تنمية الخيال عبر سياقات رقميّة
تنمية الخيال عبر سياقات رقميّة
دينا موسى عيسى أبو دية | نائبة مدير مدرسة-فلسطين

نسعى في هذا المقال إلى استكشاف العلاقة الوثيقة بين التخيّل الإبداعيّ والابتكار الرقميّ من جهة، وبين ما يمكن للأطفال أو طلبة المدارس إنتاجه عبر توجيههم من جهة أخرى. نشرت اليونسكو (2006) دراسة لاثنتي عشرة مبادرة، توفّر للشباب دخولًا لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. أشارت نتائج المشروع إلى أن المزج بين الابتكار عبر الوسائط الرقميّة وغير الرقميّة منح الطلّاب حسَّ الإنجاز والملكيّة فرديًّا وجماعيًّا، وذلك بابتكارهم محتوى عبر الوسائط المختلفة، في عمليّة تنعش الخيال.

مكّنت التكنولوجيا الشباب من أفكار مثمرة لتحميل رسائل ابتكروها سابقًا إلى الوسائط الرقميّة. ومنحتهم، فضلًا عن ذلك، تواصلًا، وحوارًا، وتعلّمًا، ومشاركةً مع الآخرين. تحدّث (Lyman et al. ., 2004) عن كون الوسائط الرقميّة توفّر للأطفال والشباب فرصًا للإنتاج الثقافيّ، من خلال العرض المشترك للتجربة، وهي التي بدورها يمكن أن تخضع للتغيير أو التحرير على يد آخرين، ممّن هم في فضاء الإنترنت.

في الوقت الذي توقّفت فيه المدارس عن العمل في ظلّ جائحة كورونا، أصبح لدى الطلّاب متّسع من الوقت يمكن استثماره في تنمية خيالهم، وقدراتهم العقليّة، ومهاراتهم التقنيّة والأدائيّة. بدأت الحكاية حين عقد أستاذ الدراما في التعليم وسيم الكردي  لقاءات رقميّة تفاعليّة مع معلّمين حول مقترحات يمكن تنفيذها مع الطلّاب عن بعد خلال الأزمة، إذ كنّا بوصفنا تربويّيين نفتح حوارًا أسبوعيًّا نعرض فيه التجارب ونناقشها، ونتشارك الاقتراحات حول كيفيّة تطويرها وتحسينها. هذه البذرة كانت بداية الفكرة ودعامتها.

في الوقت الذي توقّفت فيه المدارس عن العمل في ظلّ جائحة كورونا، أصبح لدى الطلّاب متّسع من الوقت يمكن استثماره في تنمية خيالهم، وقدراتهم العقليّة، ومهاراتهم التقنيّة والأدائيّة

انضممت إلى هذه اللقاءات في المجموعة المغلقة "محاورات في سياق متجدد" على "فيسبوك". كنّا مجموعة من المعلّمين والمعلّمات نوظّف الدراما في التعليم. عملنا معًا على استلهام تجارب وأفكار تساعد على دمج الأطفال في أعمال تعلّميّة من المنزل، وتدعمهم لاستخراج مهاراتهم الكامنة وقدراتهم الدفينة، وعلى إعادة معالجة إنتاجاتهم وتظهيرها. كانت المحاورات المنتظمة تمدّنا بالطاقة للعمل، وتبعث فينا الفكرة والأمل بتغيير واقع تربويّ مملٍّ لنا وللأطفال. كنّا مدفوعين برؤية أنّنا نصنع الغد بأيدي الأطفال أنفسهم، وكلّنا ثقة متجدّدة في أنّهم قادرون على العمل، ويملكون طاقة متّقدة.

اختارت كلّ معلّمة منّا نشاطًا أو أكثر لتمارسه مع طلّابها، والتزمت بتتبّع إنجازاتهم، وبأن تُعقِّبَ عليها بما يدفع إلى التجويد والتطوير، وفتح آفاق جديدة أمامهم للخروج بمخرجات نوعيّة. اخترنا في تجربتنا التعليميّة الفنّ وسيلةً للتواصل مع العالم، وإبراز الهُويّة، والتعبير عن الذات. كان ذلك الخيار منطلقا من اعتقاد مستقرّ بكون ممارسة الفنون تمدّ الطفل بمختلف القدرات التي من شأنها أن تعلّمه مهارات حلّ المشكلات، والتفكير الناقد، والتفكير الإبداعيّ. هذه التجربة الجديدة لم تكن مجرد تجربة رسم، لكنّها عملية متدحرجة، أي إنّ النهاية لم تكن محدّدة مسبقًا.

 

مسار كرة الثلج

في تجربتنا، بدَأَت العمليّة برسومات تلقائيّة للأطفال، رسوماتٍ لا تتّبع قوانين ثابتةً، ولا تتطلّب إتقان فنّ الرسم، بل تستند إلى منطق الطفل الخاصّ، وتهدف إلى توضيح طبيعة الحياة، أو العالم الذي يعيشه الطفل. كان هدفي أن يُطلق الأطفال العنان لخيالهم، ويتأمّلوا تجارب الآخرين الفنيّة، وينتقدوها. في أثناء العمل مع الأطفال، ظهر اقتراح عرض أعمال فنيّة عالميّة وعربيّة عليهم. هكذا، تعرّف الأطفال إلى رسّامين من دول وعصور مختلفة مثل: بابلو بيكاسو، ونبيل عناني، ودينا مطر، وفايز السرساويّ، وعليّ عبّاس وهاشم حنّون.

تركنا التجربة تتدحرج على نطاق أوسع في إنتاج مجموعة رسومات أكبر بأيدي الأطفال، ثمّ عملنا على تجميعها، وتحويل المترابط منها إلى قصص رقميّة، تولّينا تطويرها، والبناء عليها بأيدٍ أخرى غير التي رسمتها. أضاف الأطفال بعد ذلك مؤثرات صوتيّة ومرئيّة ساهمت في إنتاج عمل متكامل. تدحرج الأمر إلى أبعد من ذلك، فقررنا نشر إنتاجهم عبر الفضاء الرقميّ بوصفه وسيطًا يساعد الأطفال على الشعور بالإنتاجيّة الفكريّة، والابتكار، والإبداع، ويعزّز الثقة بالنفس.

أمّا في حال عزوف بعض الطلبة عن المشاركة في الرسم، فقد أوكلنا إلى مجموعة من الطالبات تطبيق تجارب علميّة حول كائنات حيّة في بيئتهنّ المنزليّة، وقد واظبن على تدوين الملاحظات يوميًّا حول تلك الكائنات. على سبيل المثال: زرعت إحدى الطالبات بذور نباتات مختلفة بطرق مختلفة، وراقبت نموّها وبيئتها، بدءا من القطن والتربة وغير ذلك. وعملت الطالبة على تدوين ملاحظاتها، وتصوير مراحل النمو، ثم انتقلت إلى حياكة قصّة حول تلك النباتات بصورة منظّمة، وفي نهاية المطاف، قامت بتحويل تلك القصص إلى قصص رقميّة يمكن للجميع مشاركتها ومشاهدتها. توجّهت طالبة أخرى إلى مجموعة من الكائنات الموجودة في حديقة المنزل كالحلزونات، والديدان، والعناكب، وابتكرت قصّةً متّصلةً ذات معنى.

 

تأمّلات في التجربة

ربّما علينا أن ننظر إلى التعليم نظرةً مغايرةً، وأن نحاول تحويل مسار التعليم بما يتناسب مع طبيعة القرن الحادي والعشرين. تشير كرافت (2013) إلى أنّ من الدوافع الأساسيّة للإبداع في التعليم الدوافعَ الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، وكذلك التكنولوجيّة التي تعتمد عليها أغلب ممارساتنا اليوميّة في العصر الحاليّ.

إذا تحدّثنا عن الدوافع الاقتصاديّة للإبداع في التعليم، فإنّ العمل على منتجات الطلّاب وتطويرها يمكن أن يكون بذرةً لابتكارات مستقبليّة تمهّد لنهضة علميّة اقتصاديّة، أو يمكن تحويل أفكارهم إلى سلع قابلة للتسويق. إنّ تنميةَ التفكير الإبداعيّ، واعتمادَ ما يميل إليه الأطفال والناشئة من أشكال التعليم سيوفّر الكثير على قطاع التعليم، فهو يُخفّض نسبة الرسوب والتسرّب. أمّا عن الدوافع الاجتماعيّة، فمن المهم تلبية الحاجات التي تُعنى بتحقيق الذات وتقديرها، والتي صنفها (ماسلو) في أعلى هرم الحاجات الإنسانيّة. جميع الأعمال العظيمة بدأت بفكرة بسيطة، ولم تتوقف عند صاحبها، وإلّا لكانت اندثرت، ولنا في أديسون وفكرة المصباح الكهربائيّ خير مثال.

 

رغم أن للتعلّم الحرّ والتعلّم عن بعد معًا مؤثّراتٍ إيجابيةً عديدة، فإننا قد عانينا في قطاع غزة تحديّات وعقبات، يمكن تلخيصها فيما يأتي:

  1.  عدم توفّر الوسائل التكنولوجيّة لدى أعداد لا بأس بها من الطلّاب، ما صعّب مهمّة التواصل معهم.
  2. انقطاع الكهرباء لمُددٍ طويلة، وهو ما يُصعّب الوصولَ إلى الإنترنت، وشحنَ الأجهزة المحمولة.
  3. التجربة كانت أوّلية، ولم يتعرّض لها شعبنا من قبل. هذا كان له أثر سلبيّ كبير على صعيد القناعات (للمعلّمين، والطلّاب، وأولياء الأمور)، وقد أدّى هذا إلى التخبّط في التخطيط؛ أو إلى ضبابيّة الرؤية في بداية الأمر على الأقلّ.
  4. حصر التعليم عن بعد ليكون في إطار المنهاج الوزاريّ القائم، وقلّة المتوجّهين نحو تعلّمات مختلفة.
  5. تحديّات تتعلّق بضعف استجابة الطلّاب لمثل هذه النوعيّة من التعليم.

رغم ذلك، فإنّ عددًا من المعلمين تقبّلوا التجربة. ورغم ما اعتراها من تحديّات ونواقص، فهي كانت الأفضل بين الخيارات المتاحة. من المؤكد أنّ التجربة مجال لكثير من النقاشات عن جدوى هذا النوع من التعليم. ولن يكون مفاجئًا، بعد اجتياز المحنة والعودة إلى مقاعد الدراسة، حدوث تغيّرات على التوجّهات والسياسات التعليميّة. فكيف ستغذّي تجربة التعليم عن بعد التعليمَ الصفّيَّ بعد انجلاء الأزمة؟

 

أمل مستقبليّ

من الأفضل، برأيي، أن نفكّر بعد انجلاء الأزمة في إعادة النظر في منظومة التعليم ككلّ، ونحاول أن نغيّر الواقع بما يتناسب واحتياجات طلّابنا في هذا العصر الرقميّ، إذ إنّ الطرائق التي استخدمت منذ ثلاثين عامًا قد تكون انتهت مدّة صلاحيّتها لاختلاف طبيعة الحياة، واختلاف الأدوات ووسائل الاتصال والتواصل. ولديّ بعض الاقتراحات التي أعدّها وجهة نظر يمكن أن تساعد في عمليّة التعلّم التحويليّ، وهي تدور حول أربعة محاور:

 

أولاً: التعلّم القائم على المشروع بمعناه الحقيقيّ

 يواصل الطلّاب البحث عن حلول للمشكلات عن طريق طرح الأسئلة، والتكرار، إذ يناقشون الأفكار، ويتنبؤون، ويصمّمون الخطط و/ أو التجارب، ويقومون على جمع البيانات وتحليلها، ويستخلصون النتائج، ويوصلون أفكارهم والنتائج إلى الآخرين، ويعاودون الدورة بطرح أسئلة جديدة؛ لخلق منتجات جديدة من ابتكارهم. تكمن قوة التعلّم القائم على المشروع في الأصالة، وتطبيق البحوث في واقع الحياة(حايك ،2013).

 

ثانياً: رقمنة التعليم

 تلعب التكنولوجيا الرقميّة دورًا مساعدًا في عمليّة التعليم، ويمكن استخدامها في هذا الاتجاه كأداة، أو وسيلة، أو استراتيجيّة يوظّفها المعلّم أثناء التعليم، ويستخدمها الطالب أثناء تعلّمه وممارسته الفعليّة للأنشطة، وقد نتج عن توظيف التكنولوجيا الرقميّة تطبيقاتٌ عدّة، مثل: المحاكاة الحاسوبية، والألعاب الرقميّة، والبرامج التعليميّة التفاعليّة، وغيرها من التطبيقات التي تركّز على استراتيجيّات التعليم القائم على التكنولوجيا. من الأمثلة على ذلك: الصفّ المقلوب، والرحلات المعرفيّة عبر شبكة المعلومات ، واستراتيجيّات المحاكاة والتمرين، واستراتيجيّات الأنشطة الذاتيّة الرقميّة.

 

ثالثاً: تعليم الطفل كيف يتعلّم ذاتيّا

لا بدّ من تزويد المُتعلِّم بالمهارات الضروريَّة للتعلُّم الذاتيّ، أي تعليمه كيف يتعلَّم، سواءً في وقت الأزمات أو خارجها. من هذه المهارات مهارةُ التخطيط، ومهارة البحث، ومهارة التواصل، ومهارة التفكير الناقد، ومهارة التدوين والتسجيل، ومهارة التقييم.

 

رابعاً: دمج الفنون في مناهج التعليم

يمكن توظيف الفنون في التعليم بوصفها وسيلة لتحقيق الأهداف التربوية أوّلًا، والفنية الجمالية ثانيًا. وأرى أنّه من الضروري دمجها في المنهاج الدراسيّ، لا الاكتفاء بوضعها في هامش الممارسة التربويّة؛ فالأهداف التربويّة في مؤسسة المدرسة ليست تعليميّة فقط. هي تتخطّى ذلك إلى الجوانب النفسيّة، والأخلاقيّة، والجسديّة، والروحيّة، والعصبيّة، أي بناء شخصيّة التلميذ بصورة متوازنة.

 

خلاصة

الأزمة التي تعرّض لها العالم مسّت جميع مناحي الحياة، وقد دفعَنا توقفُ الدراسة في المؤسّسات التعليميّة إلى التفكير في بدائل تساعدنا، ونأمل منها تقديم خدمة التعليم للطلّاب في بيوتهم، وتنمية خيالهم عبر الوسائل الرقميّة. لقد كان عملنا مع الطلّاب استكمالًا لما دعا إليه صنّاع القرار، من إنشاء منصّات إلكترونيّة يتم من خلالها بثّ الدروس المصوّرة، وتقديمُ بطاقات تعلّم ذاتيّ مساعدة، ومن ثم التوجّه إلى التقييم الإلكترونيّ.

كيف سيكون الوضع بعد الأزمة عند العودة إلى المدرسة؟ إلى أيّ مدًى سنبقي على ممارساتنا الحاليّة؟ وإلى أي مدًى سيشيع توجّه مغاير يعمل على تعليم الطلّاب كيف يتعلّمون، وكيف يعتمدون على أنفسهم، وكيف يُقيّمون عملهم وتعلّمهم؟

 

المراجع:

- حايك، هيام (2013). التعليم القائم على المشاريع: قصص التطبيق في المؤسسات التعليمية. تم الاسترجاع من  http://blog.naseej.com/ .

- عبيدات، ذوقان؛ وأبو السميد، سهيلة (2007). استراتيجيات التدريس في القرن الحادي والعشرين: دليل المعلم والمشرف التربوي. دار الفكر.

- كرافت، أنّا (2013). الإبداع ومستقبليّات التعليم: التعلّم في العصر الرقمي. ترجمة وليد السويركي. المكتبة الأهلية.

- اليونسكو (2015). إعادة التفكير في التربية والتعليم نحو صالح مشترك عالمي. نسخة إلكترونية. منشورات اليونسكو. 9233/http://rcqe.org.

- اليونيسكو. (سنة النشر غير معروفة). إطار عمل اليونسكو لكفاءة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للمعلمين  (ARA).

https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000213475_ara

Lyman, P., Billings, A., Perkel, D., Ellinger, S. and Finn, M. (2004). Literature Review: Kids' Informal Learning. https://www.exploratorium.edu/research/digitalkids/Lyman_DigitalKids.pdf%0D