلاق العام الدراسيّ، ينفّذها تباعًا في أوقات مختلفة، بدل أن يتركها تتراكم في مدّة زمنيّة محدّدة؟ ألا يمكن أن يخفّف ذلك من عبء العمل على المعلّم، ويسهم بالتالي في تحقيق رفاهه النفسيّ ورفاه طلّابه؟ وفي ما يتعلّق بالقلق الذي يسبّبه التقييم للطلّاب، نجد أنّ إعداد المعلّمين للاختبارات وفق النظريّة المعرفيّة (عزيز، 2017)، على سبيل المثال، يدفعهم إلى وضع أسئلة مناسبة لمستوى الطلّاب، أو أسئلة تسمح لهم بأن يفكّروا ويبدوا رأيهم ويصوغوا الإجابة بمفرداتهم الخاصّة دون أن يؤدّي ذلك إلى خصم من علاماتهم، أو صياغة أسئلة ضمن سياقات اجتماعيّة يعيشون فيها، بحيث يسهل عليهم استرجاع المعلومات واستعادتها عند الإجابة، كما أنّ تدريبهم على تنظيم المعلومات ووضعها في خرائط بصريّة خشية نسيانها يوفّر رفاهً نفسيًّا لهم وللمعلّم حتّى لا يشعروا أنّ جهودهم تضيع هباءً.

 

خاتمة

نستنتج ممّا سبق أنّ الأدب النظريّ التربويّ أساسيّ ومهمّ في توفير الرفاه النفسيّ للمعلّمين والطلّاب وأولياء الأمور، وإذا كان كثير من المعلّمين اليوم لم يتخرّجوا من جامعات توفّر لهم مساقات تربويّة، فلا يعفيهم ذلك من البحث عن تفسيرات منطقيّة لسلوكيّات الطلّاب غير المنتجة، على ألّا تكون عمليّة البحث ارتجاليّة، بل مستندة إلى أساس منطقيّ وتجارب تضمن معالجته. وعليه، فتحقيق الرضا والاطمئنان لدى أركان المجتمع التعليميّ كافّة يساعد على تعلّم الطلّاب بصورة أفضل، ويضمن اندماجهم وانخراطهم بالمهمّات بشكل فاعل يسهم في تحقيق النتائج المتوخّاة.

 

المراجع

أركيبي، عزيز. (2017). الثبات والتحوّل في نظريّات التعلّم وآثارها على الممارسة التعليميّة. مجلة علوم التربية. 113-125. 

صبري، عبد العظيم وتوفيق، رضا. (2017). إعداد المعّلم في ضوء تجارب بعض الدول. المجموعة العربيّة للتدريب والنشر. 

Larsen-Freeman, D. & Long, M. (1992). An Introduction to Second Language Acquisition Research. Longma.